يبحث الأدباء عن مخارج وسبل لتظهير مشاهدهم المتخيلة والمفترضة، ونقل أفكارهم إلى الآخرين، بحيث أنّ تعدّد الأساليب يكفل زئبقية ما، أو مرونة في التأويل، والتملّص في بعض الأحيان، ولاسيّما في الحالات التي يشتدّ فيها التضييق على الحرّيات، ما يحتّم البحث عن سبل مواربة، تؤمّن نسبة من السلامة، وتوفّر هامشاً من التصريح، ولكن عبر الإسقاط والتأويل.

يحضر الإسقاط في الأدب كوسيلة حمائية تارة، ووسيلة هجومية تارة أخرى، ناهيك عن أنّه يجمع بين شيء من المزاح والجدّ، ما قد يؤدّي رسالته المنشودة بشكل أكثر تأثيراً. ويحضر الإسقاط الأدبيّ، والروائيّ والحكائيّ، بعدّة صيغ، يتجلّى فيها إبداع الأديب مع براعة الطرح ومرونته وتميّزه.

يمكن تذكّر نماذج في تاريخ الأدب صاغها أصحابها على ألسنة الحيوانات، لأسباب مختلفة، منها ربّما جرّاء الظروف السياسيّة التي كانوا يعيشونها، أو من باب التملّص من المساءلة والاستجواب، أو للدفع إلى رؤية الصورة البشريّة المنعكسة من خلال سلوكيات الحيوانات، ولاسيّما أنّ البشر يشعرون بالتفوّق عليها، فتراهم حين يجدون صورهم وممارساتهم من خلالها فإنّ ذلك قد يدفعهم إلى وقفة مع الذات، والاحتجاج على ما هو قائم، والسعي لتغييره.

حديثاً تنسج الكورية صن مي هوانغ روايتها "الدجاجة التي حلمت بالطيران" على طريقة ابن المقفع في "كليلة ودمنة"، وجورج أورويل في "مزرعة الحيوانات"، وذلك بإيكال السرد إلى الحيوانات وتصوير عوالمها وصراعاتها وقوانينها فيما بينها، في محاولة لممارسة الإسقاطات الواقعية على عالم البشر، وتصوير الصراعات التي تعترك فيه، وكيف أن حلم الحرية يسكن دواخل جميع الكائنات.

تعرض هوانغ قصة بطلة تتمرد على عالم محكوم بتقاليد الحظيرة، تمارس إسقاطات على كوريا التي تبدو مغلقة على نفسها، محكومة بطريقة استبدادية. تستنطق هوانغ دجاجة تسميها إبساك، تتخذ منها راوية تسرد حكايتها، وتوجز مواقفها ومعاركها مع مَن حولها، لتحقيق حلمها في الحرية والأمومة والخلاص، وتكون هذه الأمور بالنسبة لها بمثابة الطيران الذي ظلت تحلم به، ولم تستطع تحقيقه.

ترمز هوانغ إلى واقع أن حيوانات الحظيرة كانت تزعم أن الدجاجة تمردت على قوانين الطبيعة وقوانين الحظيرة، وأنها خلقت بلبلة وأخلت بالتوازن هناك، وأن عليها أن تدفع ضريبة فعلتها المشينة. حينذاك قررت إبساك ترك الحظيرة والتوجه إلى البركة، كانت أكثر تصميماً وهي تدخل عالم المجهول. تركت المزرعة وراءها، وأخرجت مخالبها، ثم أغلقت منقارها بإحكام بينما كانت تنظر أمامها بكل تصميم. كما تلفت النظر إلى أهمية عدم نسيان المخاطر التي تتربص بالمغامر في رحلته.

تتأتّى جاذبيّة الإسقاطات أكثر من كونها لعبة فنية وأدبية في أنها تثير لدى المرء ضرورة اقتفائه لأحلامه، وعدم التخلي عنها تحت أي ضغط، والتصدي لجميع محاولات تدجينه وإسكاته وإدخاله القنّ ليمارس دوراً آلياً يوكل إليه، في الوقت الذي يكون العالم أمامه منفتحاً على مصراعيه، والحرية تناديه كي يسعى إليها.

صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم