لطالما أحببت أدب السير، لما يحوي من إسقاطات واقعية على حياة كل فرد منا، تلمس فريد لروح الكاتب، التعرف على فكره والاتحاد مع قلمه ترقبًا لإصدارات أخرى

حفلت أولى مطالعاتي لأشهر وأهم من دونوا أيامهم: "الأيام" لطه حسين، في صالون العقاد كانت لنا أيام و"عاشوا في حياتي" أنيس منصور،"سجن العمر" توفيق الحكيم، "من عشرة لعشرين" مصطفى أمين، "ذكريات" علي الطنطاوي، "في بيتي" للعقاد.

"المتعة وراء قراءة السير الذاتية مثلها مثل قراءة الخطابات، مستمدة من رغبتنا الدائمة في اختراق حياة الآخرين وعدم الاكتفاء بحياة واحدة نعيشها" باتريشيا آن ماير

سيرتان روائيتان، يجمعهما القلم العربي والحديث عن الغربة، من يقرؤهما يعي تمامًا أنه في سيرة أحد ما، يبقى الوقت هو الحكاية، الوقت الملازم للمكان والزمان..

فقد أتى وقت على هيثم حسين في إسطنبول أو ادنبرة، ربما ذاته عند معجب الزهراني في الرياض أو باريس، إنما بتفاصيل مختلفة وأحاسيس متباينة تبعت الحدث آنذاك، فمن وجع الهرب والحرب، إلى غبطة التعليم والتحصيل.


"قد لا يبقى أحد- أغاثا كريستي تعالي أقل لك كيف أعيشهيثم حسين - دار ممدوح عدوان: 


عندما دونت أغاثا كريستي يومياتها راوية صورًا من حياتها وزوجها عالم الآثار في سوريا، لم يخطر لها أن يناجيها الروائي هيثم حسين بعد أقل من قرن موثقًا هجرته من نفس المدينة "عامودا" لمحطات عديدة وصولًا إلى بريطانيا باحثًا عن الأمان له ولأسرته.

"للحرب نعمها وللقدر سخرياته" التقط حسين من أحداث أراد تسجيلها حكايات "لحظات ذات قدرة خارقة على النفخ في قربة الزمن المثقوبة" فمن لحظات سعادته مع ابنتيه مرافقًا اياهما شاطئ البحر، الى لعنة الاغتراب.

"كل اللاجئين تقودهم أحلام مشتركة، تقاطع في رغبة الحصول على ملاذ آمن يمكنهم من استكمال حياتهم بعيدًا عن الموت المجاني في بلادهم"

"كل البلاد مناف بعد أن تهجر بلدك، هذه حقيقة يشعر بها اللاجئ في كل لحظة، لكن يبقى التحدي بالنسبة إليه هو كيف يحول المنافي إلى أوطان بعد أن تحولت الأوطان إلى مناف؟"

سيرة فلسفية شديدة الخصوصية يتتبع فيها المؤلف ذاته وذوات الآخرين طارحًا أفكارًا وجودية عن اللجوء واللاجئين "هل أنا كائن الحرب الذي لن يشفى من علله وجراحه"، الثقافة ودورها في لجم الحروب، كراهية العرب والمسلمين، دور الإعلام، حوار الحضارات، ومفهوم الهوية عبر سردية محكمة تتخلل مواقف ومحطات في درب اللجوء من أول التشرد بأربع مدن فالاستقرار في أدنبرة ثم لندن.

"هل يمكن تجريد المرء من ذاكرته من خلال استلاب التفاصيل والأشياء والأمكنة التي تؤثث ذاكرته و تهندسها بطريقة تراكمية؟ هل في وسع الذاكرة الاحتفاظ بشتى التفاصيل؟ أليست أشياء المرء المتراكمة في خزانته الواقعية، وخزان ذاكرته المفترض، ملح الأزمنة والأمكنة بالنسبة إليه؟"


"سيرة الوقتمعجب الزهراني - المركز الثقافي للكتاب:


"وعمن ستكتب يا صاحبي؟

عن أناي البعيدة.. أناي التي هي آخري الآن.

وكيف ستكتب؟

حينًا كما كنت أعمل في الحقل.. وحينًا كما يلعب الطفل"

وبالفعل هكذا كتب د. معجب نصه الحميمي محاولًا أن يعيد لنفسه كما وصف حياة مفتقدة، آملًا الاسهام عبرها في تعميق الوعي بتحولات جذرية عايشها جيله، من مجتمع بدا بسيطًا سمحًا منفتحًا إلى آخر اتجه نحو التزمت والتعقيد في كل شيء.

"من أنا خارج التسمية والحكاية العائلية؟ كثيرٌ ولا أحد" اقتباس يختصر الحكاية، الفتى الفلاح اليتيم الذي درس وتفوق، سافر الى فرنسا دون اتقان لكلمة فرنسية واحدة، ليعود بعد سنوات من العمل الدؤوب مديرًا لمعهد العالم العربي في باريس، أثمر خلال مسيرته الأكاديمية في الرياض "كرسي غازي القصيبي للدراسات الثقافية".

سيرة ارتحلت ما بين دفء القرية ببساتينها ومدارسها، جفاف الرياض والتفتح فيها على عوالم الفن والأدب، بصحبة عمل يدعم صعوبة الحياة في العاصمة، برودة طقس فرنسا المرافقة لرحلة تعلم شاقة في البداية لحين مشاطرة عائلته تلك الغربة بكل حيثياتها.

بان الأثر القوي لثقافة القرية البسيطة المتسامحة مقرونًا بمطالعاته التي أوصلته لمشارف التشكيك "بقيت حرًا في خياراتي ومواقفي لأن هذه الحرية الشخصية الثمينة، والتي تعود أصولها القوية إلى حياة القرية دون شك، مكنتني من مواصلة قراءات متنوعة تشبع الفضول وتثري الشخصية وتعفي الذات من المواقف والأفكار المسبقة، خاصة اذا تتمحور حول الأعمال الابداعية المنفتحة بطبيعتها على أفق انساني أوسع من أي أيديولوجيا" بينما أظهر المشهد الثقافي الزاخر في الساحة الفرنسية حبه للسجالات الفكرية.

لجأ الزهراني للكتابة إثر خيبات العودة إلى الوطن رغم تسلحه بكل الادوات المعرفية والفكرية، اذ وجدها الفعل الأمثل لمقاومة خطابات الجهل والتشدد والعنف

" التغريبة فاصلة كبرى في حياة شاب مثلي كان يحسب أن موسم الهجرة إلى الشمال مجرد رواية كغيرها فإذا بها ملحمة تختزل اشكاليات قرن ونصف”

تساءل الروائي هيثم حسين في آخر فصول كتابه " هل السيرة قيد بمعنى ما؟" "هل يتعرى الكاتب وهو يدون أجزاء سيرته أو حين يسربها في أعماله؟"

من ضفة القراءة أرى في السيرة حرية لمن يمسك القلم، تخفف من حمل ضنى أيام، وشدوٍ جراء انشراح وهناء ساعات كُثر، وما التعري إن شعر الكاتب بذلك إلا مساهمة لبلورة قناعاته، وانتاج العبر للآخرين.


#كٌتابنا_أولى_بقراءاتنا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم