لكل رواية أسلوبها، أساليب كثيرة يمكن للروائيين الاشتغال بها في سرد حكاياتهم، وفي كتابتها، سواء من حيث اللغة أو الموضوع. لكن موضوع السرد قد يصبح في أحيان كثيرة هو السيد المسيطر الذي يفرض على الكاتب الأسلوب. وخاصة إن كان هذا الموضوع واقعا صعبا مثل الروايات التي تناولت الواقع السوري اليوم. “العرب” كان لها لقاء مع الكاتبة السورية منهل السراج، للحديث عن الأسلوب المختلف الذي اتبعته في روايتها الأخيرة حول واقع الحرب والشتات، وللإضاءة على التقنيات التي وظفتها في الكتابة، وعلاقة فن الرواية بالذاكرة والمدينة.

تُهدد الكتابة الزمن وإيقاعه، وتشكل مساحة يتحرر فيها المؤلف وشخصياته من أعراف وقواعد الواقع، لخلق أزمنة مائعة، يتداخل فيها الوعي والذاكرة مع المتخيّل والحكايات التاريخيّة، لتبدو الرواية أشبه بـ”اقتباس″ من الزمن، تُرتجل قواعده أثناء الكتابة، فتفكك وحدة الواقع وتماسكه المنطقيّ.

نتلَمس ملامح التلاعب بالزمن والوعي لدى الروائيّة السوريّة منهل السراج في روايتها الأخيرة “صُراح” الصادرة عن دار “سرد”، حيث تكوينات الجُمل والفقرات في الرواية مختلفة عن الصيغة التقليديّة للجُملة العربيّة، سواء عبر ترتيب الكلمات أو البدء بفعل “كان” في العديد من الفقرات، وما يلفت الانتباه أن هذه الصيغة مُتقصّدة وتتكرر، وكأنها خيار جماليّ يغير من إدراكنا للزمن الذي تدور ضمنه الرواية.

خرق للمألوف:

تعقب السراج بقولها إن السوريين ضحّوا بكل شيء، ومن بين تلك التضحيات، التمسك بقواعد التعبير المعروفة أو المعهودة، فالكتابة لم تكن بالفعل اليسير، وقد مرّت ككاتبة بمراحل كانت شاشة الكمبيوتر فيها ترتجف للكلمة وللحرف، وكأنها كروائيّة عاشت في حرب كتابية من أجل أن تكتب.

وتضيف “مفهوم الكتابة الجمالية بالسجية يتناقض مع سلوك الحرب، ولكني فعلت وكتبت ضمن هذا المجال الخارق للأسلوب الكتابي المسيطر، كنت أقارب استطاعة المحارب وأشبهها باستطاعة الكاتب الروائي.

كما تقصّدت في بعض المقاطع أن أكتب بسخرية من كل شيء، ومرات بسخرية من القواعد كلها بما فيها مخاطر الحروب والصراعات، كنت أنظر وأتابع وأسجل ربما أكثر مما أخلق أو أبدع، أو من الممكن أن يكون الخلق والإبداع ينتشران حولي مكانيا بصورة أكثر ترتيبا مما هو عليه في الصفحة المكتوبة”.

وتتابع السراج “لم تكن تجربة سهلة، ويمكنني الآن أن أقول إنني لم أنوِ هذا، لكني فعلت وجعلت للرواية خاتمة وأرسلت العمل للنشر كنتيجة طبيعية للمرحلة، ربما كان يأسا أكثر منه طموحا أو صفاء ذهنيا، فلا يوجد روائي يستمتع بالحرب أثناء الإبداع الروائي، ولكن أن يقال: توقف الكاتب عن الكتابة، يعني أنه سيكرر الحرب مرة أخرى”.

نقرأ في الرواية عن معضلة الكتابة ذاتها، وكأن حياة صُراح بطلة الرواية تمرين على “كتابة” ما سيأتي لاحقا، كتابة لا نعرف شكلها، لكن نعلم أنها عصيّة، ما يجعلنا أمام أحجية، تحمل نوعا من الخلاص الوهميّ، وخصوصا أن صراح لا تواجه “الكتابة” ذاتها وتاريخها المنفصل عنها، بل تواجه الذاكرة والمدن وتجربتها الشخصيّة.

هنا تضيف السراج بقولها إن للكتابة الحق بأن تغير وتقلب المقاييس والمجتمعات والمدن وأن تواجه الذاكرة وأن تُرسل بعضا منها إلى الجحيم، كذلك يمكنها أن تقنع المجتمع بالقراءة ومحبة الكتاب، فالكتابة مبادرة مع الوجود أكثر مما هي مبادرة مع الأفراد أو الناس، ومبادرة مع العقول أكثر مما هي مبادرة مع الذوات، فالكتابة خرق للمألوف المراقب، ويمكن القول، إن للكتابة أسسا خاصة بالكاتب، لكنها ليست أوهاما”.

المغتربون والأماكن:

تتحرك بطلة الرواية بين المدن والأزمنة وكأنها كلها تحدث “الآن”، وكأن وعيها مهيمن على ذاكرتها طوال الوقت، كما نراها دوما تسعى للرحيل أو ترك كل شيء، فلا زمن مثاليّا لها، نسأل هنا السراج إن كانت لذلك علاقة بتجربتها نفسها ككاتبة تبحث عن الإلهام، أم بالظروف التي شهدتها، سواء في حماة أو أثناء اندلاع الثورة في سوريا، لتجيب الروائية بقولها “إن سؤال صُراح الأساسي في الرواية يخص الثقافة عند جسر رهيب، فمرات نجدها مثل راقصة الباليه التي أتخمت جمالا واكتمالا ومرات مثل مستلبة وأسيرة، كما تختلط عليها مرات صور الإلهام بأفكار الغير”.

فالسراج تعتقد بأن الإرادة تكمن في التمييز بين الإلهام الكتابي الحقيقي الجميل بمعنى أصالة اللغة والرؤية الذاتية، وبين توارد أفكار محيطة قد لا تكون إلا مجرّد أشباح دونكيشوت منفرة بتحرشاتها.

وتضيف “أمتلك مع بطلة الرواية رابطة متينة وأشترك معها في ألم ذاتي عايشتُه، فقد كان للأحوال السورية والثورة فعل سلبي أثناء العمل، وأشدد على كلمة ‘كان‘، إذ حدث أن فكرت مرات بأهمية الحذر أثناء استخدام الماضي سواء في الكتابة أو الحياة اليومية، وهذا ما جعلني أجرب أن أخترق الحواجز، وربما كانت معظم سطور الكتابة فوق ما يسمى بالخط الأحمر.

أما حماة فبالطبع لها دور وللظروف المكانية الحالية دور أيضا، أما سعي صُراح الدائم للاستقرار، فيتضح في سعيها للسفر إلى سوريا واختراق الحدود الجغرافيّة، وهنا كان السؤال، هل سوريا الداخل هي المنفى؟ هذا السؤال كانت عاجزة عن الإجابة عنه، فصُراح مثل خَرِفٍ يستطيع أن يوقف أي عابر ويسأله شيئا”.

تسمّي صُراح حماة باسمها، وباريس باسمها، لكنها تشير إلى المدينة التي تقطنها بـ”ب”، وكأن “الآن وهنا” في الرواية هامشي أمام سلطة الذاكرة ومُدنها، فهل في ذلك انعكاس على الشتات السوري؟ حكايات المدن التي تلاشى بعضها وتحولت إلى ذاكرة تهيمن أحيانا على “الآن” وتجعل الفرد في اغتراب دائم عمّا حوله.

وتعقب منهل السراج هنا بأنّ لبّ هذه الرواية هو تشتت العلاقات، والتمرين على لمّ شملها. فحماة كانت حاضرة كماض. أما باريس فهي مُجمّع سوري وثقافي أوروبي غير عادل، وقد فقدت تلك المدينة الكثير من هويتها كمدينة أوروبية ومن وفائها كمُغترَب، وتنهي السراج حديثها بقولها “باريس مدينة فقدت فيها رابعة عدي، صديقة لي وعالمة ذرة من حماة، وكَشف مصيرها قضية هامة بالنسبة إليّ، أما ‘ب‘ فلا أدري لِمَ صار المكان هكذا؟ قد يكون السبب هو اللغة، فالأبطال يعيشون في ستوكهولم، أما بالنسبة إلى موضوع الاغتراب، فهو همّ السجين، فإن حصل المرء على حريته فأيّ مكان يمكن أن يكون وطنا له”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم