بومدين بلكبير روائي جزائري. يحتل المكان في أعماله اهتمام كبير، فالحيز الضيق الذي يخصصه الروائي للمكان يجعل النص مشوها بحسب رأيه. عندما يكتب لا يتحيز إلا للإنسان لذلك كانت روايته الجديدة "زوج بغال" نسبة للمعبر الحدودي بين المغرب والجزائر والذي أدى إغلاقه إلى معاناة كبيرة بين الظرفين حاول عرضها في العمل. وقال أن الرواية الجزائرية المعاصرة قد شهدت انفتاحا كبير في حداثة موضوعاتها وتساؤلاتها.

يقول بومدين بلكبير من الاستحالة الحديث عن المدونة الروائية الجزائرية وتناولها ككل أو كشكل واحد، لأنها تتصف بالتنوع والاختلاف، هذا بالإضافة إلى تطور موضوعاتها وتساؤلاتها والإشكالات التي تناولتها مع تغير الزمن والسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ وان جاز لنا محاولة وضع تصنيف أولى، فيمكن القول أن الرواية الجزائرية في مرحلة الاستعمار الفرنسي اهتمت بدرجة مهمة بطرح أسئلة التحرر وتناولت موضوعات المقاومة، والحياة غير المتكافئة بين الجزائريين والمعمرين. ثم تلتها مرحلة الاستقلال. أيضا عرفت الرواية الجزائرية إشكالات أخرى، ولكن كان النصيب الأكبر من تساؤلاتها يصب في إشكالات بناء مجتمع عصري ومتقدم، إلا أنها وقعت في تلك الفترة أسيرة الخطاب الإيديولوجي الموالي للسلطة الحاكمة، وتحولت الكثير من النصوص الروائية إلى أشبه ما يكون بالمنشورات السياسية/الحزبية! وقد امتدت هذه الفترة إلى بداية الثمانينيات. ولفت أن الفترة الممتدة بين نهاية الثمانينيات ومطلع الألفية تطرقت فيها الرواية الجزائرية إلى إشكالات الاستبداد السياسي والعنف والإرهاب الدموي، وهي الموضوعات التي كانت سائدة في العشرية السوداء. أما بخصوص المرحلة المعاصرة فقد عرفت تنوعا وتعددا في الإشكالات والتساؤلات المطروحة وكذلك في حداثة الموضوعات المطروقة، لتعدد أجيال الكتابة وتنوع المدارس والمرجعيات. لكن ما يميز هذه الفترة في الكثير من النصوص الروائية هو طرحها للإشكالات المعاصرة من خلال الاتكاء على مساءلة التاريخ واستعادة مراحل تاريخية بعينها. كما عرفت هذه المرحلة طرح إشكالات كونية/عالمية؛ كإشكالية الإرهاب الدولي في أمريكا أو أفغانستان أو العراق، وإشكالية الهوية والعنصرية في أوروبا، والصراع العربي الفلسطيني، وإشكالية التطهير العرقي الذي حدث مع السكان الأصليين في استراليا.

الرواية تدعم التغيير

في رواية "زوج بغال" يتحدث بلكبير عن مشكلة المعبر الحدودي بين المغرب والجزائر منتصرا للجانب الإنساني على السياسي وهنا نسأله عن مدى تعمده أن تكون الرواية محايدة طيلة زمن السرد، فيقول" لم أخض في تفاصيل الخلفيات السياسية لقرار إغلاق الحدود وما سبقه من أحداث مؤلمة بين البلدين، حتى لا أغرق في إشكالية من أسبق الدجاجة أم البيضة؟ ومن الذي أخطأ أولا؟ خياراتي تلك جنبتني الدخول إلى متاهة لا مخرج لها. طبعا كلاهما (أي المغرب والجزائر) خاسر من استمرار الأزمة. لذلك فضّلت الحديث عن التفاصيل والمآسي والجراح. فضّلت الانتصار للجانب الإنساني على السياسي في روايتي. كما حرصت خلال كل فصول الرواية على الحياد والموضوعية في تناول هذا الموضوع الحساس، بمعنى: لم أُرد أن أكون بوقا لأي طرف. تناولت الموضوع بعيدا عن العصبية وعن التحيز، فأغلب النقاشات والقراءات الإعلامية التي تناولت الأزمة الجزائرية المغربية تقع للأسف عن قصد أو غير قصد في فخ التحيز والانتصار إلى وجهة النظر الرسمية للحكومة التي ينتمي إليها صاحبها. ولما تقرأ المقالات في الصحف المغربية أو الجزائرية (الرسمية أو المستقلة)، ليس بإمكانك أن تفرقها عن بيانات وزارتي خارجية البلدين". يشير بلكبير أن روايته "زوج بغال" قادرة على المساهمة في دعم التغيير، وهي إذ ذاك تساهم بدرجة أكبر من غيرها (مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى)، نظرا لحساسيتها ولقدرتها على تناول مواضيع شتى، هذا بالإضافة لما تعرفه من قبول وانتشار واسع بين مختلف فئات المجتمع دون استثناء. لا أخفيك سرا إن قلت لك:إن ما طرحته في رواية "زوج بغال"، يدخل في إطار محاولة إذابة جبل الجليد في العلاقات بين البلدين (المغرب والجزائر)، وكمساهمة في ردم هوة الصراعات والنزاعات التي لا مبرر منها. أردت أن أقول من خلال هذا العمل أن ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا؛ تاريخ مشترك، عادات وتقاليد واحدة، اللغة نفسها، الثقافة مشتركة.

رواية "خرافة الرجل القوي"، تدور أحداثها في أربع مدن، أسماء الشخصيات والشوارع حقيقية، هل يمكن القول أن الرواية توثيقية؟ فكان رده: الرواية لم تخن أدق تفاصيل الناس وخصوصية الأحياء والشوارع. الأمكنة وتفاصيلها في هذه الرواية حقيقية ( سواء في باريس أو في شارلوروا البلجيكية أو في قسنطينة أو عنابة). في حين أن الأحداث والشخصيات وأسماءها كلها متخيلة، لكنها غير منقطعة عن الواقع. ومع ذلك يمكن القول أن الرواية (إلى حد بعيد) بمثابة منجز توثيقي لفترات تاريخية محددة، أو لإشكالات وموضوعات تعبر عن حاجات ورغبات واهتمامات الناس والمجتمعات في أمكنة بعينها، أو تعبيرا عن حالات وتقلبات وخصوصيات اثنية أو دينية أو لغوية أو نفسية. وإذا عدنا للرواية نجد السبب الجوهري الذي يدفع بطل الرواية "جواد زهري" إلى اتخاذ قرار السفر إلى بلد أجداده (الجزائر)، ليس بحثا خلف هوية سليم المهاجر غير الشرعي الذي وجد مقتولا في حديقة بمدينة شارلوروا البلجيكية، كما يبدو في ظاهر السرد داخل الرواية، بل بحثا خلف ملء ذلك النقص الذي ولد معه ورافقه منذ الطفولة، بحثا خلف تلبية تلك الحاجات غير المشبعة، وإسكاتا لصوت الألم والحرمان، بحثا عن هويته المتشظية، عن وطنه المفقود! فالفرد يفقد إنسانيته تدريجيا إذا بدأ في التجرد من حاجاته الأساسية، وتوقف عن الإنصات إلى ما بداخله. فبطل الرواية يعيش غربتين:غربة الوطن وغربة الغربة، فلم تطأ قدمه أرض وطنه الأم (الجزائر) منذ ولد بفرنسا لأب جزائري وأم فرنسية، وصورة الوطن عنده تتجسد سوى فيما تبقى له في الذاكرة مما رواه له والده (رحمه الله).

الرقيب الداخلي

الكتابة بالنسبة لضيفنا هي رديف الحرية، ويضيف: "حينما أكتب أحاول قدر الإمكان التحرر من كافة الإكراهات والتابوهات. وفي سبيل ذلك أتمرّن باستمرار على عدم الخضوع إلى الرقابة الذاتية، رقابة الكاتب على نصه قبل أن يصل إلى المتلقي أكبر خطر في اعتقادي يتهدد الإبداع في جوهره ويفقده جدواه، كما أحاول أن أتحرر أثناء مرحلة الكتابة من رقابة المجتمع ورقابة السياسي، حتى أمنح لنفسي الحرية الكافية للخلق والإبداع، وأتيح لأعمال ونصوصي المبررات والمسوغات التي تجعلها قادرة على الوجود والبقاء والاستمرار مهما تعددت المجتمعات أو تطورت، ومهما استمرت أو تغيّرت الأنظمة السياسية الحاكمة. كما أسعى جاهدا أثناء الكتابة في احترام القيم الإنسانية وعدم الاستهانة بالمعتقدات الدينية، وبذلك أنتقد الممارسات والسلوكيات التي تنجر عن التأويلات البشرية الخاطئة والمتخلفة والمتحنطة والطينية، من دون المساس بجوهر وروح المعتقد والدين في حد ذاته". يرى صاحب كتاب" النص الأخير قبل الصمت" أن الاشتغال الظاهر على المكان في رواياته له مبرراته، إذ هناك العديد من الأسباب الموضوعية والذاتية على حد سواء، أولها أنه مهتم بأدب الرحلة، ويكتب بانتظام استطلاعات حول المدن (بمختلف الدول) نشرت بمجلة العربي، ومجلة رؤى الثقافية. وثانيا لأن الرواية الجزائرية المعاصرة في عمومها أغفلت المكان عن قصد أو غير قصد، عدا بعض الاستثناءات. فذلك الحيّز الضيق الذي يخصصه الروائي للمكان، وعدم اكتمال تأثيث المكان في تلك الإعمال الإبداعية، جعلها تخرج مشوهة فنيا وغير مكتملة سرديا، الشخوص في تلك النصوص باهتة وغريبة ولا رابطة لها داخل النص، كأنها تدور في الفراغ!

يوضح بلكبير أن هناك تهافت ملحوظ -خصوصا في العقد الاخير- على استرضاء القارئ وكسب وُدّه، فقد أظهرت لنا وسائط التواصل الاجتماعي بما لا يدع مجالا للشك، كيف يتهافت أغلب الكتّاب على القراء. وإن صرح بعضهم بأن القارئ لا يعنيهم، أو إن ادعى البعض الآخر بأن ما يهمهم من العملية الإبداعية هو تحقيق متعتهم الذاتية بمعزل عن المتلقي! فالصور المتطايرة والمنشورات المتنامية حول ازدحام القراء في طوابير لإقتناء أعمالهم الإبداعية، ونفاد نسخها من المكتبات أو عن توالي عدد الطبعات وإعجاب القراء ورضاهم عن منجزهم الإبداعي، كلها تصب في ذلك الحيز الكبير الذي يعطيه الكاتب للقارئ، حيث قد يتحول مع الزمن هذا الاهتمام المتصاعد بالمتلقي إلى درجة من الهوس المرضي، ما يؤثر فيما بعد بطريقة سلبية على النتاج الإبداعي وعلى جودة النصوص الأدبية. ويتابع: فيما يخصني، فالقارئ حاضر في ذهني في جميع مراحل الكتابة (قبل وأثناء وبعد الانتهاء من الكتابة)، ولكن بتفاوت في كل مرحلة؛ حيث أستحضر المتلقي منذ تصوّر فكرة النص الروائي والتفكير في كيفية بنائه وهيكلته وتأثيثه، من خلال الافتراض بأن القارئ ذكي ويجب احترام عقله ما يضعني أمام مسؤولية مضاعفة في أخذ الوقت اللازم قبل الكتابة إلى أن تختمر الفكرة وتنضج أكثر على نار من الصبر، والتأمل والشغف. فالتفكير في الكتابة قد يأخذ بالنسبة لي حيزا كبيرا من وقتي قبل البدء في كتابة أول كلمة. كما يحضر القارئ في ذهني لحظة الشروع في كتابة العمل، إذ تجدني أحاول جاهدا أن أبتعد عن التصنّع والاستعراض والتكلّف، أختار الكلمات البسيطة والواضحة وغير المعقّدة، كما أجتهد وأتعب وأتعذّب وأحذف وأضيف في سبيل الأهتمام بجوهر النص ومضمونه، متجنبا قدر الإمكان الاعتناء المفرط بظاهر النص والشكل والتصنع في استخدام اللغة الشعرية وتوظيف البلاغة الزائدة. أما بعد إتمام الكتابة ونشر العمل الإبداعي أحرص على أن أعرف رأي المتلقي ومتابعة الآراء الناقدة، مع إيماني الراسخ بأنه حالما يصبح النص بين يدي القارئ فلا سلطة لي على الآراء المتنوعة والتأويلات المتعددة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم