أسس الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل لنفسه مكانة بارزة في تاريخ الرواية الكويتية والعربية عبر عقود من الكتابة المتواصلة أنتج خلالها أكثر من أربع وعشرين رواية، ثابر فيها على التجريب وارتياد مناطق بكر وملغومة كل مرة. قدم الأب الروحي للرواية الكويتية روايته الأولى "كانت السماء زرقاء" في بداية سبعينيات القرن الماضي، وقبلها كتب مجموعته القصصية "البقعة الداكنة" لينسج مسيرة إبداعية متفردة ويمنح للقارئ عمرا من الكتابة.

يرى الكاتب الكويتي المخضرم أن إصراره على التجريب جعله غير معروف بالقدر الكافي لدى القراء العرب، ولا يخفي سعادته بالوصول إلى القائمة الطويلة لجائزة للبوكر، ويعتقد أن الأقلام الشابة هي الأجدر بالتتويج بالجائزة.

خصص صاحب "إحداثيات زمن العزلة" روايته الأخيرة "في حضرة العنقاء والخل الوفي" لمعالجة أوضاع فئة الـ"بدون" في بلده وما خلفته من تأثيرات في بنية المجتمع، ويريد من خلال وصول روايته إلى قائمة البوكر أن يلفت الأنظار لهذه القضية. الجزيرة نت التقت الروائي إسماعيل فهد إسماعيل فكان الحوار التالي:

إذا بدأنا بعنوان روايتك، يستحضر المتلقّي المستحيلات الثلاثة "الغول والعنقاء والخلّ الوفي"، إذ يحضر فيه اثنان من المُدرجين ضمن المستحيلات الثلاثة ويغيب الثالث "الغول".. أين يتمثّل الغائب المستحضَر في المتن؟ وكيف؟

  • أن تأخذ المثل المتوارث منذ العصر الجاهلي بمحاولة لمنحه معنى مفارقا. لم أشأ استبعاد الغول بصفته، لكنه حاضر بوصفه نظاما سلطويا أو اجتماعيا لا فرق. العنقاء هي حالة الاستحالة المتجددة على ذاتها بالهيئة والصيغة، كما هي حال الانبعاث من الرماد، بما يعني توق الوصول لانتماء حقيقي، هو في الوقت ذاته حكم استحالة وإن توالت الوعود الكاذبة، يعادلها من جانب آخر سن المزيد من قوانين تحكم خناق مواطنين كويتيين من فئة الـ"بدون" بما يحرمهم فرصة الاستقرار أو الاطمئنان.

أما عن المعادل الثالث للمستحيلات وأعني به الخل الوفي، أردت توخي عنصر التضاد، لتكون محصلته متسقة مع الوفاء بمعناه، حيث التحقق الإنساني عبر مفهوم الصداقة، بعيدا عن مواقف ما هو رسمي.

بطل روايتك "منسي" له كغيره من شخصيّاتك من اسمه نصيب، يشير إلى مجهول الأب ومغبون الحق في الوقت نفسه، هل أردت في تناولك لهذه الحالة الواقعيّة/ الرمزية إعادة الاعتبار للهامش عبر رفع الحيف عن كواهل هذا المنسي وأشباهه أم ذرّ الملح على الجرح لاستنفار الطاقات وتدارك المأساة؟

  • سمّيناك "منسيا" لكي ينساك الموت. ذلك هو جذر اسمه كما فهمه عن أمه، لكن دلالة الاسم تعني نسيانا آخر، هو موجود بحكم مواطن عليه ما عليه من واجبات لكنه ساقط من سجلات السكان، وكأنه رهن غيب مُدرك رسميا، بما يعني حرمانه من حقوق مواطنية تتوجب له أسوة بغيره. تلك هي حال فئة الـ"بدون" ممن يعيشون كويتيين شعوريا غرباء قانونيا، يصنفون مقيمين بصفة غير مشروعة، مخالفين لقوانين إقامة الأجانب، حتى وإن كانوا هم وآباؤهم أو أجدادهم مولودين هنا في الكويت.

أفهم أن معضلة فاقدي الهوية موجودة حول العالم، الحال هنا معضلة تتوالد على نفسها، تشكل نسبة سكانية تكاد تلامس سقف 20% من السكان الكويتيين، مثل هذه النسبة تمثّل، حسب رأيي، قنبلة موقوتة تترصد الأمن والسلم الاجتماعيين في بلد محدود المساحة، عدا عن لا عدالة قوانين بهذا الخصوص.

تعالج في روايتك مسائل من قبيل الانتماء والولاء والهوية والاغتراب والنفي داخل الوطن، واستلاب الكينونة وتهميش شريحة من الناس.. ألم تجد صعوبة في نسج هذا التداخل بين الإشكاليات وترجمتها روائيا؟

  • تعود فكرة كتابة هذه الرواية إلى ما قبل حدث الاحتلال عام ١٩٩٠. خلال أشهر الاحتلال أثبتت أغلب الـ"بدون" أنهم كويتيون رغم أنف قوانين نافية لهم أو لوجودهم، حيث انخرطوا في المقاومة الكويتية، وكان منهم الأسرى والشهداء، ولأني رابطت داخل الكويت في ذلك الوقت توفرت لي فرصة الرصد، كما رافقت مسؤولين كويتيين متخفين أيامها، وسمعت منهم وعودهم لشباب الـ"بدون" المنتمين للمقاومة. أنتم كويتيون لكم حق المواطنة كاملة عند تحرير البلد.

وعودٌ بدت صادقة، حتى إذا ما جاء التحرير تلاشت الوعود، وبدأت محاربة الـ"بدون" بصفتهم ورما خبيثا يستدعي استئصاله، أنت غير كويتي عد لبلدك، أو احضر وثائق انتمائك لبلدك الأصل. حرب كانت قائمة قبل حدث الاحتلال هدأت خلاله لتعود بعده أشد مرات.

الأمر الثاني طلب أو اقتراح تقدم به أحد أهم الشعراء الكويتيين الـ"بدون" وأعني به دخيل خليفة، لما ارتأى لو أخصص شهرين أعيشها وسط حي فقراء الـ"بدون" في محافظة الجهراء، بقي طلبه حبيس القلب ريثما فاجأني أحد أشقائي (وهو قاض) سلمني ملف قضية ملفقة راح ضحيتها أحد الـ"بدون" كل جريمته أنه تزوج شابة كويتية إثر قصة حب.. هذه العوامل مجتمعة حفزتني لأكتب، لأعاود الكتابة مرة ثانية وما يشبه مرة ثالثة، لحين استقرار النص الروائي على صيغته الأخيرة. يبقى أن الحافز الأساس جاء انطلاقا من واجب مواطنة.

تطرح روايتك أسئلة إشكالية بشأن رسم المصائر واختيار الحيَوات، بين ما يريده المرء لنفسه وما يراد له ويقيد به، أي هناك طرح فلسفي يبحث عن إجابة.. هل حرصتَ على تقديم أية إجابات أم شرعت باب التساؤل والبحث والاجتهاد..؟

  • لا أخالني أجانب الصواب لو قلت: "القارئ أوسع أفقا وأكثر ذكاء من الكاتب" بما يستدعي الأخير أن يكون حريصا، لا يلعب دور الملقن أو المعلم الناصح. وسط افتراض أهلية القارئ يتوجب على الكاتب أيضا ألا يلجأ لتدبيج منشورات تحريضية أو أيديولوجية تنافس أصحاب المبادئ من السياسيين أو الحزبيين.

لمّا يضع الواحد نصب وعيه أنه يخاطب قارئا نبيلا نبيها في الوقت ذاته، يلزمه احترام ذكاء شريكه، ولأنه شريكه يتوجب تحقيق فسحة مشاركة في كتابة العمل، وبعكسه لا توجد فراغات وسط المعاني تقتضي إشغال الذهن بمعالجتها، القارئ حسب رأيي يعيد كتابة النص خلال تلقيه له.

يبقى واجب الاعتراف: لا كتابة مسؤولة من غير أيديولوجيا متخفية وراء المعاني، بيد أن أيديولوجيا متسقة مع موقف الكاتب شأن اتساقها مع الظرف الموضوعي ستكون مادة حوار داخلي لدى القارئ المعني، دون خدش لذكائه أو مساس بمشاعره.

كتبت العديد من الروايات (أربعا وعشرين رواية)، ما الجديد الذي أضافته هذه الرواية إلى تجربتك الروائية الثرّة؟

  • لا أدري إن كان الكتاب يتشابهون بمواقفهم من نتاجاتهم. فيما يخصني، يكون الكتاب قريبا مني ما دمت أشتغل عليه، ما دام خاضعا للتعديل بالإضافة أو الشطب، فإن تحول مطبوعا متداولا صار مشاعا، انصرفتُ عن الاهتمام به للعمل على غيره، بعد فترة نقاهة طبعا.. بخصوص ميّزة أو إضافة ذاك أمر يتصل بالمتلقي إن لمس أمرا ما جديدا.

ما أجزم به أني أنتمي للتجريب، منذ أن بدأت الكتابة الواعية قبل أكثر من نصف قرن. لعل إصراري على مزاولة التجريب هو الذي جعلني غير معروف لدى عامة القراء العرب. الكاتب الذي لا يستقرّ على أسلوب لا يستقر له قراؤه، يبقى الاعتماد على متلقين نوعيين.

هناك أمر يلزمني الاعتراف به: خلال السنوات الخمس الأخيرة صادفني هوس قراءة مؤلّفات الكاتب البرتغالي جوزية ساراماغو، لعلك تجد صداه أو صدى أسلوبه في الكتابة من خلال قراءة في حضرة العنقاء..

ماذا تعني لك اختيار روايتك ضمن البوكر، ولا سيما أنّك من الرواد في الرواية الكويتية، وحجزت لنفسك مكانة في الرواية العربية؟ وهل تعتقد أن فوز رواية كويتية في الدورة السابقة للجائزة قد يحول دون تتويج روايتك؟

  • مشاركة روايتي في البوكر كانت طموحا راودني بعد مشاركة الشاعرة الكويتية سعدية مفرح في قراءة المخطوط وإبداء توجيهات سبقت الكتابة الأخيرة، إضافة لتشجيع وتمنيات الروائي الشاب صاحب البوكر الأخيرة سعود السنعوسي.

فيما يخص مسألة الفوز.. بدءا، كان الحلم أن تأتي روايتي ضمن القائمة الطويلة، تحقق حلم أول، حل دور حلم ثان، أن تصعد الرواية إلى القائمة القصيرة، ذلك يكفي لأداء لفت الأنظار لقضية "البدون" إلى جانب زيادة تسويق الكتاب. الجائزة -كما أرى- يحسُن ذهابها للكتابات الشابة، الأصوات الصاعدة أجدر بالمكافأة والانتشار، دون تخطي مسائل الجودة وجرأة التجريب.

المصدر : الجزيرة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم