سردية جيلية تحكي سيرة عائلة "الكتبخاني" في سياق نشأة العراق الحديث، وتُعلي شأن رؤيا الخلاص الفرديّ. عن دار المدى صدرت حديثا رواية "عشاق وفونوغراف وأزمنة" للروائية لطفية الدليمي ب590 صفحة بعد بضع سنوات من صدور روايتها "سيدات زحل" التي لاحقت الوجع العراقي عبر العصور حتى عام 2008 من وجهة نظر السردية الأنثوية.. تختلف الرواية الجديدة اختلافاً نوعياً عن الأعمال السابقة للكاتبة؛ بدءاً من ضخامة حجم العمل مع تعدد مستوياته وتميز لغته بوضوحها الرصين ونغمتها الموسيقية اللافتة وتفرد أسلوب السرد وتعالق أصوات الرواة على امتداد الأزمنة. يكتشف القارئ وهو يمضي في قراءة الرواية أنه إزاء روايتين متداخلتين تحكيان عن فترات زمنية متعاقبة من سيرة عائلة "الكُتُبخاني": رواية أولى تجري وقائعها في عراق بدايات القرن العشرين في حقبة أفول الهيمنة العثمانية وانحلال الامبراطورية وفترة الاحتلال البريطاني وتشوش الأوضاع وتداخل المصالح وتضاربها، ورواية ثانية تلاحق سليلي تلك العائلة في حقبة ما بعد الاحتلال الأمريكي 2003 وتشكل الوقائع العامة إطارا خارجياً يحتضن حيوات الشخصيات. يمكن وصف "عشاق وفونوغراف وأزمنة" بأنها رواية "جيلية" تروي أحوال أربعة أجيال من عائلة متنفذة كانت عونا للمحتلين الذين تعاقبوا على العراق طوال أكثر من قرن وحازت على الثروة والجاه وتصدرت مواقع سياسية واجتماعية في كل عصر . تعتمد الرواية الجيلية هنا أنماطاً روائية مختلفة فيمكن توصيفها من جانب آخر بأنها رواية ذات نزعة "معرفية" عملت على تطويع كمٍ كبير -من المعلومات العلمية والفلسفية والفنية للمتطلبات الروائية المحسوبة بدقة دون إخلال بسلاسة السرد الروائي ومتعة التخييل، ما أثرى العمل بتفاصيل تأريخية ومجتمعية واقتصادية وعلمية عززت السرد المركّب المشحون بدراما الوقائع والحروب والعلاقات الانسانية المعقدة، وكشفت عن أوضاع المجتمع العراقي القلقة وتناقضاته والعوامل الأساسية الكامنة التي أفضت إلى هذا الخراب العراقي المستديم في حاضر البلاد.. يمثّل "صبحي إسماعيل الكتبخاني" الشخصية المحورية في الرواية الأولى التي تقوم على مدوناته الشخصية واعترافاته، ويمكن النظر إليه باعتباره مثالاً "ليبرالياً" نموذجياً تأثر بالفكر الأوروبي واجتهد قدر استطاعته ليحقق تمرده على التقاليد المتزمتة مقتحما عالم الحداثة في ملاحقة الاختراعات الحديثة والشغف بالعلوم والموسيقى والنساء، وتكشف مذكراته عن طموحات شاسعة وسعي متواتر لتحقيق حلمه بتغيير نمط حياته وواقع المجتمع البغدادي البائس الراضخ تحت الهيمنة العثمانية، وتحقيق بعض أحلامه وتطلعاته بتحرره من هيمنة الأسرة وسفرهِ الى "الأستانة" للدراسة واكتساب الخبرات. متعة التخييل الروائي: تكشف الرواية عن تواشج مكونات المجتمع العراقي وتنازع القوى الطامعة والتزاوج المدنس بين المال والسلطة والأهواء الشخصية في سياق تشكل متسرع لدولة العراق الحديث الذي شاء الاحتلال الانكليزي أن تكون صناعة بريطانية خالصة تضمن مصالحه وسيطرته على امتداد الشرق كله. تشكل قصص العشق هيكلا أساسيا للرواية تتصاعد وتنمو الصراعات والتوافقات خلالها على امتداد أجيال عائلة الكتبخاني منذ مطلع القرن العشرين حتى سنة 2014 وتتوهج بينها على نحو متفرد قصة العشق المثيرة بين "صبحي الكتبخاني" والمغنية "بنفشة خاتون" التي تروى سيرتها بعض تاريخ العبودية في رحلة سحرية مشبعة بلذة التخييل الأسطوري المتماهي مع أساطير العشق المشرقية بمفاجآتها وغرائبها ضمن توظيف بارع يتضافر فيه الميتافيزيقي والواقعي مسرودا بلغة سلسة تتناغم إيقاعاتها الموسيقية مع تصاعد الحوادث في موازنة دقيقة بين اشتراطات الواقع ومتطباته الصارمة ومتعة التخييل الروائي. تمثّل "نهى جابر الكتبخاني" الشخصية المحورية في الرواية الإطارية المعاصرة وتعمل على تحقيق مذكرات الجد التي لا تكتمل إلا بتواشج وقائعها مع قصة العشق بينها وبين نادر: عاشقها المهووس بالفيزياء والعلوم. وفي الوقت الذي تجتهد فيه الرواية لتأصيل أسباب الخراب العراقي على المستويين الفردي والجمعي، وفي سياق التناول الروائي لجوانب محددة من نشأة الدولة العراقية ، فإنها تنتهي إلى تأكيد أهمية الخلاص الفردي وأسبقيته على كل الاعتبارات الأخرى. يأتي هذا العمل كإضافة نوعية مميزة للكاتبة لطفية الدليمي التي أنجزت في مسيرتها الطويلة ما ينوف على الخمسين كتاباً في حقول الرواية والقصة القصيرة والترجمة والدراما المسرحية والإذاعية والدراسات الفكرية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم