أردت أن أكتب قصة البشر كلهم في رواية واحدة".. هكذا فكرت، كيف كان العالم سهلا للاختزال عندي إلى حد أن أطويه في نص أضعه عندي رأسي قبل النوم مغتبطا أو متخففا من كل شيء؟ ربما أحببت أن أرسم خريطة واحدة للألم، للصراع، للمشاعر المختلفة، للرسالات.. كان طموحا معقولا وواقعيا في نظري قبل أن أمسك بالقلم وأحاول أن أخط به على الورق أولى ملامح الحياة من أولها لآخرها.. كان يرافقني هذا السؤال: ما الذي لم يكتبه من سبقك وتريد أن تكتبه أنت، ما الذي بقي في الظل ينتظر أن تعرضه للآخرين؟ بل أكثر من ذلك، تريد أن تُجمِله في حكاية واحدة؟ قرية معزولة يعيش أهلها على الزراعة، يسقون أراضيهم من نهر صغير، رجل من أعيانهم يسافر مقهورا ويعود غنيا ويتولى حكم القرية، يتحالف مع كبار الملاك، وفي القرية شاب نشأ يتيما يرعى أمه، يحب فتاة من المدينة ويعجزه الفقر، يكون صوتا للحق ويتصدى للفئة الباغية (هل فكرت حينها أنه قد يكون مجرد مغامر أو طامح يطلب بالحق ما سيراه الناس في الغد القريب باطلا عندما يقهرهم كما فعل من سبقوه؟ يجب أن ألتزم الصدق وأقول إني لا أذكر)، تخونه الظروف ومشتقاتها: تمرض والدته وتموت، يخطب الرجل الذي عاد مظفرا وحكم القرية المرأة التي أحبها هو، ويتجبر عليهم أكثر. الطمع، الصراع على الموارد، السلطة، الخيبة، الانكسار، الحب، الخيانة، الفرح، الخذلان والآلام العميقة.. تقريبا هذا كل ما أذكره من الحكاية التي أردت أن أختزل فيها كل شيء، غالبا لم أضع لها عنوانا نهائيا، وبقيت مخطوطا، ولم أفكر حتى بأنها تصلح للنشر أم لا، ثم ضاعت في الزحام. بعيدا عن القراءات والبحث في التاريخ والفكر ومعها تخصصي الأكاديمي (إدارة الأعمال) والسّيَر خاصة، وجدت شيئا مبهما بداخلي يدفعني للسرد، وأمي كانت ساردة جبارة أعادت عليّ في ليالي طفولتي سيرة جازية وذياب الهلالي وغيرها من "المخارفات". وتعلمت أن الكتابة عن الإنسان شاقة بقدر ما هي ممتعة، وأن التقاط التفاصيل الصغيرة وحفظها من النسيان الجاحد أصعب من معالجة القضايا الكبيرة، الإنسان كومة من التفاصيل. في البدء بدت كل الصور واضحة في ذهني لأعيد رسمها بسهولة، وكل الأشواط سهلة لأقطعها في نفس واحد، تكفي أن تكون الرؤية جيدة، والانطلاق بخطوات كبيرة حتى أصل.. ثم ما لبثت أن عرفت بأن اختزال الحياة والبشر وما يربطهم وما يفرقهم صعب جدا تماما مثلما هو التفصيل في كل ذلك.. ما أبعد البدايات! لم تكن سوى سذاجة البداية، كم أنا مدين لسذاجة البدايات، ما زالت تعلمني أن أكتب كأن أحدا لم يكتب قبلي حرفا، ثم أفقد الإيمان بكل ما دونته كأنه محض ثرثرة لا أحد سيثقل على خاطره بها.. وأكتشف بعد تلك المراوحة أن إعادة إنتاج ما يدور حولي أو جزء منه، سرديا، تستدعي أولا أن أعرف، في كل مرة، كيف أعاد الآخرون إنتاجه في الآداب والفنون إجمالا، وأجتهد في أن يكون ما أكتبه في كل مرة عميقا وممتعا ومختلفا. هذا شيء من رواسب البدايات. ما زلت أخجل مما أكتب، قد لا يعجب أحدا، هكذا أضمر القول في نفسي دائما، أخفيه وأراجعه مرات ومرات..أعود فأعتذر، مثل طفل مسكون بالمثالية، لنفسي وللحياة وللإنسان الذي تيقنت أخيرا بأن اختزاله مستحيل، ، وأقول بأني لست ساحرا لأخرج من يدي وردة تفوح أو طاقية تخفي هذا وتُظهر ذاك، إني أكتشف ذاتي وحسب، أتطهر نيابة عن الآخرين، أو أعاقب بعضهم بجرم بعضهم الآخر. في الطريق إلى النص المنشود أجدني أكثر تعلقا بالتفاصيل المنسية، بأشخاص عالقين على رصيف الحياة الضيق، يحلمون مثلي في كل يوم بالعودة إلى سحر البدايات حيث كان العالم -مثل الحلم- سهل الاختزال.. حينها يمكنني أن أتوسده متخففا من كل شيء.

كاتب ورائي جزائري صدرت له مؤخرا رواية بعنوان -إختفاء السيد لا أحد-

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم