عبد الواحد كفيح *

كتبت نصوصا قصصية طويلة وأدمنت على ذلك منذ نهاية السبعينات، وجعلتها ملّتي وعقيدتي الإبداعية، معتقدا- مع سبق الإصرار والتعمد- أنني لن أحيد عنها يوما ولا أبغي عنها عوجاً ولا حولاً، ولن أخونها أبداً. وفيما أنا ماضٍ في متعي القصصية، ألفيت نفسي أكتب نصوصا بنفس طويل جداً، وهي كثيرة بالمناسبة، ولما حان موعد الخيانة العظمى والردة الكبرى، وقعت لي حادثة توجيه مروعة أودت بي إلى فيافي الرواية حينما وجدتني، مع بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، مرتميا في أحضانها، أكتب بفيض سردي دافق غني ثرّ، وذلك بتحريض من صديق مبدع وناقد جميل حميد ركاطة – الذي أغواني بسبر أغوار الرواية بتجريب لعبة الدمى الروسية، حيث الحكي في الحكي، والسرد يتخلق من السرد.


أعترف أنني ما سعيت يوما للانتساب لطائفة الروائيين، ولم أسعَ أبداً لهجر أوطان إمارة القصة طالبا اللجوء السردي إلى ممالك الرواية، وأنا الذي عُرِفت بين زملائي المبدعين، مبشرا بمستقبل واعد للقصة، أعقد لها الندوات والورشات في المدن والأرياف للناشئة كما للكبار. لكن أعترف أنني لما استوطنتني شخصيات مقاهي المكسيك الأسطورية كفرت بكل نبوءاتي وتنظيراتي وتوقعاتي. وبين صبيحة وضحاها، أدرت ظهري لزملائي، من نسّاك الإبداع في محراب القصة الذين عاهدتهم على الوفاء لهذا الجنس وألا أبدل تبديلا. ولما بدأت تتبلور لدي فكرة خوض غمار تجربة كتابة رواية، تأبطت مع سبق الإصرار والتعمد حاسوبي ومسوداتي ورقعي وأقلامي، وأقسمت على نفسي ألا أترك فرصة للقصة القصيرة تستحوذ على تلك العوالم المريبة الرائعة، وتعتقل الشخصيات الأسطورية الخارقة للعادة التي تكتظ بها تلك المقاهي الشعبية بمدينتي، وألا أدعها حبيسة زمن وفضاء القصة الضيق، المرتهن لصرامة الحبكة والضبط وتكثيف المعنى وتجويع اللفظ، فمسحت السبورة من أعلى إلى أسفل وأطلقت العنان للراوي يتفيأ في فيافي السرود الشاسعة، مدججا بشخصياته يُشبّك الأحداث، يشكّل العوالم ويشيد المعمار. وهكذا ما عادت تعرش في ذهني وفكري وقلبي سوى الرواية، حتى بتّ منشغلا ومدمنا على رسم الشخصيات محاورا إياها مجادلا لدرجة أنها أصبحت تعيش معي، لا تفارقني أبدا، فأستحضرها في كل أوقاتي داخل البيت في المكتب أو أثناء فترات العمل وحتى آناء اليقظة والمنام.

ولأنني من هواة ارتياد المقاهي الشعبية العتيقة في بلدتي الصغيرة، ذات التاريخ السحيق وفضاءاتها الساحرة، انتويت أن أكتب عن مدينتي بما فيها عوالم تلك المقاهي الشعبية التي تبدو كصورة مصغرة لمجتمع مكتظ بالمتناقضات. فتشابك لدي السرد كما نسيج العنكبوت، لا يتحرك طولا ولا عرضا، وإنما جعلت من الأحداث الصغرى تتضافر لشكل روافد تصب في الحدث الأكبر، فاسترسل صبيب السردي العالي منهمرا بشكل غزير، حيث خلال تلك المدة الطويلة، التي استغرقتها في كتابة فصول الرواية، داومت على التقرب من شخصيات ورواد المقاهي الشعبية، حيث ألفيتهم كلهم من الحشاشين والسكارى والمشردين والمقامرين والأفّاكين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الإشاعات والمساجين - الذين يتركون أماكنهم معلومة مخصوصة في السجن، يخرج هذا ليدخل ذاك في تناوب أزلي على نفس الزنزانة- والشواذ وكل أنواع البشر الميؤوس من نفعهم .كما كتبت في الرواية. منهم أناس بسطاء، فاشلون، مدمنو ثرثرة واحتساء القهوة والسجائر الرديئة والكلام الرديء، وافتعال المناوشات والمشاحنات المؤدية دوما إلى مشاداة عنيفة، تؤدي بدورها في نهاية الأمر لتدخل البوليس. أغلبهم من الحصادين المدججين بمناجلهم مستلقين أمام المقهى واضعين قباعاتهم، فبعد أن يدكّوا رئتهم ويشبعوا من تدخين الكيف الأخضر، ينتشرون في أرجاء المقهى مرميين على ظهورهم وأرجلهم منفرجة متناثرة من أثر العياء، كرعاة البقر، وقد غطوا وجوههم ب"التارازات" الدائرية والتي تشبه قبعات المكسيك، والتي ما هي في الحقيقة إلا قبعات أسطوانية نسجت من الدوم والقش. كلهم مسلحون، كلهم مدججون بالتباندة والصباعيّات وبمناجيلهم التي لا تبارح أكتافهم على الدوام، وقد تزنّروا بمدلجات بعضها من البلاستيك وبعضها من الصفيح، ملفوفة في خرق من الخيش المبلل. هذا كل ما يملكونه من متاع الدنيا. وإذا ما نشبت مبارزة حامية تسمع وطيسها يجلجل المقهى، حتى لتكاد تسمع صليل المناجل وقعقعات "الصباعيات" كما في فيلم للمعارك التاريخية. يقتتلون قعودا على الحصر في مباريات لعبة الورق، يحتسون الشاي البارد أو قهوة عفنة عطنة من عصير الشعير المحروق ،يزدردون لحم الناس في ثرثرا تهم بالغيبة والنميمة والكسل، أو مكدسين حول طاولة كبيرة جعلوها ساحة للعبة الورق.


وأنا أرسم خطاطة الرواية، أصبحت شخصيات الرواية تسكنني وتوغلت في أعماقي، تقضي الليل معي، تحدثني وأحدثها، تشاكسني إذا أفرطت في وصف غرائبيتها المدهشة. تارة تتمنع الأحداث مدة زمنية طويلة، فأترك الحبل على الغارب وأنساها، وتارة تأتي متسارعة مطواعة متناططة متقافزة على حافة الذاكرة، وكأنما تقول لي هيت لك، بالليل والنهار وفي كل وقت وحين، فأقبض عليها سواء ممردة بالحبر على صفحات دفتر أو اعتقلها طازجة على صفحة حاسوب. ولأنني ولحظي العاثر- أو السعيد، لا أدري- أمتلك ساردا أحول، كلما توجهت وانتحيت أنا بكتاباتي صوب الشرق، ينحو بي هو نحو الغرب، فكلما سودت مسودة صباحا يشككني في ما كتبت ألف مرة مساء، فأعيد فيما كتبت النظر فأشطب وأعدل وأشك، فتتخبّل لدي كبة الكلام، وبعد هياط ومياط وشفاعة من قريش بالكاد أستعيد رأس الخيط. وهكذا نجح إلى حد بعيد في أن يقودني إلى مجاهل وبراري، وفيافيَ ومتاهات سردية غاية في المتعة لا عهد لي بها، هكذا وجدت نفسي متورطا في إبداع روائي جميل، ما كنت أحلم به يوما أبدا. ومن شخصيات المقهى وشخصياته بدأت تتخلق الفصول الأولى، حاول فيها ساردي الأحول، منذ البداية، أن يراوغ المتلقي ويستفز مشاعره لا أن يدغدغها كما هو الحال في مستهل الروايات، حيث أقحمه في كل مفاصل الرواية، في لعبة استدعاء مثيرة حتى لا يكاد القارئ التمييز بين السارد والراوي، بل أقحمني أنا الكاتب أيضا، في أتون أحداث عالية السقف الغرائبي.

ولأنني لست ممن يستعجلون النشر فقد وضعتها تطبخ على نار دافئة، وجعلت أنسخها ورقيا للتصحيح، مرة أولى وثانية وثالثة إلى ما لانهاية من المسودات التي عثت فيها تصحيحيا وتشطيبا وتعديلا لمدة زمنية طويلة، حتى كدت أن أتخلى عنها نهائيا، لولا آصرة القرابة الوجدانية التي أصبحت تربطني بتلك الشخصيات التي أضحت مع مرور الزمن (أكثر من ثلاث سنوات) أراها في كل مكان، أتألم لألمها وأسعد لفرحها، فتناجيني وأناجيها. أتأثر أحيانا لمصائرها المأساوية، فألوي عنق مسار السارد، مبتغيا لها مصائر إيجابية. ليرسو اختياري على عنوان "روائح مقاهي المكسيك"، و تبدأ رحلة البحث عن دار نشر تعتني بها جماليا وماديا تضعها في الصفوف الأمامية ضمن خريطة الرواية المغربية والعربية، وتلك قصة أخرى تداخل فيها المادي بالجمالي والإبداعي والمألوف وغير المألوف والاستثنائي، في مشوار صعب تمكنت فيه، بالرغم من كل الصعاب، من إخراجها لحيز التداول. ومنذ ظهورها نالت حظها من الاهتمام والمتابعة النقدية واستأثرت بمرتبة دافئة في رفوف الخزانة المغربية ضمن أفضل الأعمال الإبداعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد الواحد كفيح: قاص وروائي، عضو اتحاد كتاب المغرب، المسؤول الإعلامي بمكتب فرع اتحاد كتاب المغرب خريبكة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم