عندما نفقد صوت الحقيقة ووجه الحاضر نعتكف في عزلةٍ عن الواقع القبيح نرفض الصمت وننغمس في الخيال، نتنفسه كبديلٍ للهواء المسمَم الملوّث بدماء الأبرياء أو دنسِ الجهل والظلم ومرارة الحرمان والفقر الذي تحول إلى كابوسٍ قاتل أو حلمٍ واهٍ.

هكذا نطلق العنان لأوجاعنا وذكرياتنا حتى لا تتفشى كالأورامِ في دواخلنا وتقتلنا؛ نطلقها حسبما شاء القدر؛ نحن لا نختار هو من يختارنا ويختار لنا البطولات بإنحيازٍ طاغٍ. يعبئُ بنا خاناته دون مراعاةٍ لما يتلاءم مع الأدوار والمساحات الخاوية. خبطٌ من العشوائيات يُجسد عملًا روائيًا يفرض نفسه عليك وتفرضه على ذاتك كي تكون أنتَ أنتَ لا سِواك.

هكذا جُسدت أول روايةٍ كتبتها؛ مجموعة من الصراعات الوجودية لا تحتملها ملحمةٌ شعرية، سكبتها في قالب روائي يشبهني أنا، امتدادي أنا، أبطال أنفخ فيهم من وحي روحي روحًا، أنحتهم بلغتي ولغتي هي هويتي العربية التي تجزأت بين دمائي الكنعانية وهيكلي الذي جسمته خارطة الترحال عبر الزمان والمكان.

تخبط بين الرسم والشعر والقص اختزلته في سبر صورٍ ناطقة، فرشت نوباتي المجنونة بلونيّ الحزن والفرح/ العشق والكراهية/ الضعف والقوة/ الرغبة والرهبة/ الطُهر والعهر/ الجهل والمعرفة/ الحرية والعبودية/ الفقر والترف..

أتلذذ بممارسة طقوسي على نص فيه من الرجم ما يؤلمني كفلسطينية ويداويني كأنثى، وفيه من البوح ما يمنحني مساحات شاسعة من الحرية التي نقرُّ بها ولا نملكها، نسيج يشبه الدانتيل الرقيق في تفاصيله، ويشبه الكتان السميك في تماسكه ويشبه الإنسان في غلاظة عقله ومرونة قلبه.

كنت أتقمص كل بطلٍ أنسجه، أتوعل فيه حد النخاع، أتماهى معه؛ أموت بموته، أبكي لبكائه أرقص لانتصاراته، أصفّر أتورّد أبرد أشتعل حتى يخيل للقارئ أني أكتب سيرتي الذاتية وإن كان بطلي رجلًا أيضًا.

فأول أعمالي كانت عام ٢٠٠٩ رواية بطلها (محمود) الشاب الجميل الفقير الذي جسدت من خلاله صراع الطبقات وعاهة العنصرية القبلية المتفشية في مجتمعي الخليجي آنذك، والتطرف الديني والعقائدي، والكبت الجنسي في كل مرحلة زمنية للمرأة السعودية تحديدًا، فلم يجد قبولًا إلى اليوم ولن أتنازل عنه إلى أن أموت.

لم أكن قارئة جيدة واعية لقيمة ما أقرأه، أقرأ الكتب لاختزالها في رأسي كثروةٍ أنافس بها أصحاب رؤوس المال والأرصدة البنكية، أحارب بها أصحاب السلطة الأغبياء، أدخرها مؤنة ليومٍ أشيخ فيه فلا أبصر، ليوم تشوهني فيه تعرجات جسمي وتجاعيد وجهي فأتزين بها لأكمل نهاية مشوار لا ينتهي إلا بموتي. حتى تحولت علاقتي بالكتب من علاقة سيئة إلى علاقة عشق أسطوري، عشق من طرف واحد، لا ينتظر مقابلًا من معشوقته التي يعشقها كل قارئ، يشاركه على بدنها ألف عابر كتاب، يُنتهك طهرها جيل بعد جيل، يمتهن جسدها الجاهل والعاقل، الطفل والكهل والمُسن الذي فقد قدرته على مضاجعة امرأة، هكذا نما عشقي الذي أستمد منه نهلًا للكتابة.

لغتي لغة تتعاقب عليها الفصول الأربعة، في رواياتي الأربعة؛ فصلًا ماركيزيًا ساديًا يشبه لعنة شتاء الماركيز دو ساد، منحرف، إباحي، منتهك للفضيلة، ومجنون. خطواته فلسفية فاحشة.

ليتحول لربيعٍ فرجينيّ يشبه نوبات فرجينيا وولف، المستوحاة من طبيعة الأنثى الصاخبة بألوانها، ازدواجيتها، جمالها، قبحها، طفولتها، شيخوختها، أمومتها، غرائزها، رمزيتها الألوهية. أو يتحوّل لفصل خريفيّ يشبه كافكا ككابوس إعصارٍ يهودي، وجودي، عبثيّ، سرياليّ .. لينتهي بصيفٍ ساخن يشبه فولتير، ساخرًا يبحث عن مكمن الإنسانية في بشر فقدوا إنسانيتهم، ينقب عن بقايا الكرامات تحت أنقاض الحروب الأدبية واللّا أدبية في ساحة تنتظر المطر ليغسل بقع السواد، فتبزغ بقع الضوء.

هكذا تعاقبت على رواياتي؛ " تبسمت جهنم" "تمّوز والكرزة" "فما بكت عليهم الأرض" "البوكر".

* كاتبة فلسطينية صدرت لها مؤخرا رواية (البوكر) وترجمت روايتها (تبسمت جهنم) إلى اللغة الكردية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم