في كتابها "زوجات طيبات"، وصفت الروائية الأميركية لويزا ماي ألكوت علاقتها بالكتابة (متحدّثةً عن نفسها بضمير الغائب) قائلة: "لم تعتقد أبداً أنها عبقرية، لكن ما إن تنتابها نوبةٌ من نوبات الكتابة، تهبُ نفسها متخلية عن كلّ شيء، فتحيا حياة نعيم، غير عابئةٍ بالرغبة أو الاعتناء بالأشياء، أو حتى بالطقس السيء. تجلسُ إلى الكتابة، وتحفّ بها السعادة والأمان في عالمٍ متخيّل، محتشدٍ بالأصدقاء، قريبٍ من الواقع في نفس الوقت، عالم تعتزّ به كأنّه كائنٌ من لحم ودم".

يمكنني أن أقول إن علاقتي بالكتابة تشبه إلى حدّ بعيد ما قالته ماي ألكوت. فمنذ الطفولة، كنتُ دائماً تلك الفتاة الانطوائية التي تنعزل في ركنٍ من البيت لتقرأ كتاباً أو تكتب. لم أحبّ أبداً الخروج مع الصّديقات ولا حضور المناسبات العائلية ولا التجوّل في الأسواق والمحلّات التجارية. كنتُ أستغلّ كل لحظةِ فراغٍ من حياتي في الغوص في الكتب والروايات، أو في تخيّل حيواتٍ أخرى وتدوينها على الورق.

سحرتني دائماً العوالم القصصية والروائية. وامتلكتُ دائماً ذلك الشعور بأنني سافرتُ إلى الأماكن المذكورة في رواية ما، وقابلتُ شخصياتها. ومنذ سنّ العاشرة، لم يُشعرني أيّ شيءٍ بالسّعادة كما أشعرتني بها الكتابة.

أصدرتُ مجموعتي القصصية الأولى والوحيدة عندما كنت في الثانية والعشرين. وأحسستُ أنّ المساحات التي تتيحها لي القصة القصيرة لم تعد تكفيني، فقرّرتُ الدخول في غمار الكتابة الروائية (وهو الشيءُ الذي رغبتُ به دائماً: أن أكون كاتبة روائية). تركتُ كلّ شيء ورائي، وانغمستُ في كتابة "بنات الصبّار"، روايتي الأولى التي صدرت في نهاية السنة الماضية.

تغوص "بناتُ الصبّار" في أعماق نساءٍ مغربيات من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والثقافية. وآثرتُ أن يكون سرد الرّواية من خلال أصواتهنّ، هنّ اللواتي عشن تجربة الحياة بما فيها من مُتعةٍ وشقاء، لأنهنّ أقدر على نقل التفاصيل والمشاعر.

لويزا، سُعدية، صونيا، شادية، شيماء، صفاء وسارة، يروين قصصهنّ كما لو أنهنّ يتكلّمن إلى أنفسهنّ، بدون مساحيق ولا زواق ولا نفاق. تحمل قصصهنّ ملامح من مدينة الحسيمة (شمال المغرب)، هذه المدينة المهمّشة والمنسية التي لم يعرفها أحدٌ ولم يتذكّرها أحد إلّا بعد الاحتجاجات التي عرفتها ابتداءً من سنة 2016، والتي عُرفت بـ"حراك الريف".

إنّ هؤلاء النساء نموذجٌ من نساءٍ مغربياتٍ كثيرات، يتعرّضن للقهر والظلم والتهميش، أولاً كمواطنات يعشن في بلدٍ يعمّه الفساد، والنّفاق السياسي والاجتماعي، والتفاوتُ الطبقي، والفقر المدقع. وثانياً كنساءٍ، جعلهنّ انتماؤهنّ إلى جنس الإناث يعشن معاناةٍ مزدوجة مترتّبة عن كونهنّ عُرضةً للتمييز، للتحرّش الجنسي وللأحكام المسبقة التي يلقيها المجتمع على عاتقهنّ باعتبارهنّ "أقلّ من الرجال".

لم يأتِ اختياري لتقنية تعدّد الأصوات في روايتي عبثاً. فقد اعتدنا لوقت طويل في تاريخ الأدب أن كانت مواقفُ النساء من العالم ومن أجسادهنّ ووضعيتهنّ كنساء مكتوبةً بأقلام رجال، ومن خلال منظار رجالي. ولا يمكننا أن ننكر أنّ الأدباء الرّجال أخطؤوا التقدير في الكثير من الأحيان في محاولتهم النفاذ إلى أعماق النفس النسائية وكشف لواعجها ومعاناتها ورؤيتها للعالم والأشياء. ولا أحاول هنا أن أنكر أنّ روائيين رجالاً نجحوا في هذه المهمّة، وأخرجوا لنا شخصياتٍ نسائية قوية وخالدة مثلَ مادام بوفاري وآنا كارنينا.

اعتباراً لهذه الأسباب، وباعتباري امرأةً، وكنتُ طيلة حياتي قريبةً من النساء، أسمع أحاديثهنّ، يشاركنني ما يدور برؤوسهنّ، ويكشفن لي نظرتهنّ للعالم والحياة والرجال وعلاقتَهنّ بأجسادهنّ وبالفضاء العامّ... آثرتُ أن يكون السّرد على ألسنتهنّ حتى تُتاح لهنّ الفرصة في أن يصحّحن للعالم بعض الأفكار المغلوطة عنهنّ، وليقُلن إنّ "على الإنسان أن يكون امرأةً حتى يفهم جيّداً ما تعيشه النساء".

ينبغي أن أوضّح أنني لم أكتب "بنات الصبّار" لأسبابٍ نضالية تتعلّق بالدفاع عن النساء بالدرجة الأولى، لأنني أرى أن الأدب لم يوجد لإعطاء دروسٍ أخلاقية، أو لإيصال رسائل معيّنة إلى القارئ، بل ليمنح هذا القارئ المتعة، ويبثّ في نفسه مشاعرَ قوية، ويساعده على اكتشاف مساحاتٍ لم يكن يعرفُ بوجودها في أعماقه، مساحاتِ الحبّ والتعاطف والأمل والنشوة والدهشة...

أحبّ الكتابة لأنّني حين أجلس إلى حاسوبي وأشرعُ في التخيّل والرّقن، أحسّ بثقل ذلك الإرث الأدبي الهائل الذي تركته الإنسانية منذ بدء الإبداع. ولأنّ الكتابة أيضاً تتيح لي، بطريقةٍ ما، مواجهة عُقدي ومخاوفي وهواجسي. بل إنني أشعر، أحياناً، أنّها تشفيني من جروحي القديمة والجديدة، وتجعلني أكثر تصالحاً مع ذاتي، خفيفةً كريشة، متحرّرةً كورقةِ شجرة تحملُها الرياح.

وكلّما كتبتُ أكثر، كلّما شعرتُ بعجزي عن التوقّف. أكتبُ دائماً وباستمرار، بقوة وبجنون وبحبّ. أكتبُ وفي ذاكرتي يعتمل كلّ ذلك الإرث من الحكايات المدهشة التي كانت جدّتي وأمّي ترويانها لي بكلّ حبّ في ليالي الصيف الدافئة، تحت ضوءِ القمر البهيج.

أكتب وأنا أفكّر: لقد ورثتُ من نساء عائلتي، أبرعُ الحكّاءات في عينيّ، الحكي بحبّ.

 

  • روائيّة وإعلامية مغربية مقيمة في إسطنبول

 

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم