لم أفكّر يومًا في الكتابة، لكن كنت أقضي الكثير من وقتي في قراءة الكتب، ولم أفوّت في فترة إقامتي في أبو ظبي عرضًا مسرحيًّا واحدًا من العروض التي كان ينظّمها الكثير من السفارات  في المركز الثقافيّ وقصر المؤتمرات، وكنت بقدر ما أحبّ الخيال أبغض الكتابة، وهذا ما صرّحت به في رواية حياة وهم: "على الرّغم من تعلّقي بالعوالم الخياليّة إلاّ أنّ كتابتها تُتعبني، لذلك يكره وهمي القلم، لأنّه يربطه بالواقع، ويمنعه من الوصول إلى قمّة شطحاته... يا ليتني أستطيع أن أعطي الآخرين حبلًا من الخيال، وأدخلهم إلى عالمي المفضّل من دون كلمات. إنّ الوهم أصدق من كلّ كلمات هذا العالم."

لكن المصادفات أحيانًا لا تغيّر فقط مسار حياتنا بل أيضًا ما نحبّ وما نكره. فعندما طلبت منّي إدارة المدرسة- حيث كنت أعمل منسّقة للغة الإنكليزية- أن أكتب مسرحيّة لجائزة حمدان التي تنظّمها وزارة الثقافة الإماراتية وعدتهم بأنّني سأحاول. وبعد ثلاثة أيام انتهيت من كتابة مسرحية قصيرة باللغة الإنكليزية، وقد أخرجتها صديقة تشيكية.

عندما نالت هذه المسرحية المرتبة الثانية استغربت، فلم تكن لديّ الثقة بقدرتي على الكتابة.

بعد فترة قصيرة قرّرت أن أكتب رواية لعدّة أسباب.

السبب الأول: أنّ دكتورًا أردنيًّا من أعضاء اللجنة في جائزة حمدان أحبّ نصّي كثيرًا، فشجّعني على الاستمرار في الكتابة.

السبب الثاني: أنّي استمتعت بكتابة المسرحية، وشعرت بأنّ الرواية ستقدّم لي فرصة أكبر لولوج عالم أوسع وأرحب من المسرح.

السبب الثالث: لم يكن لديّ الكثير من الأصدقاء في الإمارات، لذلك رأيت في الكتابة ملاذًا ووسيلة نجاة من الرتابة والوحدة. وهكذا أصبحت الكتابة صديقتي وسلوتي في الغربة.

في روايتي الأولى اخترت موضوع الزواج بين الثقافات المختلفة، فأجريت الكثير من المقابلات لمتزوجين من ثقافات مختلفة.

كنت كأنّي على موعد مع الكتابة، فأذهب إلى أماكن مشابهة لأماكن الأحداث في الرواية. فكتبت الكثير من المشاهد في مقهى كانت تعرض فيه لوحات لفنانين من كلّ أنحاء العالم، لأشعر بإحساس بطل روايتي نضال- رسّام عراقيّ- الذي أغرم بلينا  ،راقصة بالية تشيكية. وكتبت أحد المشاهد في مطعم بسفينة لأدوّن لقاء رومنسيًّا بين البطلين.

باختصار كنت أشعر بأنّني أذهب إلى المسرح، لأشاهد أحداثًا يبتكرها خيالي.

كانت ثمار هذه التجربة روايتي الأولى "بغداد براغ"، ولكن لم تكن لديّ أيّ فكرة عن اللون الأدبيّ لروايتي، أو لماذا أريد أن أكتب؟.

بعد عودتي إلى لبنان وإكمال دراستي العليا في جامعة سيدة اللويزة، عرفت السبب وراء انجذابي إلى الأدب الهجين، وهو أنّه ينتقد الشرق والغرب على السواء، ولأنّ الشخصيات الهجينة تختار أفضل القيم من الشرق والغرب، وبالتالي هذا الأدب يهدف إلى بناء الجسور بين الثقافات المختلفة.

أعتقد أنّ ملامح كتابتي أصبحت أكثر وضوحًا لي في الرواية الثانية التي ناقشت فيها مسألة الإعاقة، والتي دفعتني إلى عقد مقابلات لأعضاء منتدى المقعدين في زحلة.

هذه الزيارات رسمت ملامح أوضح لقلمي، لأنّ صداقاتي مع أعضاء المنتدى أثمرت روايتين: حياة وهم، والحبّ يرى، وأربع مسرحيّات.

مع أنّ المسائل الإنسانية لا تنفصل عن بعضها، لكنّ تطوعي في المنتدى جعل هذه المسألة محور كتاباتي من دون أن أفصلها عن المسائل الأخرى.

في روايتي الثالثة "الحبّ يرى" تكرّرت زياراتي إلى جمعية للمكفوفين، ومأوى  للعجزة، والمخيّمات السورية، فتعرّفت إلى عوالم كنت أسمع عنها، ولكن أجهلها.

لماذا تكتب؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح على كلّ كاتب.

لكنّ السؤال الذي أطرحه على نفسي: ماذا أريد من قلمي، وماذا يريد قلمي منّي؟

أريد من قلمي أن يكتب عن الوجع والظلم، وكلّ ما هو جميل وخيّر.

أريد منه عندما ينظر إلى المرآة أن يرى ملامح لا تشبه إلّا نفسها، وأن يقدّر كلّ روح تمسّ القلب والفكر، وألّا يتخلّى عن قضيته الإنسانية.

ماذا يريد قلمي منّي؟ أعتقد أنّه يريدني ألّا أعيش مفارقات، وألّا أكون على الهامش، فعندما أغمس نفسي في الحياة فإنّ تجربتي الحيّة ستولد نصوصًا صادقة من دون أقنعة، ولهذا السبب أقوم بالمقابلات، ولا أتردّد أن أذهب إلى أماكن الوجع.

يذكّرني قلمي بألّا أعرّف نفسي بالكاتبة بل بإنسان يسمع ويتفاعل مع آلام الناس وآمالهم، وبأنّ الكتّاب يكتبون ليس لأنّهم يعرفون أكثر من الآخرين، فالكثير من القرّاء المثقّفين أعمق فهماً من الروائيين، ولكنّ الروائيّ لديه قدرة التعبير عمّا يفكّر به الآخرون باللاوعي، فيصوغه بأسلوب أدبيّ ناصع.

لذلك عندما يعرّفني بعض الأصدقاء- وأنا ممنونة لتشجيعهم لي- إلى أصدقائهم بالكاتبة أشعر بغرابة، لأنّ الكتابة تقدّم لي دورًا واحدًا وواجبًا إنسانيًّا، وهو ليس أكثر أهمّية من دوري في الأمومة والتعليم، وتطوّعي في منتدى المقعدين.

في هذا السياق أعتقد أنّ قلمي يريدني أن أحافظ عل بساطتي، والبساطة عندي مسألة مختلفة عن التواضع. فلقد لاحظت ظاهرة اضمحلال البساطة بين الكثير من الموهوبين، فتشعر عندما تحادث أحدهم وكأنّ لقبه يتكلّم، أو كأنّه يمثّل الدور الذي عرفّه به المجتمع. وهؤلاء أنفسهم يقدّسون الأكثر شهرة في مجالهم، ولا يحترمون من هم أقلّ موهبة أو شهرة منهم.

على الرغم من تقديري لكلّ موهبة مميّزة فإنّني لا أؤمن بعظمة أيّ أنسان.  شكسبير مثلًا يُعدّ أهمّ مسرحيّ في تاريخ البشرية، وحتى الآن لم يتأكّدوا أنّه مَن كتب مسرحياته. فماذا إذا اكتشف العلماء أنّه لم  يكن كاتب تلك المسرحيات، ولا يُعرف كاتبها؟ فهل هذا سيقلّل من قيم المسرحيات الشكسبيرية؟ بالتأكيد لا، لأنّ كاتب هذه المسرحيات إنسان ما، ولكن كتاباته عظيمة.

كانت الكتابة بالنسبة لي تسلية للهروب من رتابة الحياة، ولكنّني أصبحت في هذه المرحلة من حياتي ألجأ إلى القلم في فرحي وحزني، ووجعي وإحساسي بوجع الآخرين، و في كلّ حالاتي.

بحقّ أصبح قلمي أقرب الأصدقاء إلى قلبي: يضحك و يبكي، ويحلم معي، ويواسيني، والأهمّ أنّه يُغني تجربتي الإنسانيّة، ويجعلني أشعر أنّي مسؤولة عن إصلاح القليل في هذا العالم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ميرنا الشويري: كاتبة وروائية لبنانية، أصدرت عدداً من الروايات منها: "بغداد براغ"، "حياة وهم"، "الحب يرى"، وبعض الأعمال المسرحية.

 

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم