كنت دائماً قارئاً جيداً للرواية والشعر، لم أشعر أبداً برغبة حقيقية في الكتابة، كانت القراءة دوماً تعطيني إحساساً عميقاً بالرضى. رددت في سري، أنه ليس هنالك ما يمكن أن يضيف إلى المشهد الروائي إلا إذا كان بمستوى الإضافة. وعملت دائماً بمقولة أن لا مهنة أصعب من الكتابة إلا مهنة مقارعة التماسيح الإفريقية.

وجدت دوماً مبررات كثيرة لأبتعد قدر الإمكان عن الدخول في محنة الكتابة كما كنت أظن. عندما تغيرت الظروف ودخلت بلادي في ثورة، تحولت فيما بعد إلى حرب طاحنة، أحرقت كل شيء، وحولتنا مع الكثيرين إلى لاجئين، يبحثون عن وطن بديل يحميهم من قسوة الموت. كان المنفى محطتي الثانية لأبدأ من جديد مخاض ولادة قسرية في بلاد تختلف في كل شيء عن وطني الأم، الثقافة واللغة والطقس والجغرافية.

في المنفى تجد نفسك وحيداً في مواجهة مخاوفك الكثيرة، لا لبوس يستر هوانك وهشاشة روحك، لا هالة يصنعها محيطك، تمنعك من رؤية العطب الذي يظهر جلياً على صفحة تلك المرايا المحجرية.

اعتقدت دوماً أن الكتابة محنة، لكنني متأخراً وقد تجاوزت الأربعين وجدت في الكتابة خلاصاً حقيقياً، وجدت فيها وطناً بديلاً. بدأت حكايتي مع الكتابة في الرواية التي نشرتها مطلع العام 2019 والتي سميتها كهرمان. كانت متعثرة في البداية، على مستوى الصياغة وبناء الصورة وأسلوب السرد الذي تغير رتمه وشكله كلما أوغلت في الكتابة، وكلما تماديت في سرد المحكية والغور في بناء عوالمها، شيئا فشيئاً أصبحت الأمور أسهل وتجانس النص وأصبح التناغم أكثر وضوحاً.

ما ان بدأت السرد حتى تعذر عليّ التوقف، علمت أنني مسكون بالحكايا والقصص وأن اللغة تسعفني في إتمام مشروعي، لم أشعر بأي خوف، كان عليّ فقط الاستمرار في الكتابة. الشغف والرغبة هما ما دفعاني للاستمرار وبناء الحبكة الروائية، بناء الشخصيات ومحاولة إيصالها إلى عتبة الإقناع. أعلم أن القارئ زكي وانتقائي. إذا لم تكن الكلمات بما تحمله من سحر السرد والوصف والدراما قادرة على أخذ القارئ الى مساحات رحبة وممتعة، فإنه ببساطة سيختار عدم المتابعة.

السنوات القليلة الماضية بما حملته من مآسٍ ومحن على مستوى الوطن السوري وضعتني أمام تساؤلات وجودية كثيرة. كان أول تلك التساؤلات عن جدوى الحرب، عن المآسي التي تسببها، عن الثقافة التي قد تكون حاملاً خصباً للفكر الراديكالي، والذي يدفع بدوره باتجاه العنف والحرب.

أردت أن أخوض غمار التجربة لأسرد حكاية استحضرتها من عدة أزمنة مختلفة، بما فيها زمن عشته بنفسي واختبرت تفاصيل سكناه. الشخصيات عاشت تجربة الحرب، وقفت على المنصة المطلة على فناء الموت، اختبرت ألم فقد الأحبة، تلك الشخوص كانت أسيرة تلك اللحظة المفصلية، اللحظة التي توقف فيها الزمن وأصبح صلداً وقاسياً.

أبطال الرواية شخوص من ورق لكنهم يحملون أرواح أناس حقيقيين اختبروا الألم الوجودي بقساوته المفرطة، عندما واجهوا الموت، تحجر الزمن ليصبح صلداً قاسياً كحجر الكهرمان، الحجر الذي يحتفظ داخله بحياة من أزمنة غابرة. في المنفى تصبح الذاكرة حبلى بالحكايات يستحضر منها ما يتوافق مع اللحظة المعيشة. عندما تأملت حولي علمت أن كل شخص هو مشروع شخصية روائية، لكل منا حكاية تنفع أن تروى وتسطر على الورق، مع قليل من الحيلة الروائية استطعت إكساء بعض الشخصيات لبوس الرواية، فأصبحوا أبطالاً من ورق.

فالصديقة الكردية والتي سرقت منها طفولتها باكراً، لتدخل أتون حرب قاسية على مقاس أحلام الكبار، وتصبح مقاتلة في فصيل كردي خاض حرباً ضروساً ضد تركيا على مدى عدة عقود، الحزب الذي جند الجميع في حربه ولم ينأَ عن دفع حتى الأطفال ليكونوا وقوداً لها، صديقتي التي أعطيتها اسم نالين في الرواية، رسمت تفاصيل المروية على مقاس بصيرتي الروائية وتجربتها الوجودية القاسية.

كنت طفلاً في العاشرة عندما زرتها مع أمي، خاتون /نكتار/ جدة أمي، أتذكر جيداً ملامح وجهها الأبيض، وعينيها الخضراوين، كانت تمتلك ملامح أوربية وتعتمر لباساً كردياً تقليدياً مقصباً، كوفيتها الملونة وشالها الكردي، قبلت يديها، ما زلت أتذكر راحة اليد المتغصنة، حفر الزمن عليها وأعطاها وشمه. تجاوزت جدتي التسعين حينها. قالت لي أمي إن جدتها أرمنية الأصل وإنه عثر عليها وحيدة قرب نهر دجلة، كانت مدماة وتنتحب قرب جثث لنساء عائمات على ضفته، فقدت عائلتها بالكامل، وذلك إبان المجزرة الأرمنية عام 1915. أردت أن أبني العوالم الداخلية لطفلة في الثامنة من عمرها اختبرت هذه اللحظة المفصلية في قساوتها وجورها. أعدت كتابة المحكية لنكتار جدتي على مقاس بصيرتي الروائية وألمها الوجودي، هي تحمل في الرواية اسم ماغريت .

غابريلا كوخ، العجوز الألمانية التي التقيت بها في منزلها الصغير، في عيد رأس السنة الميلادية، كانت تضع على الطاولة كرت معايدة بمناسبة رأس السنة على شكل مجسم منزل، وفي وسطه وضعت شمعة صغيرة أضاءت مجسم البيت الورقي، قلت لها إن الكَرت جميل، قالت لي إن هذا الكرت يتجاوز في عمره ال75 عاماً، هو الذكرى الوحيدة التي تسنى لها الإحتفاظ بها إبان هروبهم الكبير من مدينة كونينغسبيرغ في الحرب العالمية الثانية، بعد دخول القوات الروسية للمدينة وإحتلالها وماترافق من إرتكاب مجازر كبيرة بحق المدنيين. استطعت رؤية الدمعة التي سقطت على خدها وهي تعطيني الكرت لأتامله. أعدت كتابة المحكية لغابريلا العجوز على مقاس بصيرتي الروائية وألمها الوجودي وحملت في الرواية الاسم ذاته.

ربما كانت حكاياهم مختلفة في السرد الروائي، لكنها تحمل بالتأكيد الكثير من مشاعرهم وأحاسيسهم العميقة التي اختبروها واحتفظوا بها داخلهم كلحظة أبدية لا تنتسى. استطعت أن أربط تلك الأزمنة المختلفة ببعضها، واستحضر الشخوص ليلتقوا في ملحمة روائية، كانو جميعاً متشابهين حد التطابق، لأنه في زمن الحرب تسقط الهوية العرقية والثقافية لتظهر الهوية الإنسانية في تجليها الحقيقي. هذه هي حكاية روايتي الأولى كهرمان..

ــــــــــــــــــــــــــــ

  • كاتب وروائي كردي سوري مقيم في ألمانيا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم