يحتاج المرء إلى التحدي والإصرار كي يَكون ما يطمح به، ويحقق ما يسعى إليه. وهذا ما فعلته أنا طيلة حياتي وخصوصاً في مجال الكتابة، فقد كنت دائماً أكتب سراً، لأن والدي كان على خلاف عائلي مع والدتي، وقد أخذني للعيش معه عندما كنت في سن الثانية عشر من عمري، لكن حياتي معه كانت في جحيم مستمر، فقد كان ينهرني إن كتبت أي شيء ولا يشجعني مطلقاً إلا أمام الناس حتى يُريهم أنه الحمل الوديع، ولعلي أتذكر أول تاريخ لمنعي من الكتابة مطلقاً، عندما كتبت أول قصيدة شعرية حينما كنت في الصف السادس الابتدائي، وقلت في نفسي كأي طفلة صغيرة سوف أعرض هذه القصيدة على والدي أثناء زيارته لنا كي يفرح بي، وعندما عرضتها عليه كانت الصدمة بأن زجرني بعدما قرأها، وكانت ملامح وجهه داخلياً توحي بالإعجاب بالقصيدة، إلا أنه لم يفصح بذلك، فقد أظهر غير ما يُضمر، على أية حال وبعد سرقتي من والدتي للعيش معه استمر هذا المنع، وأصبح أكثر مما كان في السابق، فكنت أفضل الكتابة سراً، وحقيقة لم يكن منعه هذا لي لأنني لا أجيد الكتابة، لا، بل كان لأنه لا يريدني أن أنافسه في مجاله، فقد كان كاتباً هو الآخر، ولعل البعض يتعجب من هذا، فدائماً يحب الأهل أن يكون أبناؤهم أفضل منهم حالاً، إلا والدي فقد كان غريب الأطوار، لكن وبإيجاز بعد معاناتي معه على مستوى الحياة الشخصية والخاصة، قررت أن ألتحق بكلية الصحافة والإعلام فقد كنت أعشقها، لكن كنت أتمنى أن ألتحق بها ليتسنى لي أن أكتب بشكلٍ علني، لكنه أبى وأصر على كلية الشريعة والقانون، ومن ثم التحقت بكلية الشريعة والقانون، وبدأت معاناة أخرى تطاردني، فأنا لا أحب الفشل وإن كنت لا أحب الكلية، فكنت في صراعٍ خارجي بين النجاح والتفوق في تلك الكلية الغريبة، فقد كانت دراستي علمية في السابق وأحب الأدب والثقافة، فما شأني والقانون؟!

 

وبين القيام بالأعمال المنزلية على أكمل وجه، وكذلك خدمة عدد ليس بقليل من أخواتي غير الشقيقات وزوجة أبي وأبي وجدتي لأبي، إضافةً إلى صراع آخر داخلي ما بين الوحدة التي أشعر بها في وسط تلك العائلة الجديدة، وبين فقداني لأمي وأخويّ الاثنين طيلة ثلاثة عشرة عاماً لم أرهم أو أخاطبهم أو أعرف شيئاً عنهم، وكذلك بين محاولتي لأكون ذاتي وأصنع مستقبلي بنفسي، وأكون أنا من يشجع نفسه بنفسه، فكنت أحب القراءة والكتابة، لكن قراءتي عند والدتي كانت أكثر بكثير من تلك القراءة السرية عند والدي، وفي ظل هذا الصراع قد تركت الكتابة أربع سنوات متتالية سراً كان أو جهاراً، لعدم اتساع وقتي المجزّأ على كل تلك الأعمال، فما كنت فقط واجدة وقت فراغٍ لنفسي، لا، بل كنت غير واجدة وقتاً للنوم، ولكن وبعد مضي أربع سنوات على عدم كتابة شيء سواء الأبحاث الجامعية، التي ما كانت تُطلب مني فقد كنت أقدم عليها بذاتي، لأفرغ شحنات الكتابة فيها، قررت أن أكتب شيئاً يصف معاناتي تلك، فكتبت أول رواية كتابية لي لكنها لم تُنشر بعد وكانت بعنوان العجعاج وتعني صوت ضمير، أو صوت بالداخل يصرخ ويريد طوق نجاة، على أية حال دخل والدي فجأة أثناء كتابتي لتلك الرواية التي كانت ومن وجهة نظري من أفصح ما كتبت من روايتي الست، فعندما دخل ألقيت بالدوسيه الموجود به الورق المكتوب به من فزعي، فأخذ الورق ونظر بوجه غريب وابتسم ابتسامه استهزاء وسخرية لن أنساها ما بقيت حيه، وقال: "بردو بتكتبي، ركزي في دراستك".. وقرأ منها سطور، ثم قال: ايه الفشل دا.. ورمى الورق أرضاً ورحل، رغم أن تلك الرواية نالت إعجاب الكثير من أصدقاء الجامعة وأساتذتها، لأنني قد كنت أحب القراء الجهرية وإلقاء الشعر وقتما كنت صغيرة، لذلك عندما كان يتسنى لي الذهاب إلى الجامعة كنت أقرأ عليهم، ولأنني كنت متفوقة وخلوقة فقد كنت محبوبة من الجميع والحمد لله، لكن وبعد كسرة النفس والقلب هذه من كلام والدي، طويت صفحات الرواية وأقصيتها في مخبأ ولم أكملها، فقد باتت نفسي مهمومة وصدري مكلوماً، إلى أن قررت أن أكتب ما أكتب مع توخي الحذر الشديد حال عدم وجود والدي في المنزل فقط، وأحياناً كان يصدف الأمر أن يأتي فجأة أثناء انغماسي في الكتابة ويكتشف وينهرني، بل وأحياناً يصل الأمر إلى حد الضرب، لكن وعلى أية حال خرجت من تلك الحياة التي عشتها معه في كبدٍ ومعاناة وكل شيء وأكتب سراً بقدرٍ ليس بسيّئ من الكتابة، فقد كتبت ما لا يقل عن ستين قصيدة زجلية، وثلاثين فصحى، وست روايات، وسبع قصص قصيرة، وثمانين بحثاً، إلا أنه ولأنني لا أحفظ ما أكتب فلا أحب الحفظ، ولم تكن كتابتي على الحاسوب، بل كانت في قصاصات ورقية، فقد ضاع مني معظمها، كما فقدت أغلبها في بيت زوجة أبي، وعندما طالبتها بهم قالت ليس عندي أي شيء لكِ، بعد أن كانت قد وعدتني بتركهم لديها لتحافظ عليهم.

لكنني مادمت باقية على قيد الحياة، فإنني أستطيع أن أكمل مسيرتي بحرية بإذن الله تعالى.

وبالطبع مع كل هذا العناء وتلك الصراعات لم أكن أعرف سبيلاً لنشر ما كتبت، إلا أنني وبعد أن وقف الله تعالى إلى جانبي وتمكنت وبعد ثلاثة عشر عاماً في معاناة، أن أستقل بحياتي وأبحث عن أمي وأخويّ وذاتي، وإن كانت معاناة من طريق آخر إلا أنها بالطبع ستكون أهون عليّ من السابق، قررت أن أبحث عن دار للنشر أو صحف أو مجلات لممارسة الكتابة بها، وبالطبع ومع كل تلك المعاناة لن أكون المتمرس فيها طيلة حياته، لا سيما إذا جرت علومها وأسسها كما كنت أتمنى أن أدرس.

فقابلت أبي الروحي ومُشجعي ومن وقف إلى جانبي بعد ربي، وشجعني على مواصلة الكتابة وأنه سوف يساعدني بالنشر، وكان يرى كل ما أكتبه جميلاً، وهو صاحب دار الحكمة، الأستاذ حازم السامرائي، فبث فيّ روح الحياة مرة أخرى، فنشرت معه مجموعة من بعض الأشعار التي كانت لا تزال معي، ثم قررت بعدها وبعد أن نالت إعجاب الكثير وخصوصاً ممن يفقهون اللهجة المصرية، وبعد تشجيعه المستمر والزائد لي، وكذلك بعد كتابتي بعض المقالات في جريدة عمان اليومية ومجلة أقلام عربية وبعد نشري كتابي فلهدني في صدري مع دار المعتز الأردن، أن أكتب روايتي الأولى نشراً، بعنوان "الخطيئة"، والتي قد ذكرت بها بعض الأمور والأحداث الواقعية من معاناةٍ قد عشتها، ثم مزجت ذلك بشيءٍ من الخيال.

ــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة من مصر مقيمة في لندن

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم