قضيت العشرينيات من عمري كما يفعل معظم الكتاب الشباب: زاحفاً على يدَي وركبتَيّ، وبتحدّ ذاتي للقلق والحرج والعار واليأس. عندما سألني الناس عمّا قمت به من أجل لقمة العيش، وجدت أن من الصعب الإجابة عن هذا السؤال دون غصة ودموع. دعوت نفسي روائياً، ولكن العالم عرفني فقط كمدقّق قانوني. أهدرت من شبابي وموهبتي خمس ليالٍ في الأسبوع، من الساعة 11,5 مساءً وحتى الفجر، في غرفة صغيرة. أمعن في كلمات كنت أعرف كيفية تهجئتها، ولكن معانيها ظلت عصية على الفهم (ما هو الجحيم هو السند، على أية حال؟). حالما تشرق الشمس، أحدّق من نافذتي في أبراج المكاتب الأخرى في وسط مدينة مانهاتن، وأفكر بأني سأموت هنا.

في ديسمبر من عام 1984 قررت أن أتحدّى قدري. استأجرت شقة في بروفنس تاون في ماساتشوستس حيث سأكتب، إن لم تكن الرواية الأميركية العظيمة، ستكون رواية، ربما لن تكسبني المال الكافي لشراء القلم الخاص بي، ولكن على الأقل ستمكنني من أن أنظر في عيون الناس في حفلات العشاء، عندما يسألونني ماذا فعلت من أجل لقمة العيش؟ اخترت بروفنس تاون لأنني كنت أعلم أنها أرض ثلجية قاحلة يسكنها في الغالب رجال مثليون جنسياً.

مما يعني أنه لن يكون هناك إلهاء رومانسي أو جنسي، أيضاً جاءت الشقة بدون هاتف أوجهاز تلفزيون، لذلك سأعيش وأعمل مثل راهب.

بعد شهر من وصولي، خلال ذلك الوقت كنت أعتاش كلياً على طهي المايكروبيوتيك المطبوخ في المنزل، ونادراً ما كنت أخطو خارج المنزل. خرجت بالفصول الأربعة الأولى من رواية ما رآه فرانسيس (What Francis Saw) . أُعدّت في مانهاتن، وهي تحكي قصة روائي طموح صدف وأنه كان يحمل تشابهاً مذهلاً معي. كما في أبطال معظم الروايات الأولى، كان فرانسيس بارتون سلبياً بشكل لافت للنظر، ويواجه الحياة بشكل حصري تقريباً من خلال مقلة العين وبالتالي جاء العنوان بذيئاً.

تابعت العمل على الكتاب عندما عدت إلى نيويورك، وبعد سنتين انتهيت منه. في الفصول الاثني عشر التي يصور كل منها شهراً من عام 1984، ترنّح فرانسيس الشاب عبر وجوده الكئيب، في محاولةٍ لفهم الكون الذي لا يبدو أن فيه مكاناً له أو لمثله العليا. الرواية كانت 600 صفحة من المشاعر العميقة والترقب عن كثب والتألّق الغنائي، وكانت ذات مغزى فقط بالنسبة لي.

من الصعب تخيل ذلك الآن، و لكن في تلك الأيام اعتبرت التقديمات المتعددة خرقاً لبروتوكول التأليف. لذلك اضطررت إلى إعطاء تحفتي الفنية غير المرغوب بها إلى وكيل أو محرر في كل مرة، استغرق كل منهم شهراً لقراءتها. بعد أربع سنوات، كل ما اضطررت لإظهاره من أجل إصراري، كان عدداً من خطابات الرفض. يحتاج المرء إلى الكثير لتحدي القدر. أودّ في الواقع أن أموت كمدقق لغوي.

تغير المشهد إلى بعد عشرة أعوام في لوس أنجلوس، بعد التخلي عن كتابة النثر، أنا الآن كاتب سيناريو ناجح، أقود سيارة فولفو، أعيش في بيت جميل، وقد تحول أفضل سيناريو أصلي لي إلى فيلم كبير في هوليوود. وقد صقّل كاتب آخر السيناريو قبل بضعة أيام من التصوير. السيناريست الذي حوّله إلى الشاشة تقيّد بقصتي تماماً، كان 90 % من الحوار الذي أجريته يُنسب بالكامل إلي، ومع ذلك فقد تشبه إلى حد كبير وجهة نظري، كوجه الشبه بين مزيل الروائح الكريهة المتدلي من السيارات، وشجرة صنوبر حقيقية. كانت خيبة أمل تجارية ومصيبة خطيرة.

كان وقتاً جيداً للتوقف وقياس حياتي. كان تفكيري يجري على النحو التالي: إذا كان من الممكن إعادة كتابة السيناريو، الذي كان بطاقة الاتصال الخاصة بي لمدة عامين، وأكسبتني الملايين من الدولارات في المهام، في اللحظة الأخيرة، وتحولت إلى محاكاة ساخرة على نطاق واسع، إذاً لن أكون في أمان.

إذا كان السيناريو السينمائي في الأستوديو سيحقق لي أي نوع من الإشباع الفني، فسيكون عن طريق الصدفة، وليس بالتصميم.

فخر التأليف لم يكن ببساطة جزءاً من الصفقة.

في ذلك الوقت صادف أنني كنت أقرأ سيرة سومرست موغام التي تعلمت منها أن أعظم رواية لموغام هي "عبودية الإنسان" التي نشرت عندما كان يبلغ من العمر الواحدة والأربعين سنة. كان في الواقع مراجعة لمخطوط غير منشور من فترة الشباب. هذا جعلني أفكر: ماذا لو أخذت نظرة أخرى على "ما رآه فرانسيس؟" قد يكون هناك شيء يستحق المطالبة به في تلك الصفحات الستمائة من العمل الشاق والأنانية المجنونة. وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن العودة إلى الكتابة الروائية حتى ولو كانت مؤقتة، هي بالضبط ما أحتاج إليه كترياق للإذلال المتصاعد في حياتي ككاتب سيناريو.

جلست وبدأت بإعادة قراءة "ما رآه فرانسيس". من المؤكد أنه كان هناك الكثير من المواد الجيدة، ولكن كانت قابلة للاستخدام فقط إذا تمكنتُ من إيجاد طريقةٍ لنقلها من المعالجة الذاتية إلى العالمية. مستوحياً مرةً أخرى من موغام، تخيلت الراوي أول شخص يقع خارج العمل، ولكن مع اهتمام عاطفي في كل حركة يقوم بها فرانسيس. يجب أن يكون هناك شخص ما يراقبه دائماً كالأخ الأكبر، ويكون مغروراً لدرجة كافية بحيث أنه يروي حتى حياته الداخلية. ولكن لماذا تستثمر شخصية أخرى الكثير من الطاقة في بطلي المفقود والموحش؟ الجواب بسيط إنه يحبه بجنون.

من خلال رواية "ما رآه فرانسيس" قمت بتشكيل رواية جديدة تسمى "كريستوفر" (Christopher). كما كشف الراوي المتيم نفسه لي، اتخذت قراراً واعياً بعدم السيطرة عليه، ولكن السماح له بالوقوف والتجول وتقديم نفسه لي، فكانت النتيجة برايث كينث تروب ( Bryce Kenneth Troop) ( اختصاراً B.K.) وهو شخص أصلع طويل القامة منمش في منتصف العمر، ومثقف وذكي وعاطل عن العمل غير متوازن كيميائياً ومثلي الجنس، مدمن على الكحول، ويحب نبرة صوته. بما أنني لست من الذين يكتبون كثيراً على الآلة الكاتبة، فقد كان كل ما يمكنني فعله هو مواكبته.

على الرغم من شكوك الذات المستمرة وإغراء عمل السيناريو الذي يدفع أجوراً عالية، إلا أنني واظبت على الكتاب من دون اكتراث بالنتيجة. تاركاً العنان لـB.K). ) ليقود الطريق. ولأنني كنت أبني على أساس جيد ومتين، فإن رواية "كريستوفر" لم تأخذ مني عامين آخرين لكتابتها، بل أخذت أقل من سنة واحدة. عندما انتهيت منها، بدلاً من إرسالها إلى كومة طين، أرسلتها إلى وكيل الفيلم في وليام موريس، والذي أحالها على الفور إلى مكتب نيويورك وإلى أيدي أسطورة الاحتراف جنجر باربر. أخذتها معها في عطلة نهاية الأسبوع في الرابع من يوليو، وبعد بضعة أيام، اتصلت وقالت إنّها تود تمثيلها.

بعد ظهيرة أحد أيام الجمعة، عندما كنت أقود سيارتي إلى وارنر براذرز، بعد اجتماع حول السيناريو، تلقيت مكالمةً من جنجر تقول لي إن برود واي بوكس، قسم دبلداي قد قدم عرضاً على كريستوفر. في هذه المرحلة من مسيرتي المهنية، استمتعت بالكثير من الأخبار الجيدة بعضها يحتوي على مبالغ فاحشة من المال، ولكن لم يسبق لي أن تلقيت أي اتصال مهني سبب لي حتى نصف هذه السعادة (ولا حتى الآن). عندما عدت إلى المنزل، تعجبت من أن كل تلك الساعات الطويلة واليائسة في العشرينيات من عمري، وأنا منكب على الآلة الكاتبة اليدوية، قد توصلت بالفعل إلى نتيجة ما. أريد أن أمرر درساً للكتّاب الشباب: إن العمل بجد نادراً ما يذهب سُدى. تمسكْ بكل الخردة التي تكتبها، أنت لا تعرف أبداً كيف ستسفيد منها في مسيرتك.

لم يتضح أن نشر روايتي الأولى هو القصة الخيالية التي تصورتها منذ زمن طويل. بعد بضعة أسابيع من توقيع العقد كشفت لي جنجر أن رئيس التحرير مثلي الجنس كان متحمساً جداً ليكتشف ما اُفتِرض أنه كاتب جديد للشواذ، ونصحتني بعدم البوح بأية كلمة له عن حالتي الجنسية الطبيعية. أنا صريح على الخطأ، لذلك فكرت في العيش في خزانة مستقيمة كانت لعنة بالنسبة لي، لكنني ذكّرت نفسي أن التوجه الجنسي للمؤلف يجب ألّا يكون له علاقة بقبوله. إذا كان القرّاء ضيّقي الأفق، بحيث يستخدمون استقامتي ضدي، فإنهم لن يكونوا مؤهلين للحقيقة. أليس كذلك؟ بعد كل شيء الأمر ليس كما لو أنني اخترت أن أكون مستقيماً. نظراً لعدم وجود الطرافة والجمالية والجنس السهل فمن سيرغب؟ عندما خرجت رواية "كريستوفر"، ظهرت في البرامج الإذاعية للمثليين وعلى قامة الكتب في مكتباتهم. اختارها المحامي كأحد أفضل القراءات في الصيف. الصحافة الحرة في شيكاغو قالت عنها عليها: النثر في الصفحة تلو الأخرى بارع، فاحش، بذيء، ثاقب، لطيف، رومانسي.

وحذّرت "أنستينكت": "سوف تجد نفسك تُكسّر وتشكر القوى العليا الخاصة بك أنك لست ذلك القدر من الملكة الملتهبة"، ومع ذلك وبصرف النظر عن الهذيان في صحيفة صاندي لوس أنجلوس تايمز، فإن الصحافة السائدة بالكاد لاحظت الكتاب. وضعتها سلسلة المتاجر في الخلف في قسم المثليين.

ثم بدأ أصدقائي يفكرون مليّاً. عند التحدث عن الكتّاب النساء نادراً ما يذكرن الميول الجنسية لـB.K.) ) صرّح الأصدقاء الذكور المثليون علنية بالأدب الباطن. كان فقط أصدقائي الذكور المستقيمون كلهم من الليبراليين المزعومين الذين أعربوا عن استيائهم. البعض رفض قراءة الكتاب، آخرون اعتقدوا أنني أحمق. أعني ماذا لو أزعجني الناس مع B.K.) )؟ ماذا لو ظن الناس أنني مثليّ؟ آخرون أكثر انفتاحاً، أعربوا فقط عن أملهم المهذب في أن تكون روايتي الثانية أكثر تعميماً

  • لم تكن كذلك
  • رواها أيضاً (B.K. )
  • كذلك كانت التالية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أليسون بورنيتAllison Burnett : روائي ومخرج سينمائي وكاتب سيناريو أميركي يعيش في لوس أنجلوس. أخرج الفيلم المقتبس من روايته جيرل الغامضة ( Undiscovered Gyrl ).

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم