لم أكن أعرف أن أول محاولة لي في كتابة رواية، وأنا في سن المراهقة، سوف تعاودني قبيل بلوغ الأربعين من أجل صياغة أخرى لتلك الرواية الأولى.

أذكر أنني كتبت روايتي الأولى بطلاقة، وقلم سيال، غير مكترث لقارئ أو لناقد. كانت تلك الكتابة لي أنا، أولا؛ لأفرح بها! يومذاك كانت الكتابة سرا لا يخلو من بهجة.

ظلت الخطوط العريضة لتلك الرواية الأولى هاجسا، لازمني وما يزال يلازمني. لكنني أضعت مخطوطتها وبدأت أعيش بعيدا عنها، قريبا منها أحيانا.


كتبت، ودرست، وأحببت، وسافرت، وفرحت، وتألمت، حتى بلغت عتبة الأربعين، فناديتها.

    • *

جاءت ضبابية، محتشمة، ريفية، لم تسافر مثلي أبدا. ظلت أمكنتها نقية في الذاكرة. الذاكرة التي اغتنت فيما بعد بأمكنة أخرى وبشر آخرين في المشرق والمغرب وأوروبا، كما عايشتْ حروبا ومغامرات لا تحصى.


عندما ناديتُها كنتُ قد كتبتُ الشعر وما زلت أكتبه. خضت تجربة الترجمة فترجمت أشعارا عالمية ووجّهني سوق العرض والطلب إلى ترجمة الرواية أكثر. مترجم الرواية يقرؤها عدة مرات. وأكثر من ذلك: إنه يعاشر أسلوب الكاتب الذي يترجم له، ويكاد يطل على لحظة الكتابة الحميمة الموزعة على الاختيار بين المفردات والتعابير وبين الشطب وإعادة الصياغة.


وحتى قبل الترجمة كانت قراءاتي موزعة بين الشعر والرواية وبقية المصنفات الفكرية. كان الشعر أسهل تداولا ونشرا واستقبالا شفويا. ومع ذلك بدأتُ بالسيَر الشعبية التي حببني فيها خال أمي؛ ذلك الإسكافي الذي كان نصف حكواتي في أوقات فراغه! ملت في تلك الحكايات إلى أشعارها، فقلدتها، ثم بدأت باكتشاف كتب التراث، وقد فرغت للتو من المرحلة التعليمية الابتدائية.


عندما أمعنت في الشعر، وفي السفر، وفي الدراسات الأكاديمية لاحقا، أثقلت الفلسفة زوادتي.


كان الشعر يتغذى من كل ذلك.

لم أنشر مجموعتي الشعرية الأولى ضمن كتاب إلا في وقت متأخر جدا. لذلك لم تكن مجموعتي " حافة الأرض" هي الأولى حقا وقد جاءت مسربلة بالسرد والحواريات وتزاحم الأصوات والشخوص. صدرت في بيروت سنة 1983 عن دار الكلمة التي ترجمت لها رواية "خريف البطريرك" لغابرييل غارسيا ماركيز.


عندما ناديت "روايتي الأولى" تلك، كي أكتب "روايتي الأولى" هذه، سئلت في أكثر من مناسبة: لماذا تخليت عن الشعر وانتقلت إلى الرواية؟ وفي الحقيقة لم أكن قد تخليت عن الشعر، ولم "أنتقل" أيضا. كانت روايتي الأولى في أدراج دماغي وغبار خطاي. وكانت الأربعون تقترب أيضا؛ إنها مرحلة الجرد والحساب: مرحلة الموازنة!


صدرت روايتي الأولى " توقيت البنكا" وجمعتُ فيها بين النداء القديم وتجربة المسافر المتمعن في خطاه. أرسلتها في البداية إلى منشورات توبقال المغربية فاعتذرت عن عدم النشر لأسباب مادية كما قيل لي آنذاك. قرأت خبرا عن مسابقة مجلة الناقد فأرسلتها إلى دار الريس. وكان أن فازت بجائزتها، في بدايةٍ أفضل بكثير من أية بداية مغربية أو مغاربية كما اعتقدت وأعتقد.

ثم توالت رواياتي بحثاً عن روايتي الأولى التي لم أكتبها بعد: شمس القراميد، دانتيلا، مملكة الأخيضر، بيروت ونهر الخيانات، عتبات الجنة.


أسئلة كثيرة تحيط بتجربتي الروائية: أستدعيها الآن ولا أرغب في استعادة الإجابة.

  • ما الحدود بين الشعر والكتابة السردية؟

  • ما مدى تأثرك بما ترجمت؟ وبما قرأت، طبعا!

  • تبدو كتاباتك نخبوية؛ فلمن تكتب؟

    • * أين أقف؟ في البرزخ، أجيب. لست مواطناً كثيرا. وقد استقبلني أهلي كذلك، بهذه الدرجة أو تلك. لست مغاربيا كثيرا؛ ولست مشرقيا، رغم لكنة وخليط من اللهجات والعادات وصفاء في الأداء؟

قلت: أقيم في ما أكتب. وصعب عليّ تغيير بيتي. وبقيت شبابيكي مفتوحة على كل ريح... بما في ذلك تلك التي أطاحت بي وتطيح...


  • روائيّ وشاعر ومترجم من تونس.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم