منذ انشغالي بتأليف كتابين؛ "مجموعتين قصصيتين"، وطيف الرواية يحلق في سماء أفكاري ويشغل بالي.
وأنا أفتكر في الأمر، لم يكن لي آنذاك أدنى تصور حول الموضوع الذي ستتناول الرواية حكايته التي أملت أن أكتبها بشغف المتحدي لنفسه، ولا عن الشخصية الروائية التي سيُسند إليها لاحقاً الدور الرئيس، ولا الشخوص التي ستتمركز حولها الحكاية وتواكب مسيرة حكاياتها. لكن رغم كل هذا وذاك فكنت قد وجدت نفسي منساقاً لتحقيق هذا الأمل، منجذباً لكتابة روايتي التي شغلت بالي.
وما زال طيف الحكاية بفضائها وشخوصها يزورني بين الفينة والأخرى، وكأنه بهذا يُقرئني السلام، كما يفعل عابر سبيل وهو مار بمجلس، غير آبه بما كنت أتخبط فيه من صعوبات التحدي، وما استُعصي علي من أفكار لعلني أجد لها سندا أو مسلكاً يُرجى من ورائه الظَفرَ بغنيمة الكتابة، وهل كوني حقاً كنت قد اقتنعت كل الاقتناع لحد تلك الساعة، وأضحيت قادراً على تطويع خيوط نسج الحكاية، حتى أظفرَ بكتابة رواية بيسر وتوافق، أم أنه حلم راودني، وربما وهم قد لا يُكتب له أن ينشأ ويتحقق؟. ووجدتني متردداً متحيِّراً، غير متحمّس لخوض التجربة بصعوبات لم أكن أدركت حساباتها بعد، حابساً أنفاسي كمروّض أفاعٍ، متصيداً فرصة لن تُعوض كي تشهد على ولادة رواية؟.
هكذا إذن وقد بدا الأمر من أول وهلة كتسلية لقضم الوقت وطحن سويعاته المملة، أو كذاك الحلم الذي يُفنى بمجرد ما نستيقظ من كابوسه. حقاً بدا الأمر صعباً ومعقدا بل مريباً ومرعباً.
وارتأيت كبادية تُشجع على الاستئناس أن أرسم خريطة لمعالم روايتي القادمة، أستهدي من خلال مساراتها المضيئة نسج المتخيل في ذاكرتي التي بدت فطنة متيقظة بشكل غير معهود، ومن ثم ذلك يمكن أن أضمن لنفسي عبوراً آمناً إلى عالم لم أخبره بعد، وبهذا حتماً ستنحل عقدة التلكّؤ التي لازمتني منذ وقت طويل، وسلمت أفكاري عن طواعية لرغباتي حتى تنقاد إلى معابر التيه الذي يوصل إلى نتاج رواية.
وبهذا تحديت رغبتي تلك التي نشأت في غمر الفرحة، لكن شيئاً ما ظل غامضاً، قابعاً في دهاليز النفس المظلمة، عالقاً في مستنقع التردد الذي يمس عادة الكاتب قبل الشروع في خطاطة عمل، ولا أعلم ما كان سرّ هذا التردّد لحد الساعة وأنا أكتب هذه السطور عن حكايتي مع روايتي.
وظللت متردداً متخاذلاً طيلة تلك السنوات. لكن قد تحدث أشياء تلعب دور القنطرة التي سوف نعبر منها إلى هنالك، إلى ذلك الجانب الخفي من حياتنا، وبهذا ينجلي ظل الغموض الصاعق الذي لف فهمنا في أحايين عديدة لأمور بسيطة رغم أنها بدت منذ البداية مستعصية على الفهم ومن ثم إيجاد حلول متوافقة. أن تلعب دور النقطة التي أفاضت الكأس، وأعتقد أن هذا ما حدث معي وأنا أستمع إلى شهادة صديق ونحن نتحادث عن طنجة.. وتاريخها العريق.. وفضائها الشاسع.. الممتد أمام الضفة الأخرى.. وعن عاشقي المدينة.. من كتاب، وأدباء، وفنانين، ومثقفين، وسياسيين.. وعن تلك المرأة التي عاشت هنالك وألهمتني لأكتب روايتي.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

لم أركن في جحر اليأس.. فكتبت روايتي.. لقد ظللت على صلة وطيدة بالإبداع أينما حللت وارتحلت، أقرأ من روايات الكبار ما يفتح شهيتي للكتابة.. وأستقصي من أخبارها وأخبار كتابها ومبدعيها ما يلهم أفكاري، بل أخبار جل الأدباء والمبدعين التي آنست من وراء تتبع مسيراتهم الإبداعية ما يُسند حلمي حتى يتحقق.. فتسكعت باحثاً عن منفذ أعبر منه إلى عالم الكتابة. أدرب قدراتي على التمرين والتركيز والكتابة، لأستخلص في نهاية المطاف خلاصة مفادها؛ أن درب الإبداع والكتابة درب طويل متشعب.. شاق ومتعب..
ووجدتني في لحظة ما أغوص في نشوة النصر الذي لم يتحقق منه غير بداية محتشمة، وغدوت كما العاثر على كنز مفقود في صحراء قاحلة، ولم يكن غير تلك المياه العذبة الدافقة. وعثرت على مفتاح سر روايتي، وبابه الذي ظل مظلماً، موارباً أمامي لسنوات طويلة؛ وكان حكاية سيدة عاشت في طنجة زمنا،ً وماتت بها ودفنت في ترابها. وكلما حكى لي صديقي عن تلك المرأة هيأت أوراقي، أسجل على بياضها ما يبدو مثيراً وغريباً في حياة المرأة، منصتاً ومصغياً له باندهاش، صامتاً، وكأني بصمتي هذا شرعت أرسم لها صورة.. وأقرأ لها سيرة.. أسائلها فتجيبني.. أتطلع إلى عينيها فتحملق في وجهي بعشق المرأة التي فقدت عزيزاً على قلبها، وكنت وكأني بهذا الشعور المثير قد شرعت حقاً أرمم بقايا الأيام من سيرة المرأة وتاريخ المدينة، أقطف من بستان حياة السيدة ما يلقم تخييلي. وكانت حكاية "جمانة" روايتي التي ظللت أبحث عنها زمناً طويلاً في ذاكرة استُعصي عليها أن تُوجد في ثنايا أفكاري شخصية مماثلة لشخصية السيدة "جمانة امرأة البوغاز ". لم تكن السيدة جمانة شخصية تخييلية بقدر ما كانت شخصية واقعية كباقي نسوة المدينة، عاشت لتحكي قصتها، لترسم أيامها ولياليها بالنشوة والألم، وحيث تنقضي أوقاتها ما بين الحنين والغربة.. ما بين الفرح والألم.. ما بين السعادة والتعاسة.. ما بين الحضور والغياب.. عاشت لتصبح شخصية روائية؛ لرواية "جمانة امرأة البوغاز". ولتشد انتباهنا إلى مرحلة تاريخية لمدينة طنجة ولتاريخ نسوة عشن في هذه المدينة المشرقة.
لم أرو في روايتي هاته كل ما باحت به السيدة جمانة من أسرار لأقربائها وجيرانها، فقط ما أمنت من ورائه أنه قد يغدو مع مر الزمان شاهداً على امرأة ومدينة، عاشت لحقبة زمنية تحفل بالاختلاف الذي لم تحفل به مدن أخرى كثيرة غيرها. تاركاً لنفسي بعض أسرار السيدة جمانة، أستأنس بفيء ظلالها في وحدتي القاسية.. متأملاً.. وموقناً أن لكل واحد منا أسراراً لم يرغب يوماً ما في أن يفصح عنها لغيره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • قاص وروائي من المغرب.
  • من مواليد مدينة تطوان/ شمال المغرب؛
  • عضو اتحاد كتاب المغرب ؛
  • صدر له: بيوت ورمال "مجموعة قصصية" الطبعة الأولى 2006م. " مطبعة الهدايا " / تطوان المغرب؛
  • سيدتي الشاعرة "مجموعة قصصية". 2012م . مكتبة سلمى الثقافية / تطوان. المغرب؛
  • بيوت ورمال "مجموعة قصصية" الطبعة الثانية 2015م. مكتبة سلمى الثقافية / تطوان. المغرب؛
  • "جمانة امرأة البوغاز" رواية. الناشر: شركة النشر والتوزيع المدارس. بدعم من وزارة الثقافة المغربية. الطبعة الأولى 2015م؛

الرواية نت - خاصّ

جمانة

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم