أسئلة الهوية والحفر في الماضي
لا أعرف إذا ما كنت أريد أن أكون كاتباً أم لا حين كنت أضع رأسي على المخدة وأنا أحاول إعادة سرد حكاية جدتي عن طفولتها وصباها في يافا قبل النوم، حكاية تمتد حتى تصل إلى خروجها الرهيب تحت تهديد السلاح والقصف والقتل والتدمير من مدينتها الجميلة إلى سوافي الرمال قبالة شواطئ غزة؛ لتستبدل بيتاً جميلاً على شاطئ "عروس البحر" بخيمة على سوافي الرمال. ما كنت أعرفه أنني كنت أريد أن أحكي حكاية جدتي، أن أكتبها. وحتى يومي هذا ما زلت أقف مبهوراً أمام تلك الجاذبية التي كانت تجعل من حكاية معجونة بالألم تروق لطفل لم يبلغ العاشرة بعد. كانت جدتي راوية ماهرة، كأنها تنسى أنها تروي حكايتها وتأخذ الحكاية الجماعية لأهل حارتها ورفيقاتها في يافا تتسلل بخفة لتهيمن على الحكاية الشخصية. في الحقيقة كنت محاطاً بمجموعة كبيرة من الرواة المهرة، ففي المخيم حيث ولدت وترعرعت، كان الناس بارعين في رواية ماضيهم، لأنه الواقع الغائب الذي يشكل نقيض حاضرهم المرّ. الجمال مقابل القبح. تعجّ ذاكرتهم بالأحداث الجميلة واللحظات السعيدة التي يبدو يومهم أمامها كابوساً مريراً. لذا كنت أشعر دائماً أنني أريد أن أكتب قصص هؤلاء الناس، حكاياتهم، أن أصف ماضيهم قبل أن يجف الكلام من شفاههم الرطبة بحلاوته. بدأت أسجّل بعضاً من تلك القصص في دفتر خاص وأنا في المرحلة الإعدادية. أحداث وأشخاص وأماكن لا ينظمها شيء إلا خط يدي. لكنها كانت مليئة بالفقد والبحث المحموم عن لمّ الشمل واستعادة الماضي. أول محاولة جادة لي لكتابة قصة تمكن قراءتها كانت خلال فترة أسري في سجن النقب الصحراويّ عام 1991. كنت في الثامنة عشر من عمري. كتبت قصة قصيرة لتوزّع على رفاقي في الخيمة خلال شهر رمضان. القصة تصف يوماً حافلاً في حياة والدة أسير تستعدّ لاستقبال ابنها بعد إطلاق سراحه. تكنس البيت مرّات ومرّات، تعيد طلاء الجدارن، تزيّن الشارع، تذهب للسوق مرة بعد مرة خشية أن تكون قد نسيت أن تشتري شيئاً يحبه. ثم وما إن تعانقه عند بوّابة الحاجز الإسرائيلي حتى يخبرها الشباب أنّ الجيش اعتقل ابنها الآخر. تبدو قصة عادية. لكنّني ما زلت تحت تأثير سخرية أحد رفاقي الأسرى وهو يستنكر أحداث القصة إذا أنني أضعت وقته كما قال حتى أخبره أن ابناً خرج من السجن ودخل ابن آخر. القصة بالنسبة لأسير مثله يجب أن تقول له إن الأسر والسجون لا بدّ أن تنتهي، فهي ليست أبدية. كأنه يقترح أنّ الأدب يجب أن يعطي الناس الأمل، أن يجعلهم يفكّرون أيضاً في الغد، يجب أن يعني لهم شيئاً. وعليه فالقصة ليست مجرد أحداث وأشخاص وأماكن. محاولتي الأولى في كتابة الرواية كانت بعد ذلك وخلال دراستي في جامعة "بيرزيت". خلال تطوّعي في المخيم الدولي الذي تنظّمه الجامعة في الصيف فوق التلال المحيطة بالجامعة، قابلت فتاة أجنبية شاركت في المخيم التطوّعيّ. قالت لي على حياء إنّ والدها فلسطيني لكنها لا تعرف شيئاً عنه. قصة يمكن سماعها كثيراً. لم يكن ثمة ما يثير في حكايتها أكثر من الحكايات الأخرى. لكنها كانت تصلح لأن تكون منطلقاً لكتابة رواية افتراضية عن شاب أجنبي يصل إلى البلاد ليبحث عن عائلة والده الذي تزوج أمه خلال دراسته في الغربة ثم توفي في حادث طريق. مصادفة عادية لكنها تحمل الكثير من المصادفات الأخرى التي تجعل الرواية تجري مثل ماء في جدول. يبحث الشاب في غزة عن والده الذي هاجر من يافا، لا يملك إلا بعض الأوراق المتناثرة التي تشكل يوميات غير مكتملة وغير مترابطة. فالبحث عن الماضي يتطلب إعادة بنائه أيضاً. مثل البحث عن الآثار. رحلة بين الماضي والحاضر، بين الوطن والمنفي. تتداخل فيها قصص كثيرة وحكايات مختلفة تساهم في تعقيد وتقعيد الإجابة عن السؤال. استعنت بالكثير من القصص والحكايات التي سمعتها عن حياة الناس في يافا وعن خروجهم القهريّ منها، كما أعملت بعضاً من المعلومات التي توفرت لي من القراءة. الرواية التي حملت عنوان "ظلال في الذاكرة" شكلت، حتى على صعيد الاسم، السؤال الكبير الذي كنت أظن أن حكايات الناس تدور حوله. ظلت تلك الظلال حافزاً كبيراً لاستكناه الحقيقة. الحقيقة التي لا يمكن للأدب أن يزعم أنّه يقبض عليها، لكنّه يحكي عنها. فكرة الهوية والحفر في الماضي ومحاولة ربط الحاضر بوشائج وأوردة من الماضي كان السؤال العظيم الذي يقف خلف كل الحكايات التي كنت أسمعها في المخيم في طفولتي خاصة قصص جدتي عائشة التي تمنيت يوماً أن أكتب قصة حياتها. يبدو الماضي مجموعة ظلال متشابكة متداخلة، لكنها في تشابكها وتداخلها هذا تصوغ حاضر الناس. فالأسئلة لا تغيب من حياتنا، إنها فقط تعيد تشكيل علامة الاستفهام. تظل، بالطبع، الإجابة عن تلك الأسئلة مجرّد معالجات روائية لا تعني أكثر من محاولة من محاولات عديدة. وعليه كنت في حيرة من أمري: هل أجعل الشابّ يقرّر أن يعيش في فلسطين أم يعود أدراجه إلى حيث يعيش..؟! طبعاً أي نهاية كانت تعني موقفاً تجاه السؤال الفلسطينيّ الكبير. كأن مثل هذا الاقتراح يريد أن يقول إنّ الرواية الأولى هي أم الروايات، ليس بالمعنى الجيني ولا الزمني بل أيضاً بما تحويه من طزاجة الأسئلة وبراءتها. لكنني ظللت بعد ذلك وخلال كلّ كتاباتي الروائية والقصصية أعيد على نفسي دائماً الأسئلة ذاتها التي كانت تعتمل في عقل الفتى الذي كنته وأنا أستمع لقصص جدتي وقصص جيراني في المخيم، الأسئلة التي فرضت نفسها بقوة في روايتي الاولى، والإجابات غير المنجزة التي تجعل من استعادة السؤال أمراً محتوماً دائماً. ربما لا نتخلص من الأسئلة بسهولة. قد ننسى الإجابات بسهولة، لكننا لا ننسى الأسئلة لأننا نبحث عن إجابات جديدة دائماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- روائي فلسطينيّ، من مواليد غزة بفلسطين 1973، درس اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة بيرزيت بفلسطين، يحمل درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة برادفورد بإنجلترا، ويحمل كذلك شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فلورنسا بإيطاليا. دخلت روايته "حياة معلقة" في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2015. له في الرواية: "ظلال في الذاكرة"، 1997، "حكاية ليلة سامر"، 2000، "كرة الثلج"، 2001، "حصرم الجنة"، 2003، "حياة معلقة"، 2014، "الحاجة كريستينا"، 2016
الرواية نت
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات