يلقي الاغتراب بظلّه في ثنايا روحي، يستهويني كثيراً، وكم كنت أتمنى أن أكتب عنه أي شيء.. خاطرة، قصة، قصيدة، أو حتى رواية، لمَ لا؟! هكذا كنت أدخل في حالات تستعصي على تفكيري أحياناً، لأسأل نفسي: كيف أكتب؟ ماذا أكتب؟ وكيف أبدأ؟ وتبقى الحيرة تلفني بوشاح مختلف الألوان، حاولت كل جهدي في ذلك. لم أكن أفكر في أية لحظة بالرواية، مع أنّها كانت الأقرب إليّ من ألوان وأجناسها كلّها، لأنّني أتماهى معها حدّ النسيان، أحملها بشغف وحبّ، وأقضي معها وبها لحظات رائعة، استقرّ رأيي على كتابة الرواية فهي بالكاد تفي بإشباع عشقي اللامتناهي للكتابة. تملّكتني حالة لم أعرف كيف أخرج منها، لأن الرواية تسبر أغوار الحياة كلها بحثاً عن حقيقة غائبة، ونبقى ندور في فلك أحداثها في رحلة أبدية، نرتدي الصمت لغة حالمة، وحين يبلغ بنا مداه نحتاج إلى التكلّم، إلى التعبير عن لحظات تلمّ بنا، ربما تصبح لوهلة الوجود كلّه. عندما تبدأ الكلمات تنهش أجسادنا المتعبة، التي لا تقوى على حملها، وتدخل في صراع لا نهاية له، يدفعنا الحنين إلى الماضي، فيبدأ القلب بسرد حكايته، هكذا تولد الحكاية، هكذا تقتحم الرواية ذاكرتنا، روحنا، وتحصد من رحلة عمرنا أياماً جميلة، عشناها بكلّ تفاصيلها، روعتها، إرهاقها، مرارتها، وأخيراً، وليس آخراً، العذاب الممزوج بالحبّ والفرح، لولادة طفل لنا، يملأ صراخه الحياة، ويتحدّث باسمنا وحروفنا عن قلبنا الذي يحمل ثورة تاريخ مضى، ويفجّر في داخلنا زوبعة وينابيع تتدفّق نحو الأبدية، حيث لا خلاص، ولا منفى أخير يفتح لنا صدره لنأوي إليه من وجعنا، ورحلتنا المضنية.. هنا الشوق إذاً يسترسل قصائده في قلبي على أوراق كانت مبعثرة، صارت صفحات حفلت بتوقيع نبضي الذي لم يتوقف على مر سنة ونصف تقريباً، شكلت المنعطف الأول في حياتي، ودربي الذي سيمضي بقطار لا يعرف السكينة، ليستنزف رويداً رويداً دمي المستباح على مذبح الكتابة، فتغدو المقبرة لروحي، وتصبح الرواية دفتر الحب الذي أفتحه كلّ صباح لأقرأ فيه بنشوة كل ذلك الفرح الذي كان يوماً ما بداخلي فغادره في لحظة تجلٍّ، ليستقرّ بين دفتي كتاب أسميته "الصوت المخنوق" ويغادر ظهري بحمله الذي أثقل كاهله كثيراً. هي الرواية الأولى، هي الطفل الأول، العشق الأول الذي يعيدني كلّما أحمله بين يدي بكلّ براءته وجماله إلى الخلف خطوات، لأعيد تسلسل الأحداث بصخب وجنون في داخلي مثلما بدأت هذه الرواية بالتشكّل صخباً وجنوناً، ودفعتني لسبر أغوارها وإخراجها إلى النور لتتعرّف إلى العالم الرحب، فأنعتق أنا من أسرها، ومن سطوتها... هي حكاية الوطن، حكاية السفر، وحلم لم ينجبل بعد.. صوت يرفض المنفى، ويرقص على أوتار البقاء ليتمسّك الإنسان بآخر خيط من نهاره المتعب في سماء بلاد ممزقة الأوصال، مترامية في قلوب مهاجرة كهجرتها، وهجرتهم إلى كلّ العوالم لتتردّد صدى الآهات في غربة تكتمل ملامحها في عيونهم وأشواقهم، وتشتعل منادية الريح لتعود بالسفن إلى مراسيها، ومراح أحلامها، كما فعلت أول مرة.. هي فكرة ولدت من تفاصيل واقع حفل بالكثير من القصص والحكايات التي لا تنتهي، حديث أشخاص، نجوى من كانوا هنا يوماً ورحلوا، مجتازين حدوداً وحواجز - نالت هي الأخرى من بعضهم فكان الموت المتربّص بهم- ليستقرّوا في أرض تفتح في مخيلتهم ينابيع الذكريات، فيعيشون متمسكين بآمال واهية للعودة مرة أخرى إلى ملاعب طفولتها عبثاً.
كنت مشغولا بكتابة شيء ما، لا أتذكّره بالضبط، حين خطرت لي، توقّفت عن الكتابة لبرهة، داخلني شعور غريب، أحسست بأنني أمسكت بطرف الخيط الذي سيأخذ بيدي للنهاية التي كنت أبحث عنها، لأنني طالما أردت الخوض في هذا الموضوع، وكتابة شيء مهما كان بسيطاً عن سفر الإنسان واغترابه عن وطنه.. أقبلت حاملة تباشيرها، وخلقت فيّ رغبة عارمة للكتابة، وكانت عبارة عن قصة سفر أحد الأشخاص إلى ألمانيا، وهي قصة ككل القصص التي سمعت عنها كثيراً، لست أدري ما الذي دفعني إلى الانشغال بها لفترة من الزمن، حتى اكتمل المشهد في مخيلتي، فبدأت بمحاولاتي الأولى للكتابة، طبعاً لا أكتم سراً، كتبت هذه الرواية، ومزقتها كثيراً، ويمكن أن أجزم بأنني مزقتها أكثر من سبع مرات حتى دخلت طورها النهائي، وقمت بإجراء تداخل كبير، وتمازج بين المواقف التي مرت بي في الحياة، والأحداث التي شاهدتها، وسمعت عنها، والشخصيات التي تعرّفت إليها في هذه الرواية، وخلقت بينها نوعاً من التآلف والانسجام والتواصل، وتم ربط كلّ شيء، وجمعه في قالب زماني ومكاني واحد، وأستطيع القول إن هذه الرواية تأخذ منحىً زمنياً يستمر لأكثر من عشرين سنة، وهي محصلة عمر بطليها: (سالار- آهين). يبدأ الحدث في مدينة عامودا، وبالتحديد في قرية بالقرب منها بتعرّفهما إلى بعضهما، ودخولهما في قصة حب مؤلمة، إذ يرفض والدها تزويجها إياه، فيضطر للسفر لتحسين أوضاعه من أجل العودة، وخطبتها مرة أخرى، على الرغم من إدراكه أنه لن ينالها أبداً... يسافر إلى ألمانيا، ويسرد لنا تفاصيل رحلة السفر الموجعة، وتعرضهم لعاصفة بحرية، وغرق بعض المسافرين في البحر، كما حصل مؤخراً مع الكثير من المسافرين السوريين، إضافة إلى حوادث أخرى متماهية مع الخط الرئيس في الرواية، منها اغتراب صديقه الذي اضطر هو الآخر إلى السفر ليحقق رغبته في أن يصبح فناناً مشهوراً من ناحية، ويتخلص من ظلم والده وإرهاقه له ولإخوته من ناحية أخرى.. فيلتقي بسالار في ألمانيا، ويسرد هو بدوره تفاصيل حياته، وحياة عائلته في صورة وحالة يرثى لها.. للمكان الروائي دور كبير في هذه الرواية؛ فهو يتجسد في صور كثيرة عدا عن كونه الوطن؛ منها أنه يتحول إلى شخصية يروي، ويسرد وقائع وأحداث كثيرة بدوره.. والزمن أيضاً لوحة تكمل كل الأحداث والمشاهد، مساهماً في إيضاح وشرح تفاصيلها الدقيقة، وهو متحول جداً كما الشخصيات، وهو السبب في كل ذلك التغير الذي يطرأ عليها، وهو المشيئة في أن يضرب هؤلاء الناس في الأرض، يقصدون ملاذاً أخيراً يأويهم، ليتداووا بالبعد من البعد، فهم معه في اغتراب دائم؛ نفسيّ وجسدي... منحتني هذه الرواية قوة معنوية كبيرة، وحافزاً قوياً للكتابة والمتابعة، لأتمكّن من إنجاز وكتابة مشاريع أخرى. وبعد أن استقرت بتفاصيلها بين دفتي كتاب حمل أنفاسي، وحصيلة ليالٍ من السهر الطويل عليه، قررت المشاركة به في جائزة قبل أن أقوم بطباعته، وبالفعل أرسلتها إلى جائزة الشارقة للإبداع العربي - الإصدار الأول، الدورة (14)، عام 2010، وانتظرت بلهفة الخبر السعيد الذي لم أكن أصدقه، أن يكون للطفل الأول الذي طالما حلمت به شأنٌ كبير كهذا الشأن، وكان ذلك إثر اتصال هاتفي تلقيته من أمانة الجائزة في الساعة الثامنة صباحاً، أخبروني أن روايتي قد فازت بالمرتبة الثالثة في المسابقة - أحسست بالرغبة في البكاء، كانت بالفعل لحظة لا توصف- وتمّ طبعها فيما بعد من قبل القائمين على الجائزة، وتكريمنا هناك في الإمارات العربية المتحدة في حفل خاص لتوزيع الجوائز على الفائزين. ــــــــــــــــــــــ • كاتب كردي سوري، فازت روايته الأولى "الصوت المخنوق" بالمرتبة الثالثة في جائزة الشارقة للإبداع العربي - الإصدار الأول سنة 2010، وتمت طباعتها ونشرها سنة 2011م.

112

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم