فروسية في مهبّ الريح
الأحلام كالفقاعات حين تتناثر في الأفق، وتعكس وجهتها عوامل أخرى كاستجابات متعدّدة الألوان والتصوّرات. يتأكّد لك وأنت ترنو إلى حدّ السماء، أو حدّ بعض الفقاعات التي واصلت هذيانها؛ أنّ الحلم أقوى من الخبرة، كما قال باشلار، فأغلب الأحلام يرتبط بالانغمارات والسفريات الداخلية المرتّبة في حيز اللاوعي، لهذا تهدّدنا عندما نخلد إلى نوم عميق، مرجرجة الخزينة اللبيدية، لتلقي بما تبقى من الفقاعات في ابتزاز أسود، سيعرف النور، وينجلي في عمل روائيّ، لا تعرف كيف يمكنك أن تسعفه بالأسماء التي تليق به قد نسميها أحياناً؛ أخطاء البدايات، أو سحر البدايات، أو نشوة الانتماء إلى نادي الكبار. إنّها عملية ذهنية مبهمة، تطبعها تصوّرات نفسية تحكمها الدوافع أحياناً، ما دمت متعجّلاً لأن تكتب كما لو كنت تعتقد أنّ الحياة لن تمهلك إلى الغد، حتى يشتدّ عودك السرديّ، وتسع عضلاتك ذروة التحمّل حالما تهيج عواصف الأقلام الحمراء. آهٍ، من الحروب السرديّة، إنّها أشدّ فتكاً ورهبة وتطلّعاً في الوقت نفسه إلى رصد خطواتك وطريقة حمل سلاحك. إنه مظهر يدعو للسخرية أحياناً في فروسية دون كيخوتة، وأنت تهدّد الريح. كانت الحرب على أشدّها في شعاب نفسي حين أصدرت عمليّ الروائيّ الأوّل. وهو بالمناسبة إصداري الأوّل بالرغم من أنّني كنت قد كتبت عدّة قصص سلفاً. كان عملاً قصيراً لا يتعدّى 80 صفحة كتبته في 22 يوماً بمقهى ليليّ يدعى "شهرزاد"، يختص في لعب الورق والمشاجرات والكلمات البذيئة التي تحرّك بواعث الاستحضار والخيال وتزعزع استبطانات الذاكرة. الكتابة ظاهرة اجتماعية في الحقيقة لا تحتاج إلى العزلة والانسجامات الجاهزة؛ إنّ الشخوص تتحرّك أمامك كأنك تقيم "كاستينغ" من أجل فرز شخوصك المنغمرة مع حدّة التطلّعات والإسقاطات. كانت تحدوني الرغبة في إعادة ترميم خراب روح التاريخ لشعب حسب ما لا يرغب فيه، بل حسب ما يقبله العقل، فجاءت الرواية مسرودة بين الراوي الذي يظهر ويختفي، وهو راوٍ واقعي يؤثث الأحداث، ويوجه السارد على أساس أنه يمتلك من التجربة ما يسمح له بالوقوف عن كثب عند هذا المنحى، فتظهر خصوصيات السارد النفسية والاجتماعية في التكيف مع أجواء الدارالبيضاء في بداية الحرب العالمية الثانية، وقتها ألقت به إلى أتون هذه المدينة الغول رفقة والدته وأخيه فاخترت عنوان " المدينة التي..."، حيث يقول السارد في مستهل الرواية: "كان عاماً غير عاديّ كما حدثني الراوي، والعهدة عليه طبعاً، يبدو أنّني أشاركه مجموعة من الأحداث. صادفته في العديد من المرات يلتهم خبزه الجاف الممزوج بطعم تلك الأيام العجاف التي يشيب لها الولدان". حدث هذا في بلدتي بعد أن أشعلت الحرب الكونية الثانية نيرانها، وأرغمتنا المجاعة عام "الزوين" سنة 1939 على الرحيل إلى مدينة الدارالبيضاء من أجل ملء أحشاء الكرش الملعون الذي عاف جذور "يرني"، وملّ انتظار طبخه ليلة بأكملها، فبعد وفاة والدي لم يعد بمقدورنا توفير لقمة العيش، رغم أنّ والدتي "يزة بنت الفاطمي" كانت لها دراية كاملة بغزل الصوف، يدها تطاوعها طيلة النهار غير أن الأسواق بارت. هكذا كنا مجبرين على الزحف صوب المدينة التي ستشبعنا حتى نصاب بالتخمة. كانت فرحتنا عارمة، إذ سنكتشف عالماً جديداً أكبر من هذا الخلاء الموحش الجائع. يغمرنا إحساس رهيب، يختلط فيه الترجّي بالخيبة وتزداد دقّات قلبي كلّما سمعت من والدتي: " أوشكنا على الوصول. كونوا رجالا. الدارالبيضاء لا ترغب إلا في الرجال". الراوي يخالفني الرأي، ويسند إلي بعنعنته موضحا الظروف التي حفت هذه الرحلة". ص11 كانت رغبة الكاتب الملحاح وقتها أن يرافق الإنسان آنذاك بتصوّراته النفسية والاجتماعية في مرحلة يصعب فيها الحديث عن هذه الهواجس على أساس أنّ الكلّ مشغول بالفكرة؛ الوطن، ويوميات المقاومة، ورصد عدم الوضوح في تبنّي قضية أكبر، تلك التي تلتهم الأشياء الصغرى، فارتأى الكاتب الالتفات إلى الإنسان الملتصق بالأرض، معبّراً عن تصوّراته الخالية من المساحيق والرتوشات. التاريخ الذي يشكّل ذروة الحياة، ويبسط حيّز الانوجاد، ويسمو بالأحزان البسيطة والأرجاء المبطنة، تسعفها لغة تشوبها نغمة ساخطة: "أسمع نقرات خفيفة على الباب كأنها تأتيني من زمن بعيد. في غمرة النشوة أتحامل على نفسي وأفتح الباب. أجدها صديقة حليمة، إنها "يامنة المسكينية"، لها نفس الدروب في عالم القحوب كمبتدئات في بورديل "بوسبير"، حيث البغاء منظم بشكل جيد، وتخضع جميع البغايا للفحص الطبّي الدوريّ. الراوي يعلم الاسم الحقيقيّ لهذا الفرنسيّ الذي يشرف على "القوادة". اقترن اسمه باسم هذا الحي الذي يجمع البغايا، يقفن أمام البيوت متبرّجات معلنات قحوبهن بكلماتهنّ التي توقد حمّى الشهوة، إنه "بروس بيير" يزاوج بين العمل كقوّاد ومخبر يقتنص أخبار الوطنيّين من خلال أولئك الملتحقين الجدد بالحركة الوطنية". لم أعرف كيف كان الراوي يحصل على هذه المعلومات في غاية السرّية؟" 24 ستتوالى الأحداث، وسيلتقي السارد بالفرنسية ستيفاني، وستتغير حياته تماماً، ويرحل صوب الضفة الأخرى، وتعرف الرواية منحى آخر، وسيستقلّ المغرب. لكن، سريعاً ما ستذبل زهرة الاستقلال في نظر من طالبوا به بعد، فيقول الراوي: "رحل استعمار صاحب القميص وحل محله استعمار الجلباب". ص 33 وانساق السارد لحيوات أخرى؛ أحياناً بين صدمة الحداثة، والرغبة في الاندماج في المجتمع الفرنسي بكلّ تلوّيناته، فرفض في الأخير أن يعود إلى الوطن إلا في تابوت مشمّع بعدما فقد كل أهله، وانساق الوطن لسفك أحلام الكلّ مستحضراً قول الراوي: "أتذكر الراوي وهو يفضي إليّ بعنعنته فيقول: "بلاد الذل تهجر". ويقرأ لي أبياتاً يحفظها عن ظهر قلب: سأكون حيثما عشت حياتي متوازن الذات أمام الطائرات لأواجه الليل والعواصف والجوع والسخف والحوادث والإخفاقات مثلما تفعل الأشجار والحيوانات". ص 58 وحتى نحيط أكثر بالعمل الروائيّ الأوّل، ونضمن لأنفسنا مبرّرات هذياننا وخرافاتنا وسذاجتنا السردية، سنغلفها حتما برأي الروائيّ الكبير ماريو فرغاس يوسا: "لا وجود لروائيّين مبكّرين فجميع الروائيّين الكبار الرائعين، كانوا في أوّل أمرهم مخربشين، وراحت موهبتهم تتشكّل استناداً إلى المثابرة والاقتناع".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هشام ناجح: كاتب مغربي مقيم بفرنسا. صدر له: "المدينة التي..." (رواية)، "أبدية الروح" (مسرحية)، "وشم في السعير" (مجموعة قصصية)، "دوار الكيّة" ( رواية)، "حديث الوجوه المائلة" (رواية).
الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات