حتى الآن كتبت ثلاث حارات من الروايات، لا أدري أيّهما الرواية الأولى، كلّها تتقدّم صفوف ذاكرتي، وتقول أنا الأولى، حاولت أن أجري قرعة بينها، لكنها في البداية توافق على القرعة، وتقسم بكل آلهة السرد أن تلتزم بنتيجتها، لكن ما إن تظهر النتيجة، حتى يتمّ الرفض، وعدم القبول، وتبدأ المعارك الشرسة فيما بينها. أوراق تتطاير، تحترق، حبر ينزف، كدمات على الأغلفة، كلمات تنطح بعضها، تدفع بعضها نحو البحر، نحو الهاوية، ومن هنا أصرخ فيها جميعاً: "فلتتوقف المعركة، أنتنّ لا تعرفن معنى الديمقراطية، والقرعة، والانتخابات، والشورى، رغم أنّ كلّ كلمات أوراقكنّ تتغنّى بهذه القيم والشعارات النبيلة العادلة".. لم أدرِ أنّ الروايات التي نكتبها مخلوقات مثلنا، تعيش أزمات نفسية ومشاكل لا حدّ لها، تعيش الحسد والحقد والكراهية والأنانية، وكلّ رواية لا تتمنّى الخير لأختها التي من لحمها ودمها، تحاول أن تتقدم عليها، أن تضيء أكثر منها، أن تحبط كاتبها بمكر، تقول له لا جدوى من الكتابة، لا تكتب رواية أخرى، ما كتبته وخاصة أنا قلت فيه كلّ شيء، وهو الأفضل، لا تتعب نفسك، وكل هذه الأوامر تأتي كي لا يكتب الكاتب رواية جديدة، تتجاوز ما كتبه سابقاً، أو تقتل ما كتبه سابقاً، رغم أن غرضه من التجاوز، هو إضافة مزيد من الضوء لكلّ مدوّناته السابقة. لا أدري ما معنى كلمة الأولى، هل هي رقم، أم أنها البداية، أم أنها الشرارة البكر، وعموماً لا أعرف بالضبط روايتي الأولى، لو أنّي اعتمدت على ما يوجد من كلمات على كلّ الورق الذي دوّنته وطبع في كتب، فكلّ كتاب لديّ أعتبره هو الأول، وكل ما به من سطور أجدها وكأنها كتبت في مرة واحدة، وحكت عن شيء واحد، التاريخ لا يلتصق بها، والزمن تتملّص منه كل ما حاول اصطيادها وحشرها في حيز ما. ذات ليلة عدت إلى البيت متأخّراً جدّاً، كانت كلّ مصابيح البيت محترقة، فيما عدا مصباح المطبخ، دخلت إلى المطبخ، وفي يدي حزمة أوراق وقلم، بحثت عن طعام أتناوله فلم أجد، وجدت فقط بعض عرانيص الذرة، أشعلت موقد الفحم، وصرت أشويها، وأكتب حكايتها، حكاية حقل الذرة، حكاية الغابة التي تحوّلت إلى فحم، حكاية السوق الذي باع الفحم وباع الذرة، حكاية اللقاء بين النار الساخنة والذرة الباردة الجافة، حكاية الرائحة المنبعثة من اللقاء والصوت الصادر من سيرة النضج والمضغ، حكاية الفجر الذي ولد فجأة، وجعل مصباح الكهرباء في المطبخ لا أهمية له، حكاية وراء حكاية، حتى نفد حبر القلم، ونفدت حزمة الورق، وخمدت نار الكانون، ولم يبق أمامي أي شيء، سوى تنظيف المطبخ، ورمي مخلفات جريمتي، في برميل القمامة. لا أدري ما الذي كتبته تلك الليلة، قصة، رواية، قصيدة، لم أبيّضه كالعادة، وأرسلته إلى جريدة أدبية، فنشرته على صفحتها الأخيرة، ولم أعلم أن ما كتبته سينشر، لقد كنت لا مبالياً. حدث أني كنت في منطقة الظهرة بطرابلس، الحي الذي ولدت فيه، كما أخبرتني أمي، فدخلت صدفة مكتبة، لشراء جرائد أو كتاب يعجبني، فوجدت شاعراً كردياً يعيش في طرابلس تلك المدة عام 1999 م وفي يده جريدة، سألني: "هل أنت فلان الفلاني؟". قلت له: "نعم". قال: "نصّك جميل جدّاً، قرأته ثلاث مرّات". ابتسمت وقلت له: "مرحباً، عن أي نصّ تتحدّث؟". ففرد أمامي الجريدة، لأجد ما كتبته تلك الليلة عن الذرة والفحم، قد التهم الصفحة الأخيرة كلّها من جريدة الجماهيرية، وحيث أنّي لم أعنون النصّ، فقد جعلت له أسرة تحرير الجريدة عنوان: "من مذكرات شجرة ". اشتريت من الجريدة عدة نسخ، ودعوت الشاعر الكردي إلى مقهى قريب، وأخذت أقرأ النص ببهجة وفرح لا يوصف. حكيت مع الشاعر الكردي عن الأدب والكتابة، وفي المساء دعوته للعشاء في إحدى مطاعم طرابلس الأنيقة، احتفالاً بنشر هذا النص في الجريدة، طلبت لحما مشويا، لكنه رفض اللحم، قال لي: أسناني مزروعة تقريباً لا تقوى على نتش اللحم المشوي". فطلب لحماً مفروماً، وبعد أن نشر النص تم استدعائي من قبل المسؤولين في الصحافة، لأنّي كاتب جديد – بحسب ما قيل لي حينها – وظهرت فجأة بدون مقدمات أو مرور على رعاة المواهب. ماذا تقرأ؟ كيف تكتب بهذه الجودة؟ بمن تلتقي؟ ماذا درست؟ أين كنت قبل أن تكتب؟ أنت لديك موهبة. أسئلة كثيرة، أجبت عنها بخجل، وحرص أيضاً، لأنّي أعرف أنّ معظم مَن يعمل في الصحافة والثقافة آنذاك مخبر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. عموماً لم أتوقف، وصرت أكتب بكثافة وأنشر في الجرائد العربية والليبية، وذات يوم استدعاني رئيس تحرير جريدة "الشمس"، وقدم لي بعض الأوراق وقال لي: "اكتب لي قصة الآن أمامي". كتبت له قصة من ثلاث صفحات، قال لي: "شكراً". غادرت الجريدة إلى بحر سيدي الشعاب بمسقط رأسي الظهرة، حيث الكورنيش، وحيث الذرة المشوية على الفحم، والنوارس. كانت معي زجاجة خمر صغيرة، أرشف منها بمقدار، اشتريت عرانيص ذرة مشوية، صرت أنتش شكلها الأسطواني وأفرغه من الحبيبات المشوية الساخنة، وأرمي بالثمرة المجرّدة من حبيباتها إلى البحر، أراها تطفح قليلاً، ثم تغرق في زبد الأمواج الأبيض. في فمي رائحة ذرة، رائحة فحم، رائحة شجر، رائحة كحول، رائحة نشوة، رائحة حياة، رائحة موت، البحر كان صديقي منذ الولادة، عندما مرضت رضيعاً كانت أمي تحملني إليه، تمرّ على سيدي الشعاب، ثم تهبط إلى البحر، تغطسني فيه، فتهبط حرارتي، وتختفي البثور من جلدي، حتى عندما ختنت، أخذتني أمي إلى البحر، وغطستني فيه، حتى التأم الجرح سريعاً، وتوقفت عن لعن ذاك الفقيه الذي قام بهذه العملية المؤلمة. حقيقة لا أعلم ما هي روايتي الأولى، لن أحتكم للمطابع، أو لأرقام الإيداع بدار الكتب الوطنية، أو لتاريخ الصدور، ومن هنا لا يمكنني أن أحدّد كتابي الأول، الذي ربما لم أكتبه بعد، حتى الآن ما زلت أكتب بشكل عشوائي، أكتب كما أحبّ، وليس كما يحب القارئ أو الناقد أو التاريخ، سأظل أشوي الذرة في المطبخ أو الهواء الطلق، وإن لم أجد فحماً، فسوف أذهب إلى الغابة، أو لأيّ بركان قريب، وما أكثرها الآن، خاصة براكين القلوب الثائرة أبداً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • روائيّ ليبيّ مقيم في ألمانيا

الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم