غالباً ما يكون العمل الأدبيّ الأوّل صورة طبق الأصل عن شخصيّة كاتبه، مع محاولات بعضهم إنكار ذلك، أو تأكيده، أو تركه عرضة للتكهّنات.. بالنسبة إليّ، كانت روايتي الأولى في مكان ما، أقرب إلى هويّة لي، هويّة أردت أن أحمّلها كلّ أفكاري واقتناعاتي، في الحياة والقضايا الكبرى والصغرى، والفلسفة، والمثل، والتعدّدية الاجتماعية والدينية، وكأنّي كنت أريد منها أن تعالج لي مسألة العدالة الإلهية، السماوية منها والأرضيّة.. لم يكن يهمّني أيّ تقنية أعتمد، وما هو أسلوب التشويق الأكثر سرعة في الوصول إلى المتلقّي، كنت أصرخ.. كنت أريد أن أصرخ، أن أجاهر بكل ما يشغلني من هواجس تتعلق بالحالة الإنسانية التي رأت أمام عينيها بعد تحقيق العدالة.. كنت أريد أن أشارك الناس حالتي، نظرتي إلى الأمور، تأمّلاتي. أعترف الآن أني ثرثرت كثيراً في روايتي الأولى، وأنّي صرخت كثيراً، وأنّي حين كتبتها بكيت كثيراً كثيراً، وأنّي استعرضت كثيراً من معرفتي وثقافتي. كنت أريد أن أقول كلّ ما أفكّر به دفعة واحدة، وكأنّها العمل الأوّل والأخير. كنت أريد أن أظهر للقارئ والناقد أنّ التيارات الفلسفية لم تفتني أقوالها، وأنّ الأديان بمختلف تجليّاتها لم تغب عنّي، وما جعلني أثور، هو رفض الآخرين، بحجّة التعبّد للطقوسيات، والتصّرف العنصري المقيت. أعترف أيضا أني قارئة روايات نهمة جدّاً. أقرأ لروائيين كثيرين، من جنسيات مختلفة، في موضوعات مختلفة. وأؤمن بأنّ لكلّ رواية نكهتها وعالمها وهدفها وطرقها، لكنّها جميعاً تصبّ في تعرّف الإنسان إلى الإنسان. ماذا أريد من رواية أقرؤها؟ أريد أن أعرف نفسي أكثر، وكأنّي في سباق مع الوقت لأتعرّف إليها، وأبقى في رحلة دهشة في ما أكتشف كلّ يوم، مع تجربة جديدة، التجارب الجديدة لا تنحصر في اختباراتنا الحياتية اليومية، نحن نعيش مع أبطال الروايات التي نقرؤها، نتقمّص حالتهم، نفتّش عن أنفسنا في تفتيشهم عن أنفسهم، نُفاجأ بردّات أفعالهم، نضع أنفسنا دائماً في أمكنتهم لنرى الاختلاف بين تصرّفاتنا وتصرّفاتهم. ماذا كنت أريد من رواية أكتبها؟ سؤال بقي يدور في بالي أكثر من عشر سنوات، هي المدةّ التي حملت أفكار روايتي الأولى في رأسي إلى أن خرجت إلى قيد الوجود. هل أكتبها لي؟ لقارئ معيّن؟ لإثبات أمر ما؟ لترك بصمة أو أثر؟ كان لا بدّ للرواية من أن ترى الضوء وتباركها الحياة حتى أحصل على إجابات ترضي إصراري. وددتُ أن أواجه قبح العالم بالمثل والقيم والانتصار على التفكير العنصري، كنت أبحث عن العدالة الموعودة، في الحبّ والإيمان والألوهة، كنت أبحث عن عالم يرضي توقي إلى المثال لأعيش فيه بسلام، كنت أعتقد أني بكتابة رواية أسهم في تغيير العالم نحو الأفضل. كنتً أعتقد أنّي بكتابة رواية أجد ما لا يمكن إيجاده على أرض الواقع. نعم، كتابة الرواية كانت فسحتي لأقول صراحة ما يعتمل في نفسي من أفكار ومشاعر وصراعات، كانت فسحتى لأقول ما لا أجرؤ على المجاهرة به، كانت فسحتي لأعرّف الناس إلى ديانات الشرق الأقصى كما أرى إليهم، يداً لقبول التعدديات على أنّها حتمية مصيرية. كانت فسحتي لأقول إنّ الحبّ الصادق مخلّد بعشق العقول، العقول التي تتخاطر فتتنزّه في حدائق بعضها، راجية اتحاد لا تفصله معيقات الحياة وظروفها. في كتابة الرواية الأولى، يختلف الأمر عن قراءة الرواية، أنت تتقمّص أبطالك، وتتحمّل مسؤوليّة أفعالهم، شخصيات الرواية لا تبقى حبراً على ورق، بل تصبح شخصيّات من لحم ودم، تتألّم لألمهم، لأنّك في الأصل تنقل ألمك أنت، في الرواية الأولى أنت تعرّي نفسك، تعرّيها تماماً، تعرّي أحلامك، وماضيك، وغدك، وعقدك، ومآزمك، في الرواية الأولى أنت تشارك الناس جميعًا دواخلك، هواجسك، طموحاتك، خططك، لغد يعيش فيه الجميع بسلام. في كتابة الرواية الأولى، أنت تبحث لجميع من أخطأ إليك عن مبّررات، أنت تكتب بعضاً من مسيرتك، ربّما من دون وعي منك، وربّما بوعي منك أن تحمّلهم همومك ومسؤولياتك، لتعرف ماذا يمكن أن يحلّ بهم. في حين أنّ الرواية الثانية والثالثة، يختلف الأمر كثيراً من نواح عديدة. وأعترف أنّي في روايتي الأولى، كنت أقرب إلى الناقدة التي تحلّل نصّاً، إلى الباحثة التي تريد من الرواية أن تكون تكون رواية معرفيّة، لأنّي كنت وما زلت، من الذين يؤمنون بأنّ للرواية دوراً تعليمياً وتثقيفيّاً هامّاً. شخصيّات الرواية قريبة مني بقدر ما هي بعيدة جداً. هي شخصيات من الواقع، عانت وتعاني، لكنّها مع ذلك همّشت، وكأنّ معاناة بعض البشر حتمية لا تستحقّ التوقف عندها، مواساة أو احتراماً. تتكلّم روايتي الأولى "حين تعشق العقول" عن بطلة خلاسية، تشعر بتأزم في هويتها، لأنّها لم تقبل من أهل أبيها اللبناني، ومن أهل أمّها الإفريقية. تهجس بالعدالة الالهية، فتذهب لتبحث عنها بعيداً عن لبنان وليبيريا، في الهند، بحثاً عن حضارات أخرى أكثر قبولا للتعدديات، فتجد ألا خلاص إلا بالحبّ، الحبّ الذي يتجاوز الحدود والأسيجة التي قام البشر بتشييدها، الحبّ الذي يجعل الأرواح تتعانق والعقول تعشق مهما بعدت المسافات وكثرت المعوّقات. تدور أحداث روايتي الأولى بين ليبيريا في غرب أفريقيا، ولبنان، والهند. لا أنكر أنها بلاد زرتها، وعشت فيها، وما زلت أتردّد إليها، لذلك، جاءت كتابتي عنها كتابة واقعية، حول ظروفها وأحوالها وأديانها وعادات أهلها وطقوسهم. لكن، يبقى للخيال ذلك الدور الذي يترك لنا مجال تجميل الواقع، وتزيينه، ذلك الدور في إفساح المجال للكثير من الأمل في الانتصار على الألم، ذلك الدور الذي يجب أن نتركه في مشاركة متلقّي العمل، أي القارئ، كونه كاتبًا مشاركًا في العمل. الرواية الأولى تجعلك تكتشف محبّة الكثير من المتلقين، تجعلك تكتشف متعة تحليلهم شخصيّات روايتك ومناقشتها، تجعلك تكتشف كيف يبحثون عن أنفسهم فيها، تجعلك تنتظر آراءهم، صغاراً كانوا أم كباراً، وهم من يجعلونك تتوق إلى مزيد من الكتابة، إلى مزيد من المحبّة، إلى مزيد من النقاش، من أجل مزيد من إعطاء وجهات النظر المختلفة. تبقى كتابة الرواية مشروع تأمّل دائم في الحياة، مشروع ثورة تجدّد نفسها بنفسها، مشروع خلق عوالم لها من الافتراض الكثير، ومن أعماق النفس البشرية الكثير، ومن الواقع الكثير الكثير، أملاً في تغييره، مشروع أداة معرفيّة تجمع الجمال والإمتاع والإدهاش والثقافة. ويبقى للرواية الأولى، ذكرى طعم القبلة الأولى بين حبيبين، في براءة الفطرة ووعد البحث عن الفردوس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • أستاذة جامعيّة (كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الجامعة اللبنانية) متخصّصة في الأدب الصوفيّ والفلسفيّ.

الرواية نت

93bf61f5-efe1-4ae3-9c86-bb63c76e16d3 6

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم