بدأت الكتابة في سن مبكرة.. قصة.. نثر.. متى؟.. حقيقة لا أدري! لكنّني أذكر أنّني كنت أكتب وأفرغ ما يدور في نفسي على صفحات الورق، ثم أستطلع آراء الأصدقاء، فأحتفظ بما أكتب أو أرميه أو أتلفه.. لا أتذكّر تحديداً، لكني أتذكر جيداً أني لم أفكّر يوماً بنشر ما أكتب على أي وجه كان وظلّ الأمر كذلك. في العام 2011 م اندلعت ثورات الربيع العربي وتفاجأ العالم بخروج الجماهير بمختلف أطيافها إلى الشارع تنادي بالتحرر والانعتاق من هيمنة أنظمة رثّة أهلكت الحرث والنسل. كنت أراقب ما جرى ويجرى في ليبيا وسوريا واليمن، شعرت ولمست توق الجماهير التي طحنها الفساد إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، شاهدت لهيب الثورة يندلع ويحرق عروش الظلم والعسف، كما شاهدت النباتات المتسلقة تشوّه جسد الثورة وشاهدت الديدان الطفيلية تنخر جسدها. في مارس2011 م بلغ الانفلات الأمنيّ ذروته في المدن اليمنية عامة، وفى مدينتي على وجه الخصوص، وبدأنا نشاهد في شوارع مدينتنا وأزقتها غرباء مسلّحين يسلبون وينهبون ويقتلون في وضح النهار وفى عرض الشارع، وبدأنا كذلك نشاهد جثث ضحايا الاحتجاجات تعرض على شاشات القنوات الفضائية، كان الأمر جنونياً ولا يمكن تصديقه، أجهزة الدولة ومؤسّساتها توقفت عن العمل ان لم تكن انهارت كلياً، السلع الأساسية اختفت بين ليلة وضحاها من على رفوف المحلات وظهرت في السوق السوداء. الكهرباء انقطعت كلياً، خدمات الإنترنت توقفت، الاتصالات تذهب وتعود، النفايات تكدست في الشوارع والأزقة، إطلاق النار لا يتوقّف بسبب ومن دون سبب، رصاص مجهول يتساقط من السماء ويحصد الأرواح في الأسواق والمدارس والشوارع، عصابات التهريب تحتكر السلع الأساسية وتبيعها وفق ما تمليه عليها مصالحها، خلال أشهر فقط تحوّلت البلاد إلى غابة كبيرة ظالمة متوحشة، المواطن البسيط الذى خرج لينادي بالحرّية وبالحقوق المدنية وبالعدالة يجاهد ويستميت للبقاء على قيد الحياة!. طبياً: كان الوطن في حالة موت سريريّ يستحيل انتشاله منها، طبيب متفائل قال لي باسما: اصبروا فالوطن يحيض ويتخلص من سمومه وأمراضه! كيميائياً: كان الوطن يتحلّل ويتفسّخ ويتحوّل إلى محلول نتن غير متجانس لا تأثير ولا تصنيف له! فيزيائياً: كان الوطن "لافلز" يسقط نحو الهاوية بعجلة تساوى عجلة السقوط الحر! اجتماعياً: كانت عرى المجتمع تتفسّخ وشريعة الغاب هي التي تسود! في أمسية من أمسيات مارس2011 م وجدتني أقف على قارعة الطريق في منطقة نائية، كانت السماء تمطر كما لم تفعل من قبل، لحظتها لم أكن آبه للمطر ولا للمياه التي غمرت قدميّ، فقد كنت أشعر بوحشة غريبة تلفّني، جعلت عيني مسمّرتين على نهاية الطريق أنتظر قدوم سيارة تقلني إلى منزلي، فجأة قدمت من نهاية الطريق ثلاث درّاجات نارية، عبرت المياه والمطر والبرق وتوقّفت على بعد خطوات منّي في منتصف الشارع تماماً، ترجّل منها ستة مسلّحين، قطعوا الطريق بأحجار وأقاموا حاجزأ طيّاراً (للتفتيش)، وبدأوا في انتظار السيارات القادمة. لم يلق أي منهم بالاً لي أو لوقوفي أو لصمتي، لحظتها فقدت إحساسي بالمطر وظللت أحدّق فيهم، في ملامحهم، في ملابسهم، في أطرافهم الهزيلة، في أسلحتهم، في وجوههم الشاحبة، وفى الشرّ الذى يسيل من أشداقهم. كانوا يتبادلون عبوة كحول محلّيّ ويدخّنون، و يغنّون ويضحكون ويصرخون، كما تصرخ ضباع شبقة، ليلتها ظلّ المطر يغسل كلّ شيء، الأرض، الجدران، الشجر، أعمدة النور، ويغسل أيضا أجساد المسلّحين. خيل إلى أنّ أجسادهم تنفث الحبر على وقع كلّ قطرة مطر تسقط عليها، أمعنت النظر في الوجوه والأجساد ودققت فيها، لكن خاطراً آخر خطر على بالي في تلك اللحظة، وجدتني أقول في نفسي: "بشرتهم لا تنفث الحبر الأسود، بل الأمطار تصبغ كلّ شيء بالسواد". أتذكّر لحظتها أنني شاهدت الأمطار تلطّخ كلّ شيء بالسواد، وإن قلت كلّ شيء فأنا أعني بذلك حتى أحلامي ووجوه أطفالي وابتسامات أبي. فكّرت لحظتها وانا أشاهد ثمالة المسلحين وهيستيريتهم تتعالى... "ماذا لو تحوّل الغيث إلى عذاب؟! ألم يكن الناس ينتظرون أمطار الرحمة، فهطلت عليهم أمطار قذرة قتلت كلّ شيء جميل في حياتهم وأخرجت الضباع من أوكارها؟! حين وصلتُ إلى البيت، كنت أحمل في يدي حزمة من الورق ودزينة من أقلام الرصاص، وجدت رأسي ومخيلتي ممتلئين بالكثير والكثير، أردت ان أكتب.. أصرخ.. أحتج، أردت ان أضع بصمتي على جبين هذا العالم، أردت أن يعرف أبنائي وبناتي بعد عقد أو عقدين من الآن بأنّ أباهم رفض هذه الحرب، ورفض كلّ هذا الخراب وعرّى كلّ اللصوص الذين ركبوا موجه الثورة. ليلتها ودون أن أتخلّى عن بلل ثيابي ولا عن البرد في أطرافي، أمسكت بالقلم وبدأت أكتب وأكتب، ولم أتوقّف عن الكتابة لثلاثة أشهر تالية، كنت خلالها أرى الخراب يكتسح البلاد، وأسمع الموت يجوس خلال الديار، وارى بيوت العزاء تنصب هنا وهناك، وأرى جثث الضحايا ووجوه اليتامى تطفو فوق كلّ شيء. وجدت في كتابتي لروايتي الأولى "أمطار سوداء" ملاذاً عزلني جزئياً عن متابعة ما يجرى، أتذكّر أنّ أحد الأصدقاء عندما شاهدني أكتب وأكتب متجاهلاً نشرات الأخبار قال لي: البلد تحترق، وأنت تكتب قصص!! ما زلت أتذكّر كلماته، وما زلت أتذكّر أنني لم أردّ عليه سوى بابتسامه، مازالت تتكرّر كلما تذكّرت كلماته. انتهيت من الرواية في يونيو2011م، وكلّيّ أمل أن تخيب ظنوني التي ضمنتها الرواية، لم أتحدّث في روايتي عن اليمن فقط، بل عن كلّ دول الربيع العربي، ولذلك آثرت أن أجعل مكان الرواية مبهماً غير مسمّى، وكذلك شخوص الرواية، على أمل أن تتجاوز الرواية حاجز "الزمكان" وأن تصل للقارئ العربي في بلدان الربيع العربي تحديداً، سهلة وسلسة، تحاكى واقعه المَعيش. أقحمتُ بطل الرواية الشاب "أمين" في أحداث الرواية دون أن أتطرّق إلى ماضيه أو جنسيته أو ذكرياته، لأجعل شخصيته غير مقيدة بأطر جامدة تقيد مخيلة القارئ، وجعلتها حرة لينة، بوسع القارئ تقمصها ومعايشة الحدث بمعيتها. مرّرت الرواية بعد الانتهاء منها لبعض الأصدقاء (قرّاء وأدباء) وبدأت أستطلع الآراء، الحقّ يقال.. تفاجأت كثيراً من الإعجاب الذى لقيته الرواية على الرغم من أنّها التجربة الأولى لي في كتابة الرواية، كل ذلك لم يدفعني لنشر الرواية نشراً ورقياً أو اليكترونياً، وأعتقد أني كنت سأتعامل بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها مع أعمالي السابقة، إلى أن شجعني أحد الأصدقاء على نشرها، وكان ذلك فعلا بأن تعاقدت مع دار الوطن المغربية لنشر الرواية، وبعد أن صدرت الرواية في نهاية 2012 لاقت صدى طيباً في أواسط القراء في اليمن وخارجه، دفعني ذلك النجاح لمواصلة الكتابة، فوجدت نفسي وبعد أشهر قليلة من صدور روايتي الأولى بدأت بالعمل على روايتي الثانية "ربيع الحنظل". إجمالا تعدّ تجربة كتابة الرواية الأولى، تجربة ذات حميميّة خاصة، لا يجد لها الكاتب مثيلاً في أعماله التالية، ربما لأنّه كتبها بماء القلب وأولاها عنايته كلّها، ربما لأنّه أفرغ بين صفحاتها مخيّلته العذراء، ربما لأنّها صرخته الأولى التي أطلقها في وجه هذا العالم الذى ينوء بجبال من الصمت والخيبات. ربّما لأنّ كلّ أوّل شيء في حياة الإنسان لا يمكن نسيانه على غرار الحبّ الأوّل!.

........................ روائيّ يمنيّ

amtar





0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم