عن أيّ فردوس أبحث حين أكون "أزمارينو"؟!
لربما كان تنقلي بين البلدان لحضور معرض تجاريّ ولتوقيع طلبية شراء ما دافعاً خفياً لكتابة العمل الروائيّ الأول. لك عزيزي القارئ أن تتخيّل رجلاً يحمل حقيبة دبلوماسيّة ويتنقّل بين مطارات الدنيا خالياً من إحساس الدهشة والامتلاء برائحة جديدة ونكهة قهوة مختلفة !!
كان لا بدّ لي من أخطّ امتلائي بذلك الشيء على الورق حتى لا يفيض دمعاً، فما عسى الجرح أن يفعل بعد النزف سوى أن يضّمد نفسه ويلتئم..! حالة الشوق المتجدد تشبه نسق التاريخ فلا قدرة لنا على نسيانه او إعادته للوراء قليلاً، عالق أنا بين امتلائي وخوائي، انتمائي وشرودي، صفائي وكدري، امتهاني وفوضويتي، كان لا بدّ من حدث يهزّ كياني، كان لا بدّ من صوت يوقظ انتمائي للأدب وللورق وللحياة، فالكتابة حد فاصل بين حياتين متوازيتين أنت الغائب وأنت الحاضر فيها. أنت كما تحب وأنت كما تخشى أن تكون.
لا زلت أذكر إحدى نشرات الأخبار المعتادة والمتوقّعة التي نقلت خبر غرق ثمانية وخمسين لاجئاً إرترياً في البحر الأبيض المتوسط في حادثة مريعة، تنامت الروايات حولها كنباتات صحراوية لا تستند إلى أصل الحكاية، وباتت جثث الغرقى كأشلاء مدينة تمزّقت بفعل زخّات الرصاص ودويّ الانفجارات. كنت أحسّ بأنّ ما يملؤني دهشةً وزهواً وفخراً ينهار وينكمش ليغدو إرثاً تافهاً، دفعني ذلك الإحساس لتقمّص دور الراوي العليم ببواطن الأمور، كي أرتّب الرواية من حيث النبع، وأستعيد ذلك الامتلاء. لست بصدد خلق أسئلة متدنية السقف، بل وجدت نفسي موكولاً بإعادة الزمن للوراء ليوازي اللحظة خطوة بخطوة.
يبدو أنّ ذلك كان مستحيلاً. لكن ما فائدة الأدب لو لم يخلق عالماً رائعاً وحلماً لا ينتهي بالغرق وما مغزاه – الأدب – إن لم يضع أسئلة لا سقف يحدّها ولا أحلام نرفلها؟!
حين نمتلئ بعشق مدينة ما فنحن نعتنق دينها وتاريخها وعنفوان صباها، حالة تماهٍ وحميمة تجعل من المسامير التي تدقّ في جدرانها وخزاً يؤلمنا ومن تلك المعارك الهامشية على عتبات التاريخ رقصات فلكورية.
أصل الحكاية خيط فجر بريء كطفل يقف على رجليه للمرة الأولى، وحتى إن تعثر يبكي ثم يتبسم، أن تجذب تلك الجثث إلي شاطئها الأول وإلى نقطة العبور الساكنة في بقعة ما يعني أنني أنظم تراتيل توصلهم للشفاعة، فعندما تصاب الذائقة العامة بعدوى العبور إلي المجهول أياً كان ذلك المجهول الفردوسي، فذلك يعني أن الوجودية برمزيتها الناعمه اقتلعت، وحتى مشجب الأقدار علقت عليه كل الخطايا بحيث انحسرت فرص النجاة في خيار العبور. لكن ليس كل هروب يعني تجاوز المقدر فتجاوز الخطيئة لا يعني الخلاص.
ليلتها دارت بعقلي حوارات عبثية، الكل مذنب، الثورة والمنجل والمطرقة والآباء المؤسّسون وحتى "يماني باريا" مطربنا الخالد حين خرج علينا برائعته "أشرقت شمسنا" غداة يوم التحرير، فكان السؤال "أزمارينو – هل رأيت شروق الشمس".. حين عاد الثوار لم يدرك أحد يومها أن الشمس لم تشرق كما يجب أو أننا كبشر لم ندرك بعد الشروق الحقيقيّ أو أننا لا نرى الشروق سوى لمرة واحدة في العمر ثم يتحوّل إلى ميقات روتينيّ. ولم ندرك بعد أنّ قصص الثورات تراتبية وتنتهي عادةً بمتسلّق يصل إلي سدّة العرش.
ولأنهي سجال الكتابة عدت بالذاكرة إلى صبي في الخامسة يتنقل بين خيم الرفاق حين كانوا في طور البراءة يلفون الكوفية الفلسطينية ويرفعون قبضة اليد ويرحلون بسبابة ووسطى منتصبة، وقبل هذه المشاهد كان الطفل ذاته يلعب في فناء مدرسة كل شيء فيها بصبغه إيطالية، فالمعلمة خادمة دير والحروف لاتينية والأطفال بألوان مختلفة الأشقر والأسمر والسحن تنسج واقعاً زاهياً. كان المحرض الأزلي يدفعني لأكتب بطريقة معقدة نوعاً ما وأتناول صنفاً مر الطعم؛ الرواية التوثيقية، فهي متعبة من ناحية بناء المتخيل الروائيّ وتحتاج لطاقة سرد تخلق عالماً فنياً منفصلاً.
وإن كنت بصدد خلق عالم فني تلتئم فيه سحابات السلام بوقع الرصاص ودوي الفجيعة فلا بد من ذاكرة أصلية مستقلة بريئة من المعنى اللفظي للمثل، لا تبحث عن خلاص متشكل بفعل المعاني التي ينسجها البشر عادةً كنتيجة حتمية لتجربة ما، فالعوالم في السرد لا تشير الي وقائع بذاتها أو إلى أرقام تاريخية إلا ما ندر. طاقة المتخيل كانت مادة تحليلية وجدانية تتهكم بشكل وآخر على التساؤلات الباهتة والتي تقابلها أجوبة تسايرها كتفاً بكتف، فكلاهما يتبع درب السذاجة النقية.
تجربتي الأولى كتبتها بعيون طفولتي التي سرقها العبور في نهاية السبعينات الميلادية ولا أجد عيباً من استخدام العبور نكايةً باللجوء فمهما تعاظمت الأخطار المحدقة لا أجدها مبرراً للخروج من "أسمرة" وعن أي فردوس أبحث حين أكون "أزمارينو"؟
الرواية الأولى أنانية تنتزعك من جوارك بلارحمة ولحظة الانعتاق أو رفاهية الذات حين تراها مطبوعة بين دفتين من الورق السميك ممهور عليها اسمها، لعل لحظة موافقة دار النشر على طباعة الرواية لحظة مفصلية، فحين بعثتها لدار مدارك كنت كمن يقف على شاطئ يثني ورقتة اليتيمة ويولجها فوهة القارورة ثم يسلمها بتودّد إلي الموج الهادر، كانت لحظة وداع لا تملّ وظلت على حالها إلى حين..
"إلى أولئك الذين خرجوا في عمر الزهور ولم يعودوا
وإلى أولئك الذين عادوا بساق واحدة وفؤاد ممزّق
وإلى العابرين الجدد للمجهول..".
لم أكتب روايتي الأولى لتقرأ بل لتشاهد هكذا كانت البداية ولم أنتهِ بعد من كتابتها فالروايات التوثيقية مطواعه لعمل فنّيّ مرئيّ، ولربما يتمّ استنطاق شخوصها ولربما لا تنتهي عند حدّ الورق والحبر.
"فأنا أكره النهايات حتى كتبي لا أنهي قراءتها وحتى الطرق لا أصل لآخرها وكأن في نهاية الأشياء موت خيالي "
ـــــــــــــــــــــــــــ عبد القادر عبده صالح آل مسلم ، مواليد أسمره - إرتريا 1974م ، يحمل دبلوم تجارة دولية. صدر له عن دار مدارك "رواية أزمارينو "، مجموعة قصص قصيرة بعنوان "الغبانه".
الرواية نت - خاصّ

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات