بيني وبينَ "نوميديا" سوابق عشق!
صنارةُ الكلمات كانتْ تصوبني نحو الذاكرة، قد نكتبُ في أعمالنَا ما نشتهي، لكن أعمالنَا الأولى تكتبنَا لا كمَا شئنَا بل كما شاءت الذاكرة، والذاكرة لا سلطَان لنَا عيهَا. مخطئ من يعتقد أنّ كاتباً في بدايةِ مساره قد يكتبُ ما يريدُ، يدُ الذاكرة تحرّكُ بسخطٍ أعماقنَا، أظافرهَا تنكشُ جراحنَا التي خلنَا أنهَا اندملتْ، لذلك نكتبُ أوجاعنَا على أوجاع أبطالٍ من ورقٍ، ومن خلالهم ننزفُ، ننتحبُ، نحتجّ، على نحو مشفّر لا يخدشُ كبرياءنَا! لطالمَا اعتقدتُ أنَّ العملَ الأول كالحبّ الأوّل، نشيرُ إليهِ بطيش وحماقة، ولا نبتعدُ عن ذواتنَا إلا بالقدر الذي يسمحُ لنَا بتمويهِ الآخرين، وحملهم على الاعتقادَ بأنَّ المعنيّ بالرواية غيرنَا، لكن في الصميم، لا نكتبُ إلا ما نحنُ عليهِ أو ما اشتهينَا أن نكونهُ دونَ أن نجدَ إلى ذلك سبيلاً. في "مراد الوعل" بطل رواية "نوميديا" الكثير منّي، لكن فيهِ أيضاً أشياء تمنّيتُ لو تكونُ فيَّ.. الإنسان دائمُ النقص، وبالفنّ فقط يمكنُ أن نضع سيناريوهات محتملة لما يمكن أن نكونَ عليهِ لو بلغنَا حالةَ الكمال. على أنَّ بيني وبينَ المكان آسرةُ عشق، في الأخير أنَا أنتمي إلى الفضاء الأمازيغي، وقريةُ "إغرم" بالنسبةِ لي مثلمَا هي بالنسبة لمراد عشق ملتبس بالأمومة، مثلمَا أنَّ هناكَ أماكن لا تكادُ تحشركَ بينَ أشداقهَا حتّى تحسّ بهَا تدفعكَ بعيداً عنهَا، هناكَ أماكن محايدة لا تقابلكَ بعاطفةٍ، وأخرى تستنبت لنفسهَا في أعماقنَا حبًا من نوعٍ ما، و"إغرم" من الصنف الأخير، لأنهَا ورّطتني في حبّهَا آثرتُ إلا أن أورطَ بطلي في حبّهَا وأمتدحَ من خلاله المكان، جمالية المكان، وأستنطقَ من خلالهِ ذاكرة المكان. هي قريةٌ جميلة، لكنّ أجمل ما في "إغرم" أنَّ العزلةَ أنبتتْ فيهَا حالة من الأدبِ البكر، حكاياتهَا الأمازيغية، يرويهَا الأبناء عن الأجداد، حكايات لا تقلّ جمالا عن "ألف ليلة وليلة" أو "الإلياذة" و"الأوديسة".. أو غيرهَا من روائع الأدب العالمي. لكن الملفتَ للنظر، والجميلَ في آن، أنَّ لحكايات "إغرم" سندٌ واقعي.. لا بدَّ أن تجدَ في فضاءاتهَا ما يسندُ الحكاية ويقوم دليلاً على أن يروى كانَ حقيقةً في ما مضى. رأيتُ في حكايات "إغرم" الأمازيغية طفولة الأدب، لذلك لم أتردّد في استغلالِ كنزٍ من الحكايات التي شحذت خيالَ الطفلِ الذي كنتهُ، ووجدتُني أزجُّ بهِ في سياقات روايتي لئلا يطمرهُ النسيان من جهة، ولأنني وجدتُ فيهِ ما يغذي حكاية "مراد الوعل"! مثلَ "مراد الوعل" كنتُ أصيخ السمع إلى حكايات الجدّ في الليالي الباردة والعائلة، كل العائلة متحلّقة حول فرن يهدر بتعابير غامضة، لكن عكس كلّ الأحفاد لم يكن السرد تسلية ما قبلَ النوم، كانت كلّ حكاية تُشعلني أكثر وتدفعني للاستزادة. مثل "أوداد" تعرّفتُ على الحكاية وابتليت بسحرهَا قبل أن أعرف القراءة و الكتابة . علمتني "إغرم" وحكاياتُهَا التي لا تنتهي أنَّ هؤلاء البدو البسطاء؛ الأمّيين في الغالب، يعششُ في أعماقهم روائيّ يجهلونهُ، هو مَن يملي عليهم التفاصيل، هو من يحرّضهم على تغدية الحكاية بكذبات ناصعة البياض. تعلمتُ من "إغرم" أنَّ المجتمعات الأشد بدائية وعزلةً لا تخلو من أدب، لأنَّ الحكاية في "إغرم" ضرورية كالماء والهواء، كالأرض والسماء وليستْ ترفاً زائداً. في مثلِ سنّ مراد تركتُ إغرم مضطراً لا بطل، هو يحملَ صرةَ أيّامه وأحمل في قلبي أنَا كمشةَ ذكريات وحكايات، هي كل رصيدي وقتهَا من الأدب! في أعماقي كانَ هناكَ حدس بأنني لا بدَّ عائدٌ إليهَا برواية، الأمل كانَ ناهضًا في القلبِ لكن الرؤيا كانت غائمة، فقط عندما بدأت أحتكّ بنماذج الأدب المكتوب بدأت تختمرُ في أعماقي تلك الرغبة ورويداً رويداً بدأت ملامحُ روايتي الأولى تتشكلّ، من خيباتِ بدايتي، من المآزق التي وجدتُ نفسي في كل مرّة مدفوعًا ّإليها، نخطئ حينَ نعتقد أنّ الحكاية تبتدأ أول ما نشرع في الكتابة، الحقيقة أن مرحلة الكتابة هي بداية النهاية. كتبتُ لأستلَّ من روحي شظَايا الوحدة، كنتُ أجدُ في الكتابة إينَاساً من نوعٍ ما، وكانَ يكفي أن أمعنَ في استرداد الماضي لأفرح، كانَ يكفي أن أتقمّصَ دور ربٍّ و أنا أديرُ عوالمَ الرواية لأفرح. أعتقد بثقةٍ أنّ الكتابة تغذّي نرجسيّة الكاتب وتشبعُ غروره الشخصيّ. على أنني كنتُ دائمَ الاعتقادِ بأنَّ الكتابة كثافةُ سحرٍ، وأنهَا مطالبة بأن تقول مسكوتَ الانسانية قبل منطوقهَا. في أدغال النفسية البشرية مناطق بكر لم تعتقلهَا نصوص ولم يطأهَا حرف، والرهان بالنسبة لي كانَ سبر أغوار النفس البشرية، كثيرة هي الأشياء التي نحس بهَا جميعًا دونَ أن تجدَ إلى الأدب سبيلاً، وأعتقد أنَّ أحد مهام الروائي والمبدع عموماً أن يترجم تلك الأحاسيس التي تخامرنَا دونَ أن نجدَ لهَا عبارات مناسبة. لا نسيرُ أبعدَ من نصّ ألصقه القدر أو الرب أو الصدفة بظهور قلوبنَا، هذا ما تقوله حكايات "إغرم" الكثيرة، الإنسان حرّ بالقدر الذي لا يجعلهُ يتمرّد على نصّه.. والدنيا مسرح كبير و ما نحنُ إلا ممثلونَ نتقفّى أثر نصّ قد خطَّ سلفاً. العالم يسيرُ وفقَ منطق مبهم وخاص، نظام ما يحكم الأشياء من حولنَا، قد يكون مشيئة الرب، القدر أو الصدفة ، لستُ أدري.. ما أشعرُ بهِ كروائي و أكادُ أصدقهُ، أنَّ نظاماً ما يحكمُ سيرة كل إنسان، وأننَا لسنَا أحرار إلا بالقدر الذي لا يفسدُ مساراً خُطّ لنَا في هذه الدنيَا.. والحقيقة أنَّ حياةَ "مراد"، بؤس "مراد" وتمزقاته النفسية تعكس بوضوح هذه الحتمية التي لا فكاك منهَا. خلف "مراد الوعل" كانتْ "نوميديا" بنتُ الوهم والأنثى المشتهاة هي رديف المكان، أو لكأنهَا "إغرم" وقد حلّ في ثوب بشري.. مثلَ "مراد الوعل" سعتْ إليّ وهمَّتْ بي، لم أوتَ حظَّ يوسف.. ولم أرَ برهانَ ربّي، رأيتُ –طفلًا- مشروع حكاية.. وأحسستُ - بعد أن دفعتني بعيداً عنهَا "إغرم" - أنني لا بدَّ أن أعود إليهَا برواية! وكانت "نوميديا".
روائيّ من المغرب. اختيرت روايته الأولى "نوميديا" ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورة 2016م.
الرواية نت – خاصّ.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات