في مغارة الخيال..
حكاية الرواية الأولى تبدأ من الطفولة وربّما تنتهي إليها أيضاً.
في أول مرّة قرأت "الأمية" لأغوتا كريستوف ذُهلت. "هذه أنا" قلت، وعندما قرأت أكثر عن كريستوف اتّضح لي أن كثيرين قالوا عن هذا الكتاب "هذا أنا". قلت "هذه أنا" عندما تحدّثت كريستوف عن كذبتها على أخيها تيلا الذي يصغرها بثلاث سنوات. كذبتُ على أخي الذي يصغرني بعامين الكذبة نفسها. لكن ردّة فعل أخي كانت مختلفة. ببساطة لم يصدّقني وركض نحو والدتي، وأنا عندما سمعت أمي تصيح "ميادة" ركضت أنا الأخرى لوالدي وحضنته، وهكذا خلصت نفسي كالعادة. رويت قصصاً أو "أكاذيب" مشابهة لصديقاتي وأقاربي ممّن كانوا في مثل عمري. ما كان يشجّعني على الاستمرار في تأليف هذه الأكاذيب هو جملة: "ها وماذا بعد؟" عندها أفتح لهم مغارة الخيال والكذب.
يقلب أبي الجريدة ثم يرفعها أمام وجهي ويقول بحضور أقربائنا: "يلّلاه ميادة أقريلهم". قرأت ولم أتوقّف. من قصص الأطفال التي كانت تجلبها لي أختي من العشار إلى مجلة "مجلتي" إلى شكسبير إلى هاري موليش وفيليب روث وإلى ما لم أقرأ بعد.
في المرحلة الابتدائية كنت أكتب شعراً موزوناً أقلد فيه شعر سليمان العيسى وتقرأه لي ست نادرة، معلمتي طوال ست سنوات المرحلة الابتدائية، وتقدّم لي ملاحظاتها مع ابتسامة، لكني كرهتُ كتابة الشعر فجأة، لأن ما يدور في رأسي قصصاً وليس فكرة. الشعر محدود وفضاءه مقيّد. القصص حرّة وأرضها واسعة جداً. في نهاية المرحلة الابتدائية بدأت في قراءة مجلة علوم، أقرؤها من الغلاف إلى الغلاف "حرفياً"، أختار الموضوع الأكثر إثارة وأهمية، أقصّ صوره وألصقها في دفتر كبير بنّيّ وأعيد كتابة الموضوع فيه.
كنت أريد أن يكون هذا لي "باسمي". أن أكتب عن الفضاء والصحون الطائرة والمخلوقات المتطوّرة التي تعيش في عالم آخر أفضل من عالمنا. بعدها مجلة العربي الكويتية، برنامج العلم للجميع، كتاب سيرة حياة مدام كوري، مسرحية شكسبير عطيل، المجلات التي كان يجلبها لنا أبي من مكتبته، كلّ العرب والدستور والوطن العربي والتضامن وألف باء وغيرها، قصص وكتابات عبد الستار ناصر في هذه المجلات وسلسلة الموسوعة الصغيرة. كنت اقرأ كل شيء بشغفِ "معرفة كل شيء". كل هذه القراءات بالإضافة إلى التلفزيون أثرت خيالي.
كتبت قصصاً عن المخلوقات الغريبة التي قرأت عنها في مجلّة علوم. وألّفت مشاهد تشبه مشاهد مسرحية عطيل. حكايات عمتي. عمتي كانت حكّاءة عظيمة، أستطيع سماع قصصها لساعات دون أن أشرد ثانية واحدة. كانت تروي القصص بسخرية وفكاهة فريدة.
تأثّرت كثيراً بسيرة حياة مدام كوري وتمنيت أن أصبح مثلها في يومٍ ما. عالمة تكرّس كلّ حياتها للعلم. لكن سرعان ما تبدد هذا الحلم. اتّضح لي أنّ رغبتي في أن أكون مثلها سببها "الكتاب" الذي تحدّث عنها وليس حياتها كعالمة. أريد أن أكتب مثل هذا الكتاب. أكتب كما لو أنّي أعيش حياتها هي.
أحرقت القصص الخيالية التي كتبتها كلها. هكذا بلا سبب. وبعد ذلك بمدة قرأت في نهاية أحد المجلات التي ذكرتها سابقاً صفحة للكاتبة الكويتية ليلى العثمان كانت تتحدّث فيها عن أشياء فعلتها وندمت عليها، بأسلوبها الدافئ البسيط، من الأمور التي ذكرتها أنّها ندمت على إحراقها دفتر يومياتها. عندما قرأت هذا ندمت أنا أيضاً. لماذا فعلت ذلك؟ حتى الآن لا أجد جواباً عن هذا السؤال. لكني عرفت ما أريد: أريد أن أصبح كاتبة مثل ليلى العثمان وأكتب: أنّي ندمت على حرق قصصي عندما كنت صغيرة. أريد أن أصبح كاتبة. أكتب القصص التي تدور في رأسي ليل نهار. أكتب عمّا أراه أنا ولا يراه غيري.
تخليت عن هذا الحلم في الاعدادية ونسيته تماماً. حتى قرأت روايات خالد حسيني "ألف شمس ساطعة" أولاً وبعدها قرأت "عداء الطائرة الورقية" في ذلك الوقت كنت أماً لولدين وأدرس في الجامعة بعد أن عادلت شهادتي العراقية. أكملت العام الأول من الرياضيات التطبيقية ونجحت للمرحلة القادمة. توقّفت لم أكمل الدراسة، وبدأت في القراءة عن الروائيّين وحياتهم وكيف أصبحوا روائيين ولماذا. ترجمت فصولاً من روايات حسيني، وترجمت الكثير عن الكتابة وأساليبها. ثم توقفت أيضاً وتخليت عن هذا الحُلم. كلّ شيء من حولي كان يصرخ في وجهي: "هذا مستحيل". بعدها التحقت بجامعة مسائية ودرست البرمجة لعام ونصف. كنت أنجح في الدراسة لكنّي لم أرغب في الاستمرار. "ليس هذا ما أريده" أقول لنفسي. وعدت إلى الكتابة مرة أخرى. "درست" عالم الرواية وحياة الكتّاب.
حتى نشر مقال مترجم كان أمراً مستحيلاً بالنسبة لي. لا أجرؤ على فعل ذلك. كنت أقول مَن سيهتمّ؟ خفت من الفشل ربما. وفي فترة خمس سنوات أو أكثر، لا أذكر تحديداً، كتبت مسوّدات ثلاث روايات، منها رواية "نسكافيه مع الشريف الرضّي"، أثناء كتابة المسوّدة كنت أعرف أنّي لن أنشرها، و"مَن سيهتمّ؟ عشرات الروايات تصدر كلّ عام، أين أذهب أنا وسط هؤلاء؟".
كلما انتهيت من كتابتها أعدت كتابتها مرّة أخرى وشطبت وأضفت وهكذا لعامين. ووضعتها جانباً. بالصدفة كنت أتحدّث مع الناقد والقاصّ و"المحرّر المحترف" علي كاظم داود عن النشر والكتابة وأخبرته عن روايتي، عرض عليّ قراءتها، قرأها وشجّعني على نشرها. وبقلق وخوف كبيرين تجرّأت بعد تردّد طويل على تقديمها للناشر.
أكتب الآن روايتي الثانية، تجربة مختلفة لا تشبه تجربتي الأولى "نسكافيه مع الشريف الرضي" في كلّ شيء. أظنّ أنّ تجربة الكتّاب الأوّل تظلّ دائماً مختلفة وجديدة.
خيالي يعمل دائماً. كأنّي لم أعش إلا في خيالي. الآن أقول "هذه أنا" لأغوتا كريستوف ودوريس ليسينغ وماركيز وباموك، "هذه أنا" لأنّي أريد أن أصبح كاتبة، تكتب خيالها.
ما بقي لي من طفولتي ذكريات حلم حققته وأنا في منتصف الأربعين. وما بقى لي من تلك الطفلة ميادة، خيالها كله.
ـــــــــــــــــــــــــ
- كاتبة ومترجمة عراقية مقيمة في هولندا.
الرواية نت - خاصّ.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات