كيف عبرتُ "الأنهار العكرة"؟
ربّما كأغلب الكُتّاب فقد جاءت روايتي الأولى "الأنهار العكرة"، مكتوبة على هاجس وأرق الحنين إلى الوطن، تلك النوستالجيا القاتلة التي يرى فيها بعض الناس تحريراً من الاشتياق والوله وبداية لإدراك معنى الذات، فيما يرى فيها آخرون العكس أنّها تحدّ من الإبداعية وتجعل الكاتب أسير ذكريات مغلقة لا يمكن التحرّر منها. وبغضّ النظر عن ذلك، فإن تجربتي مع الكتابة أثبتت أنّ الأدب والفنون عابرة للقوميات والحدود والزمكانيات. في تلك الأيام من عام 2001 إلى 2003 كنت أقيم في العاصمة القطرية؛ الدوحة، التي وصلتها من الخرطوم، لكي أعمل في مجال الصحافة، وهو الخطّ الذي سرتُ فيه برغم أنني درست هندسة العمارة، مع أنه ليس عندي من فواصل كبيرة بين هذه المجالات. ولأنّني كنت أقضي الليل بعد عودتي من الصحيفة وحيداً في أغلب الأحيان، فقد بدأت في تسجيل خواطر متناثرة عن ذلك الزمن "السرمديّ" الغائب، عن تجربة الأرض ومسقط الرأس، وكان دافع الكتابة أكثر ما جاء مشفوعاً بالحنين، والتخلص من ثقل الانتماء بالتعضيد منه، المزيد، حيث كان لابدّ لي من اكتشاف وطن بديل في أرض النصّ، ذلك الحقل الشاسع والرائع والقاسي على النفس أحياناً. وبدأت أفلح أرضي، أكتب، مستحضراً صورة تلك المدينة/ البلدة، التي جئت منها بولاية نهر النيل بشمال السودان، قبل أن يتقسّم إلى بلدين بفعل الزلازل السياسية التي عصفت به وجعلته يتشرذم لوطنين، شمال وجنوب. في "الأنهار العكرة"، وحيث تبدو رمزية الأنهار جلية، فالسودان هو أرض الأنهار العديدة، وحيث "العكّار" يشير إلى موسم محدّد طالما بقي بذاكرتي إلى اليوم، عندما يأتي الفيضان وينهمر النهر بلا هوادة على الضفتين، فيأخذ ما أمامه من الزرع والأرض فيما يعرف بـ"الهدّام"، وبلا سابق إنذار أو عهد، بما في ذلك أرواح البشر. لكن قصة "الأنهار" لم تكن هي حكاية الماء، بل هي أيضا سردية الصحراء التي يشقّها النهر وهو يتّخذ طريقه عبرها، بحيث تكتب أكثر من قصة، وحيث تنمو الأراضي الجديدة كتلك التي جاءها صنّاع الذهب ومنقّبوه من شتّى بقاع أفريقيا ليكتبوا تاريخياً جديداً لهذه العتامير، وهو مسمّى الصحراء هناك. وللغرابة فإنّي كتبت عن ذلك قبل أن يحدث فعلياً، ليس لأيّ سبب غيبيّ أو غرائبيّ، بل لأنّ هذه الأرض كانت في القدم أيام الحضارات الكوشية القديمة، موطناً لممالك الذهب الذي يؤخذ إلى بقاع الدنيا المختلفة، مع ريش النعام وسنّ الفيل وأسواق النخاسة سيّئة السمعة. كانت "الأنهار العكرة" بالنسبة لي تجسّد تجربة الكتابة الحرّة والمتحرّرة من الذات، بقدر ما لها علاقة بها وتأخذ من معين التجربة، والسبب أنّني كنت قبلها قد كتبت في السودان ومنذ مرحلتي الثانوية والجامعة، ما لا يقل عن أربع تجارب روائية، أقول إنّها ليست إلا تمارين على كتابة النصوص؛ السرديات، وحيث كان التأثّر بآخرين أقرأ لهم في تلك الآونة، أمثال: نجيب محفوظ، الطيب صالح، جورجي آمادو، غابرييل غارسيا ماركيز، أرنست همنغواي، جون شتاينبك، وغيرهم بلا حدود. كتبت آنذاك روايات لا زلت أتذكّر أسماءها، مثلاً "البترول"، "توأم التبر"، "الكمينة" – وهي مصنع بجوار النهر يتم فيها حرق الطوب الطيني ليصبح صلداً وقوياً ويعرف باسم الطوب الأحمر ليستخدم في بناء بيوت الناس من ميسوري الحال، وكنت أكتب عن تجربة حقيقية عشتها في صباي- أيضاً "أحلام قرية صغيرة متوهجة تنتظر صباها"، عن طالب قتل يوم في المظاهرات بجامعة الخرطوم في فترة انتفاضة شعبية مزعومة، يتّضح فيما بعد أنّها خواء، وكنت أستحضر صورة الثورة المسمّاة 6 أبريل 1985 التي أطاحت بحكم جعفر النميري، أثناء رحلة علاج كان يقوم بها إلى الولايات المتحدة. برغم أن تلك التجارب القديمة، كانت صادقة في عاطفتها وفي خواطرها المنثورة، إلا أنني لم أرها ضرورية في اللحظة التي شرعت في كتابة "الأنهار العكرة" وهو الاسم الذي تحدد لي سلفاً قبل الشروع في النص، ولد ذات برهة وبلا مقدمات، لكي يلخّص لي أزمنة أكاد أقبض عليها قبل أن تُطوى أو تنسى، رغم أنّني كدت أحياناً أغيّر اسم الرواية إلى اسمين آخرين، الأول "زمن الهوتميل"؛ البريد الإلكتروني الذي كان سيّد زمانه، ولأنّ بطل الرواية كان يستخدمه لمراسلة أصدقائه في البلد البعيد الذي جاء منه، ولم يكن ثمّة وسيلة أرقى ولا أسرع وقتها من الـ"هوت ميل"، وقد استحضرته في فضاءات النصّ، بل أن أحد شخصيات الرواية - لا أميل لكلمة بطل أو أبطال - كان قد أنشأ مقهى للإنترنت في البلدة القديمة، وكان النساء يراسلن أزواجهن المغتربين في الخليج وأمريكا وأوروبا، بحيث يقوم صاحب المقهى بتنضيد الرسالة وإرسالها وكان بالتالي يطلع على أسرار البيوت، لكن هذا ليس موضوع الحكاية كاملة، فهو ليس إلا وجهاً ممّا كنت أودّ الكتابة عنه. وقد جاء الاسم الثاني المنافس "دفتر الأحلام". فقد بدت لي الحياة في تلك الآونة وأنا أصارع قدراً شخصياً، بأن أقاوم العلاقة ما بين عالم اليقظة والحلم، وحقيقة ذاتي؛ من أكون في هذا العالم، وأنا أكتب.. كأنّها – أي الحياة – باتت كلّ هذه الصور، ولم تعد؛ ما هي؛ إلا لحظة التخييل العميقة التي يصعب التكهّن بها، بحيث نجد أنّنا لا نكتب في واقع الأمر، بل نحن لا نفعل سوى أننا نحاول أن نتمنّى؛ أن نقترب من الواقع الشخصي لنا، وهو كما يدرك "أهل الفن" ليس له أية علاقة بالواقع المغاير و"المنطقي"؛ "المفترض". وبين الاثنين – الواقعين - تصبح الحياة أشبه بالخيال أو الحلم، وتصنع الكتابة دفترها المنسيّ والمؤجّل. ثم كانت "الأنهار العكرة" هي التي انتصرت اسماً ومضموناً وسقطت التجارب القديمة، باتت مجرّد مسوّدات محترقة في الذاكرة، وجاء فصل من الرواية باسم "أحزان الأنهار"، وآخر باسم "دفتر الأحلام" وأخيراً "الطاعة"، وهي كناية عن الرضى والامتثال للأقدار. وإذ كنت قد كتبت في الفصل الأول عن قصة الراوي الذي ربما يشبهني، لكنّه ينفكّ عني بمجازات النصّ وحقيقته الأخرى المغايرة والموازية، فقد كتبت في الفصل الثاني عن عوالم البلدة القديمة وعودة مفترضة للراوي إلى هناك لم تحصل فعلياً، وهي ثيمة استخدمت كثيراً في نصوص المهاجرين حيث لابد للبطل أن يعود للديار ذات يوم، ليجد أنّ كلّ شيء قد اختلف وأنّ عالماً جديداً يُنسج في المكان وحيث لا فكرة تشبه الأمس تقريباً، وقد كتبت ذلك العالم، طبعاً؛ بطريقتي الخاصة. أما "الطاعة" فقد كانت أشبه بالمناجاة أو المناغاة التي تماثل صوت الأرض الأم وهي تناغي طفلها وتلاعبه. هذا الطفل الصغير ليس إلا أنا، فمهما حاولت أن أبدو مختلفاً أو أسير إلى فضاء آخر من العالم، كان ذلك الراوي الغائب والحاضر يسجّل ما يشبه مدوّنات "الفتوحات المكية" أو سرديات قديمة ما، ليس من تلخيص أو استحضار لموقعها في حيز بعينه في التاريخ ولا الذاكرة ولا اللحظة. كان ثمة نصّ حرّ ينفتح، يتوشّح بثوب قصيدة نثر، في اللامحدد من الوجود. وهناك سوف أتذكّر تماماً تجاربي الشعرية وكيف أفادتني، برغم أني توقفت عن تلك العلاقة التي تقوم مع الشعر على أنني شاعر مزعوم. فأنا لست شاعراً، ولم يعد الشعر يعني لي سوى الحياة بكليتها الشاملة، بحيث يصبح المزاج الشاعريّ عندي روحاً إنسانية، تغافل العالم كلّه وتتلاعب به وتناغيه. كانت لغة الشعر قد بسطت أو فردت طريقها في "روايتي الأولى"، بحيث باتت من أحب الأعمال إليّ، حتى لو أنّ تجربة الكتابة الخاصة بي، انفتحت بعدها نحو فضاءات المجرّب والجديد والانسياق للقضية الإنسانية عامة، لكن الجنين الأول، البكر، دائماً يكون له مرحه الخاص وشراسته المستحبّة ونوره الأبديّ. نشرت "الأنهار العكرة" بالقاهرة والخرطوم عن طريق ناشر سودانيّ، هو الشركة العالمية للطباعة والنشر، وكنت قد التقيت مديرها ومالكها الشيخ عووضة بمعرض الدوحة عام 2003 وعرضت عليه المسوّدة ووافق على نشرها، بعد ليلة من المراجعة والقراءة. وقال لي القول المكرور لكلّ سوداني يقتبل على درب الإبداع الروائيّ: "أرى فيها روح الطيب صالح".. قلت له: "نعم كلنا أبناء الطيب".. وفي العام التالي في مارس/ أبريل 2004 بمعرض أبوظي للكتاب كانت أول رواية لي قد رأت النور، وسافرت للمعرض من الدوحة لكي أرى مولودي الأول، لكن ثمة مصادفة أقوى كانت تحدث، وهي أنّ روايتي الثانية "دنيا عدي" وهذه قصة أخرى بحالها؛ وكنت قد سلمتها لناشر من مصر؛ كانت قد رأت النور في المعرض نفسه، فحملتهما معي، معاً، إلى الدوحة عائداً بفرحتين.
عماد البليك: كاتب وروائيّ من السودان من مواليد 1972 صدر له 16 مؤلفا ما بين الرواية والنقد الأدبي والفكر عامة، وقد صدرت له أول رواية "الأنهار العكرة" في 2004 وآخر أعماله الصادرة هي "وحش القلزم" عن أطلس للنشر بالقاهرة في يناير 2017. درس هندسة العمارة بجامعة الخرطوم ويعمل بمجال الصحافة في الخليج، ويقيم حاليا في مسقط بسلطنة عمان.
الرواية نت - خاصّ
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
0 تعليقات