بعد شهور طويلة أجلس بكلّ حماس هذه المرة لأكتب شهادتي عن روايتي الأولى "الهجرة على مدارالحمل". لقد تكلفت وقتاً ليس هيّناً للتخلّص من مشاعر ربّما تبدو مترفة، حتّى أتمكّن من استعادة مناخ مضى عليه اليوم ما يقارب ثمانية عشر عاماً وقد بلغ سنّ الرشد، وانفصل عنّي أو كاد. حين طُلبت منّي الشهادة لامسني شعور من يريد حبسي في تلك اللحظة، والتي تكرّرت مرّات بعد كلّ إصدار جديد، حينما وضعت يدي على غلاف الرواية الأزرق، وكانت النسخة قد وصلتني بالبريد وأتذكر كيف نظرت إليها أول مرة، لم أحتضنها ولم أصفّق فرحاً، بل وضعتها على الطاولة وكتبتُ مقالاً بعنوان "الحبل السرّيّ للرواية"، بعد أن داهمني ما يشبه اكتئاب ما بعد الولادة، أوقريباً منه، كان حزناً غامضاً ومؤرقاً يحتلّ كلّ مشاعري لم أفهمه، وحتّى في مرحلة لاحقة مع رواية ثانية، أدركت الفرق بين صدور مجموعة قصصيّة ونشر رواية. قبل الرواية الأولى وبعدها نشرت عدداً من المجموعات القصصيّة والتي غالباً ما كانت تنشر في الصحف والدوريات ويصلني بشكل فوريّ ومباشر صداها. القصّة القصيرة ليست نمطاً هيّناً بل فيها تحدّ جميل ودائم، إلا أنّها عمل يكتب دفعة واحدة تحت تأثير اللحظة الملهمة. بدأت الآن أدرك سرّ ذلك الشعور الحزين الغامض مع صدور عمل روائيّ، وهو الزمن؛ الوقت الذي يستغرقني بحثاً عن الفكرة وكيف أوثّق مصادر لها، ثم الوقت حين أنحت الشخصيات حتّى تتبلور لها ملامح وأسماء، بل عالمها الكامل.. أركض وراءها ثمّ نتبادل الأدوار فتطاردني في كلّ مكان. هذه العوالم تستغرق زمنا يطول أحياناً. بدأت أعدّ لروايتي الأولى وأنسجها منذ عام 1998 ونشرت في 2004م، ذلك الوقت يصبح النصّ ملكي الشخصيّ ومن ثمّ يولد وأتركه لمصيره. موضوع هذا النصّ كان الهاجس الحقيقيّ والشخصيّ، كان نصّاً جديداً ومختلفاً في المنجز الروائيّ الليبيّ، فهو يتناول مرحلة تاريخيّة امتدت لما يقارب مئة عام، إلا أنّ جرعة التاريخ تبلورت في العلاقات الاجتماعية التي أثّرت على بنية المجتمع الليبيّ، وهو الذي عرف بهجرات أبنائه أثناء الاحتلال الإيطاليّ. في تلك الفترة كنت أراقب خصوصية ليبيا؛ حيث عدد سكانها لا يتناسب مع مساحتها، وغياب الحديث عن الراهن في الرواية الليبية المعاصرة، وعدم مقاربة بنية العلاقات الاجتماعية حتّى لا تصدم بالسياسيّ كما أظنّ، لهذا انحسر المنجز الروائيّ، وكما وضّحت في دراسة ـ شكّل السرد عموما فضيحة الكشف، فغلب الشعر على المشهد الإبداعيّ الليبيّ لما فيه من رمزية آمنة، بينما كنت أرى أنّ ليبيا التي أعرفها بتفاصيلها وموروثها وعاداتها وتقاليدها غائبة عن مجمل الأعمال السردية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أعمال المبدع الكبير ابراهيم الكوني الذي اتّسمت أعماله بخصوصية وتفرّد ليبيّ وعربيّ، معظم أعماله تحكي عن بيئة الطوارق التي ينتمي إليها. فيما اتّسمت أعمال الروائيّ الكبير أحمد إبراهيم الفقيه بأثر الاغتراب عليه وهو شبه مغترب. أمّا الروائي الثالث الغائب عربيّاً خليفة حسين مصطفى، وكلّ أعماله الروائية عن مدينة طرابلس ولكن قبل الخمسينيّات، كنت أراه نجيب محفوظ ليبيا.. لا أستطيع الحديث عن روايتي الأولى من دون وضعها في سياق المنجز الليبيّ، ولهذا كنت منحازة لموضوع أبناء المهاجرين الليبين الأوائل إلى بلاد الشام ومن ثمّ عودة الجيل الثاني والثالث، بينما دفن الآباء في أرض الشام، كانت الصورة تتمايل في ذهني مع هجرة أسماك السلمون، يهاجر السمك الكبير ويتكاثر في مناطق بعيدة عن مكان عيشه الطبيعيّ وحين يطمئنّ إلى أنّه أدّى واجبه وحفظ نسله يموت هناك وتعود أسماك السلمون الصغيرة في هجرة عكسيّة وتعرف طريقها بحاسّة ربما حيّرت العلماء حتّى الآن. الصورة كانت شبه مطابقة لما حدث مع الليبيّين المهاجرين إلى الشام فقط، بينما المهاجرون إلى مصر وتونس كانت لهم خصوصية مختلفة، بل حتّى المجتمع الليبيّ منحهم صفة عنصريّة تولّدت نتيجة الانغلاق لفترة تاريخية، ومع استقلال ليبيا واكتشاف النفط، تضخّمت تلك المشاعر اجتماعيّاً وليس رسميّاً، بأنّهم العائدون، وهذا ما يطلق عليهم بمعنى الأقلّ وطنية، وهم الطامعون بليبيا الجديدة الغنية، بل أصبحت تهمة تقارب الشتيمة لمن لا يعجبهم سلوكه، بينما رسمياً كانت الحكومات المتعاقبة منذ استلام الملك السنوسيّ للحكم تطالب بعودة الخبرات الليبية التي تعيش في الخارج لتكون داعماً للتنمية.
كنتُ سمكة سلمون صغيرة، كيف أروي تلك الحكاية؟ هل كنت أبحث عن الانتماء الملتبس في هويّتي أم أحاول تصحيح مفهوم ملتبس عن الأجداد المهاجرين؟ برغم أنّ الذين عادوا من دمشق أو سوريا لم تكن صفة "عائدون" تخصّهم في ليبيا، بل كانوا يُرجعون إليهم الفضل في المساهمة ببناء ليبيا الحديثة، كانوا روّاداً في مجالات إبداعيّة وفنّيّة وإداريّة مع بداية الاستقلال، عادوا يحملون شهادات دراسيّة عليا وخبرات فنية، وهذا لا يعني أن الليبيّين الذين عادوا من مصر وتونس كانوا أقلّ منهم، ولكن حساسية الجوار وعددهم الكبير لعبا دوراً في تشكيل صورتهم. الليبيّون الذين عادوا من سوريا أيضاً لم يتخلّصوا من تأثير المجتمع المشرقيّ عليهم، حيث كانوا في سوريا أقلّية ليبية مغاربية مهاجرة، علاقاتهم الأسرية عميقة، لا يسمحون لبناتهم بالزواج من السوريّين إلا في حالات نادرة، وحينما عادت معظم هذه العائلات وجدت نفسها تتقارب أكثر بل حتى اختارت أماكن سكن متجاورة كما كانت قد فعلت في دمشق. هذه الملامح العامّة لمن اخترت أن أكتب عنهم، فكان الطريق إلى الرواية ممهّداً باتّصالات وزيارات ميدانيّة لكثير ممّن أعرفهم، بعضهم كان يعمل في مجال الكتابة، ولديه كتب حول تاريخ الليبيّين في سوريا ونضالهم السياسيّ، وعلى رأسهم من سعى إلى استقلالها بشير بك السعداويّ، وكيف كان نادي عمر المختار في دمشق وسط منطقة تسمّى بالطليانيّ، وتمّ استصدار قرار ليسمّى ذلك الشارع رسمياً باسم المجاهد عمر المختار، وكان ذلك يشكّل تحدّياً وانتصاراً لليبيين في ذلك الوقت. خلال طرقي أبواب المعارف وكثير من الأقارب استمتعت باستعادة تلك الذاكرة بقصص عائلية لهم وتجارب وانطباعات ومفارقات وآراء، معظمهم دعمني للكتابة عن حيَواتهم، بعضهم كان حكّاءً من طراز رفيع، وبعضهم حاول جرّي للكتابة التاريخيّة والنضاليّة، كلّ حسب هواه. وأتذكّر كم استمتعت بما ترويه عمّتي لي من حكايات، لهذا كان لا بدّ من شخصية "العمّة" لتكون بطلة في المشهد الروائيّ، وانتبهت فجأة إلى أنّني جمعت عدداً من كرّاسات صغيرة الحجم وأنيقة بألوان مختلفة، كنت أشتريها بالعادة وأنا في طريقي إلى موعد مع أحد الشهود أو الأبطال الرواة، وفي النهاية قرّرت شراء كرّاسة ذات حجم كبير، والدخول في عزلة تفريغ تلك الحكايات وصوغها ضمن حبكة روائيّة. قرّرت الكتابة على الورق، برغم حسن استخدامي لجهاز الكومبيوتر، كنت أخشى من سرعة تدفّق الأفكار بحيث لا تتوازى مع سرعة نقر أصابعي على الجهاز، أخذت أحبّر الأوراق على الكرّاسة الكبيرة وأترك صفحة فارغة مقابل كلّ صفحة مكتوبة، وحين كنت أعود في اليوم التالي لأعيد قراءة ما كتبت وبالقلم الأحمر كانت تخرج سهام طويلة بين المقاطع المكتوبة إلى الصفحة المقابلة، أضيف فقرة أو جملة، أو أضع ملاحظة شخصية.. كان كلّ ما يلزمني وقتها قصّة حب عاطفيّة ، لا أعرف لماذا كنت مصرّة على أنّ قصّة حبّ يمكن أن تجذب القارئ..! وفي ذلك الوقت فكّرت كثيراً بالقارئ، كان هاجسي أن يجد متعته ويكتشف عالماً جديداً لا يعرفه سابقاً. كنت أسجّل في صفحات من كرّاساتي الصغيرة أقوالاً لفلاسفة وأدباء، وحين أتصفّحها أجد أنّها ملهمة للعمل. اقتبست الكثير ممّا جمعته، حاولت توظيفه ضمن السياق الروائيّ، كانت مرحلة تجريب فعليّ لكتابة الرواية الأولى دون تأثّر بأسلوب سبق أن أعجبت به. في الواقع خضت التجربة بحبّ حقيقيّ للنصّ، كنت أستمتع حينما أخلق شخصيّة ذهنيّة مركّبة من ملامح عدد من الأشخاص الذين عرفتهم، وكانت غرفتي في ذلك الوقت لا تحتوي إلا على مكتبة تمتدّ على اتساع الجدار المقابل، وطاولة صغيرة لجهاز الكومبيوتر، وطاولة الكتابة وكنبة عريضة، أصبحت إقامتي الدائمة فيها، هجرت غرفة نومي طيلة تلك الفترة، كانت للغرفة شرفة واسعة جميلة، أحمل فنجان قهوتي وأحتسيه هناك وأتأمّل الشارع بعين ترى ولا ترى إلا ما في خاطرها.. كانت ملامح العابرين تحت الشرفة تغدو شبيهة بملامح شخصيات روايتي، تملّكني الإحساس بالمسؤولية عن مصير هؤلاء الأشخاص الذين كان لهم في الواقع وجود، إلا أنّني عملت باجتهاد لإلباسهم أقنعة أخرى، كان الخوف يتسلّل بين الأسطر من غضب أحدهم، لكنّني كنت مستمرّة في الكتابة. لم أجرؤ على طباعتها، وطلبت من ابنة عمّتي رقنها، فهي أسرع منّي بكثير، واشترطت عليها عدم إبداء رأيها الشخصيّ، كنت أرسل لها الفصول مصوّرة من كرّاستي وأستلمها مطبوعة على قرص مدمج، ثمّ أخذت أجري التعديلات النهائية حين اتّصلت بي ابنة عمتي، وقالت اسمحي لي بالتدخل. ثمّ أخبرتني أنّها وجدت في الرواية متعة كبيرة، ولكن بعض الحكايات سوف تترك أثراً سلبيّاً على علاقاتنا الاجتماعيّة بمن نعرفهم ونملك معهم علاقات وطيدة. كانت تشير إلى مشاهد أعتقد أنّها من أجمل ما كتب في روايتي تتضمّن أحداثاً دراميّة تنهض بالعمل والنصّ بمجمله، وحدث ذلك الصراع المؤجّل، هل أرضي القارئ على حساب من باح لي بأسرار وقصص صارت ضمن نسيج الرواية أم أشطبها؟ في الواقع لم أكن أمتلك الأدوات الفنّيّة لكتابة نصّ سرديّ طويل أتحايل في إخفاء الملامح الكاملة لتلك الشخصيات التي استدرجتها لتكون محوريّة في العمل، وفضلت شطب الكثير من الصفحات وتغيير الأحداث لتناسب التعديل، وقتها أصبح العمل شاقّاً متعباً، وأتذكر أنّني كتبت عنه ليكون عتبة النصّ حول شجاعة التدوين الكامنة في الحذف والشطب. ظروف كثيرة حالت دون طباعة الرواية بعد إنجازها ولكن أرسلتها في عام 2003 إلى دار الأوائل في دمشق وصدرت في أبريل 2004م. في المقدّمة ذكرتُ حماسي اليوم لكتابة الشهادة، والسبب أنّ الرواية تمّ تناولها بالدراسة والقراءة بل كانت مشاريع لرسائل ماجستير ودكتوراه، وأغلب من كتب عنها في ليبيا، ولمعرفتهم بأنّي أنتمي إلى أبناء المهاجرين أجدادهم إلى سوريا، كتبوا أنّها سيرة شخصية، لم يكن هيناً عليّ تقبل الأمر، بل كان مزعجاً لفترة من الوقت، وتولّد الإحساس المريع بأنّها ليست سوى سرد عاديّ يخلو من أي قيمة فنّيّة. وأقول لنفسي: كلّ ما فعلته من تغير ظروف البطلة زينة في الرواية حتى لا تشبهني، إلا أنّ البعض مصرّ على محاكمة الرواية، حتى أخلاقياً، وكأنّها تخلو من الفنّ والخيال، ويتحدّث عن بطلة الرواية زينة وعلاقاتها العاطفية بأنّها الروائية الكاتبة نفسها. أعترف أنّ الناحية النفسيّة وارتباطها بالمكان وحيرتها بين ذاكرتها في دمشق وحياتها في طرابلس هي ذاكرتي الشخصية وتجربتي الخاصة ونظرتي إلى بيئتين فيهما تباين من حيث العادات والتقاليد، لكنّني في ذلك الحين وأثناء الكتابة لم أمتلك الخيار في منحها لشخصية أخرى في الرواية التي تتحدث بضمير المتكلم، فوسمت بأنّها سيرة ذاتية، فيما هي سيرة ذاكرة جمعية لكلّ أولئك الذين تحدّثت عنهم الرواية، ولم أكن بدوري سوى سمكة سلمون صغيرة عليها أن تدوّن الحكايات وتحميها من الاندثار الضياع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روائية ليبيّة مقيمة في هولندا.

الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم