"1" لحظة غضب، تلك التي سبقت كتابتي لرواية "تخوم الرماد" – أولى رواياتي المنشورة. غضب أنتجه الواقع العام المحتقن من حولي. هذا التصاعد الانفعالي الغاضب دفعني وقتها إلى الانكفاء على الشيء الوحيد الذي كنت وما زلت أرى أنّني أجيده، ومن خلاله أستطيع التعبير عن نفسي وطرح آرائي عن العالم والأشياء التي من حولي؛ أعني الكتابة. الآن أحاول استعادة هذه اللحظة الشعورية النادرة: اصطدامي بصورة فانتازية لمشاهد سوق المحاصيل الكبير في مدينة نيالا "دارفور"؛ الشاحنات الضخمة محملة بالبضائع، الازدحام الكبير في دروب السوق الضيّقة، حركة الحمالين النشطة في تحميل جوالات المحاصيل، حرارة الجوّ الخانقة، الأصوات الضاجّة، الوجوه التي أخذت بغتة تظهر متداخلة مع كلّ هذا أمام وجهي؛ معارف رحلوا فجأة خلال الشهور الأخيرة، سائقو شاحنات وتجار محاصيل صغار، وشرطيون قتلوا خلال مناوشات أخيرة في تخوم المدينة القريبة، تداخل غريب ما بين الحركة الهائجة للسوق ومشاهد الموت والدماء التي بدأت أخبارها تنتشر في سماء المدينة.. كنت غاضبا، أسرع من خطاي لقطع مشوار طويل نسبياً حتى المنزل، في منتصف الطريق لمحت بقالة، تحسّست جيبي، وجدت ربما نصف جنيه، أخذته واشتريت كرّاسة مدرسية من الحجم الصغير وقلم ماركة "بِك"، قبضت عليهما بعنف، وواصلت مسيري وصور مشوشة لمفتتح الرواية وشخوصها تتخلل ذهني وتسحبني رويداً من كلّ شيء حولي. حين وصلت البيت كان أول ما فعلته أن فتحت أول صفحة من الكراس وكتبت عليها: تخوم الرماد – رواية.. وبدأت الكتابة.

"2"

قال أحد النقاد بعد صدور رواية "تخوم الرماد" إنّ كاتبها الشابّ – كتبتها في سن 26 عاماً – تأثر بالروائي الطيب صالح، ويلاحظ ذلك في استخدامه لتقنية التبادل الصوتي بين راويي العمل الرئيسين. كانت ملاحظة جيدة، لكنها لم تكن صحيحة؛ على الأقلّ في جانب تأثري بالطيب صالح في لعبة التقنية والأصوات، فمع قدم وانتشار هذه التقنية أصلاً وعدم اختصاصها بكاتب بعينه، إلا أنني كنت مأخوذاً بالفعل لحظة كتابة "تخوم الرماد" برواية "الوشم" للكاتب العراقي عبدالمجيد الربيعي، التي أعدها من أكثر الروايات العربية اكتمالاً وامتلاءً من حيث موضوعها وتقنيتها. كتبت "تخوم الرماد" بلغة شعرية مكثفة تفعلها الجمل القصيرة الرشيقة وتدعمها الحوارات المبثوثة في تقاطعات متناثرة أشبه بلغة الأحلام، وربما نتج ذلك عن تأثري بأسلبة القصة القصيرة التي كنت مستغرقاً في كتابتها ذلك الوقت. من المفارقات التي صاحبت هذه الرواية أنّ لغتها واجهت شكلين متعارضين جداً من النقد؛ الأول توقف عند الأخطاء اللغوية التي صاحبت طبعتها الأولى وحاولت نسف الرواية على أساسها، والثاني ركّز على لغتها الشعرية المكثفة وحاول ربط ذلك بـ: توصيف النبوئية الذي لازم الرواية منذ صدورها وحتى هذه اللحظة. بعد صدور الرواية بسنوات ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، ونالت جائرة الطيب صالح للإبداع الروائي، عن ترجمة المترجم والناقد السوداني، ناصر السيد النور، الذي كتب منذ وقت مبكر لافتاً إلى الميزة اللغوية والبنائية للرواية.

"3"

تناولت رواية "تخوم الرماد" التحولات العنيفة التي كانت تضرب إقليم دارفور وتبشر باندلاع حرب وشيكة، عن طريق سرد قصة شخصيتين أساسيتين تنتميان للمؤسسة العسكرية والحزب الحاكم في السودان، وتقاطع علاقتهما مع القيادات القبلية المحلية، وتفسير حالة الفساد التي مهدت لصعود كليهما سلطوياً واجتماعياً ومادياً. صدرت الرواية قبل اندلاع الحرب في دارفور بثلاثة أعوام فعدّها الكثير من النقّاد والقراء نبوءة بهذه الحرب. وكثيراً ما وُوجهت بسؤال النبوءة هذا، وكنت أجيب دائماً بأنّه ليس من مهامّ الأدب – الرواية التنبّؤ، وإن ما حدث لا يعدو كونه استقراء لواقع أحسّه وأستشعره لأنّني كنت في قلب أحداثه، فوجودي مع والدي في سوق نيالا للمحاصيل أتاح رصد ما يحدث من مصادر مباشرة تختلف تماماً عن المبثوث رسميا، كما عرفني بشكل دقيق على مخاوف أهل الإقليم وتوقعاتهم لما ستؤول إليه حال دارفور قريباً في ظلّ التردّي الأمنيّ والسياسيّ الحادثين. حاولت في "تخوم الرماد"، الاقتراب من أسئلة الناس العاديين، أوجاعهم وآلامهم وشظفهم اليومي، حاولت تقديم ذلك التغيير الاجتماعي المخلخل الذي بدأ يسري في أوصال مدينة نيالا – أمر سأتناوله بشكل أعمق في رواية أشباح فرنساوي – حاولت فضح أساليب وأكاذيب السلطة الحاكمة بمواجهتها بذات أسئلتها المدعاة ووضعها أمام جرمها التاريخي بتشويه العلاقات الاجتماعية وتخريبها في هذا المكان الذي كانت تعده قصياً ومنسياً. الآن، أرى أن "تخوم الرماد" لم تكن نبوءة بحرب دارفور المستمرة حتى الآن بقدر ما كانت احتجاجاً على مصير الإنسان في هذا الإقليم وفي كلّ مكان.

"4"

يمكنني القول إنّ الفضل في استمراري في كتابة الرواية واختيارها وجهة معبرة عني يعود في الأساس إلى هذه الرواية، فلولا صدورها وما أثارته من ردود أفعال نقدية ومقروئية، لما اكتشفت إمكانيات الروائي الكامنة في داخلي، وعمدت بالتالي على الاشتغال على ما يمكنني أن أصفه بـ "مشروعي السردي"، الذي صدرت عنه حتى الآن خمس روايات هي "تخوم الرماد" و"ذاكرة شرير" و"أشباح فرنساوي" و"آخر السلاطين" و"عربة الأموات"، كما أعتقد جازماً أنّ الفضل الأكبر في كتابتي لأولى روايتي واستمراري من بعد في كتابة الرواية يعود إلى والدي – أستاذ اللغة العربية والأديب والمزارع وتاجر المحاصيل -، فما كنت أعدّه ممانعة منه لتمويلي للاشتغال في "سوق الله أكبر"، كان رؤية متقدمة منه إذ كان يراني أبحر في مجال آخر عليّ أن أشحذ له أدواتي جيداً بعيداً عن مستنقع السوق وسماسرته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • روائي سوداني. نشر حتّى الآن له خمس روايات، هي: "تخوم الرماد"، "ذاكرة شرير"، "أشباح فرنساوي"، "آخر السلاطين"، "عربة الأموات".

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم