عندما غدا "فايسبوك" حديث الناس، قررتُ أن أكتب رواية مستوحاة من هذا الموقع الاجتماعيّ. لم أكن أعرف شيئاً عنه إلا اسمه وتوفيره فرصة لإعادة إحياء صلات صداقة وقربى مفقودة. والأهمّ سهولة التعرّف بالنساء. أنشأت فيه حساباً باسم مستعار وبدأت التجربة وسرعان ما عثرتُ على فكرة الرواية. أمسك عن كشف تفاصيلها مخافة أن تُقرصن. واتّفق أنّ الملحق الثقافي التابع لجريدة "النهار" اللبنانية كان يعدّ عدداً ممتازاً عن عالم التواصل الافتراضي، فطلب إليّ مديره الشاعر عقل العويط الذي كان على بيّنة من مشروع الرواية، أن أساهم بفصل منها في العدد العتيد. وهكذا كان. صدر الملحق مطلع 2010 متضمّناً الفصل الذي حمل عنوان "خمس حيوات على الفايسبوك" وذيّلته عبارة "فصل من رواية ستصدر قريباً". نال الفصل استحساناً غير اعتياديّ بعدما تناقلته بضعة مواقع على الانترنت. وراح أصحاب وقرّاء يسألونني كلّما التقينا متى ستصدر الرواية. وجوابي على الدوام: "قريباً". هذا الوعد استأخرت الإيفاء به حتى ربيع 2012 عندما استأجرت شاليه تطل على البحر من الطبقة العاشرة. تعمّدت الاستغناء عن كلّ ما قد يحول دون انصرافي التام عن الكتابة والقراءة. فلا تلفزيون. ولا خدمة إنترنت. ولا حتى راديو. بنيت الحبكة على خمس شخصيات نسائية، وبدأت الكتابة. أكتب نحو ألف كلمة يومياً. وإذ وصلت إلى الشخصية الثالثة، وهي السيّدة العمياء، وجدت أنّها وحدها تستحقّ رواية بعدما تدفّقت علي أفكار كثيرة تتعلق بهذه الشخصية الخصبة. للحال، توقفت عن استكمال الرواية بعدما أنجزت نحو ثلثها، ورحت أبحث عن فكرة رواية جديدة تكون بطلتها كفيفة. استقدمت مقاتلاً مسيحياً وفتحت من خلاله نافذة على الحرب اللبنانية وعلى الواقع المستجدّ لأضفي على السرد طابعاً محلياً. اخترت المقاتل من حزب القوات اللبنانية لسببين، الأوّل لأنّه حزب اعتُقل رئيسه واضطُهد المنتسبون اليه وزُجّ بهم في السجون، والسبب الثاني أنّ الرواية اللبنانية تطرّقت الى الحرب من وجهة نظر يسارية وإسلامية وفلسطينية، وعليه ارتأيت أن آتي الحرب من الزاوية المسيحية. وكان لا بد من الاستعانة بالذاكرة لبناء شخصية الراوي. فأنا لم أكن مقاتلاً. لكنّي عرفت مقاتلين كثراً، من بينهم شاب مثقف عمل في مجال الاستخبارات. تعرّفت به بُعيد انتهاء مرحلة الحرب، وتوطدت علاقتي به بعدما دقّقت لغوياً أطروحة له أعدّها لنيل شهادة الدكتوراة في الفلسفة. من الشذرات التي كنت ألتقطها من مرويّاته في خلال نشاطه الأمنيّ، استوحيث الكثير ممّا تضمّنته الرواية. حتى ملامح الراوي استمددتها منه. للمناسبة، إنّه يعرف ما فعلت ولطالما تباهى في حضور أصدقاء مشتركين بأنّ لدى بطل "ليل" شيئاً منه. جعلتُ الراوي يختبئ في دير للرهبان هرباً من الملاحقة التي كان يقودها وقتذاك النظام الأمنيّ اللبنانيّ- السوريّ. في الدير، قرأ فتثقّف واستطاع أن يحوز شهادة جامعية. وغادره بعدما أمضى أحد عشر عاماً على أثر خروج زعيم حزبه من المعتقل حيث أمضى هو أيضاً المدة نفسها. حصل ذلك نتيجة تبدّل المعادلة السياسية عقب اغتيال رئس الحكومة رفيق الحريري. وقد أخرجتُه من الدير ليقيم علاقة بسيّدة كفيفة تعرّف بها عبر الفايسبوك. جعلتُ هذه السيدة ميسورة ومتفائلة ومُحبّة للحياة برغم فقدانها البصر بعد بلوغها الأربعين. حاولت من خلالها القول إنّ الانسان مفطور على التعلّق بالأمل مهما تكن الظروف. وأضأتُ من خلالها أيضاً على الصلات السائدة بين ثلة من السيدات المنتميات الى الطبقة الثرية، والعادات المُرافقة لتلك الصلات. حالما أنجزتُ الكتابة الأولى ثمّ التدقيق ثمّ طبعها مرة ثانية على الورق تسهيلاً للقراءة، شئتُ أن أصدرها في شهر أيار/ مايو، فاتّصلتُ بدار الساقي التي تربطني بها مودّة عمرها خمسة أعوام، هي المدّة التي عملت فيها لحسابها مدققاً وأحياناً قارئاً للمخطوطات ومُبدياً الرأي في مستواها، اتّصلت بالدار وأرسلت النصّ عبر الانترنت ثمّ للحال أرسلتْه مديرة التحرير إلى أحد المدقّقين، فهذه الخطوة الأولى في الطريق إلى النشر. لكن حين علمتُ أنّ موعد الإصدار في كانون الأول/ ديسمبر، وتحديداً مع افتتاح معرض الكتاب العربي والدولي، اعتذرتُ إلى الدار، وقرّرت الطبع على نفقتي. إذ ذاك، بات لزاماً عليّ تولّي إخراج الغلاف وسائر التوابع التي كان مفترضاً أن تتولّاها الدار. أنفقت بضع ليالٍ بحثاً في لوحة تناسب موضوع الرواية. زرت عدداً كبيراً من المواقع المتخصّصة على الشبكة العنكبوتية ولم أعثر على شيء مُرضٍ. وبطريق المصادفة، وجدتُ ضالّتي لدى سلفادور دالي، لوحة من مجموعة محورها فتاة تنظر من النافذة إلى البحر وقد رُسمت من الخلف. من المجموعة، وهي من بواكير الفنان الإيطالي، اخترتُ واحدة من أكثر اللوحات احتشاماً. وتصدّرت غلاف الطبعة الأولى. وقد أصدرتُ الرواية عن دار "مختارات" كي يُتاح ترشيحها للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر 2013). علماً أنّ الطبعة الثانية منها خرجت في منتصف الصيف الفائت عن "منشورات ضفاف"، منقحةً وتصدّرت غلافها لوحة لجورج دي لاتور. اخترت "ليل" عنواناً بعد غربلة بضعة عناوين، منها "السيدة التي أحبت بشير"، وبشير هو الرئيس اللبناني بشير الجميل الذي قضى اغتيالاً، و"أعجوبة الابونا سمعان" من وحي حادثة حصلت مع البطلة أيام الطفولة. رسا اختياري على "ليل" لتضمنّه ثلاث دلالات معبّرة جداً عن الرواية، هي ليل الحرب والقتل والموت، وليل مستقبل البلاد المجهول، والليل الذي تعيشه الشخصية الأساسية عقب فقدان نظرها. وبرغم الحرص على أن يأتي النصّ منزّهاً من الأخطاء المطبعية، فقد عثرتُ على عدد كبير منها. وهذا ما أزعجني وأكّد لي صحّة المقولة التي لطالما رددتُها، وهي "الكاتب عدو نصّه". لكني لم أتعلّم من هذه التجربة، إذ شابت روايتي الثانية "حارس الموتى" بضع غلطات مطبعية. حدث هذا مع أنّي كنت قرّرت إسناد مهمّة مراجعة الرواية إلى قارىء آخر قبل تسليم المخطوطة إلى الناشر. المشكلة أنّ الناشر يطمئنّ إلى النصّ الذي أرسله إليه فلا يحيله على المصحّح لدى الدار كي يعامله هذا على جري معاملته سائر النصوص. ثقة غالبية المدقّقين بمدى اعتنائي باللغة تجعلهم يتريّثون قبل تخطئتي، وأنا لا أنفكّ أكرر على الدوام: "كلنا نخطىء. لا أحد معصوماً من الخطأ" متى شئت تعزية كاتبٍ ارتكب أخطاء فادحة في نصّه. قبل شهرين صدرت الطبعة الثانية من "ليل". تفاديتُ قراءتها لأنّ العثور على غلطة واحدة يزعجني جداً. آمل أن تكون خالية من الأخطاء بعد الجهد المضني الذي بذلته في سبيل ذلك. قوبلت "ليل" عقب الصدور ببضع مقالات مُرحّبة. للمثال، عدّها الناقد اللبناني عبده وازن "رواية بديعة" في مقال نُشر في جريدة "الحياة". وأشادت جريدة "النهار" في مقال كتبه الشاعر عقل العويط ولم يوقّعه، بلغتها الأنيقة وسردها الشائق. وبرغم النقد الإيجابيّ، لم أتوقّع بلوغها أية قائمة من قوائم الجوائز التي رشّحتها لها، لأسباب لا تخفى على القارىء. خصوصاً إذا قرأ الطبعة الأولى من الرواية. هكذا ولدت "ليل". وبعد مضي ثلاث سنوات على ولادتها، لم تزل في عداد أكثر الكتب مبيعاً في مكتبات بيروت. ـــــــــــــــــــــــــــــ جورج يرَق، كاتب وروائيّ لبناني من مواليد (1958)، مارس العمل الصحافي لعقود، عمل محرّراً وسكرتير تحرير وكاتباً حرّاً في صحف ومجلات لبنانية عدة، توجّه مؤخّراً لكتابة الرواية، صدرت روايته الأولى "ليل" في العام 2013. واختيرت روايته الثانية "حارس الموتى" ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2016م.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم