"تلك المائة عام" لشيخة الفجرية.. أوراق الحب والعز والانكسار
بدأت الرواية بجملة أجدها أجمل ما يمكن أن أبتدئ به قراءتي (لا شيء يجدر به أن يكون عنوانا للحياة، أكثر من الحياة نفسها) لذلك أيضًا وضعتها الكاتبة على غلاف الرواية.
تدور أحداث الرواية بين سلطنة عُمان وزنجبار، في سرد متوازي ينقلنا من هنا إلى هناك، ومرة أخرى إلى هنا. في الفترة التي كانت حياة العمانيين تتسم بالرخاء هناك - أي زنجبار - وشظف العيش هنا في عُمان، والحداثة هناك والتأخر هنا، ولا أدل على ذلك من الصحافة هناك، واقتصار الأمر على الرزحة (فن شعبي للرجال) في الإخبار ببعض ما يود الرجال قوله في أشعار الرزحة، مما لا يجرأون على قوله صراحة، كاتهام "سلطان" لزوجته "عذبة" بالخيانة بعد أن قررت تركه، والرجوع لبيت أهلها، لأنها لم تعد تطيق الحياة مع رجل لا تحبه، ولا ترى فيه رجلا يمكنها العيش معه؛ فاتهمها بخيانته مع مهنا، ولكن مهنا الذي أعجب بها بمجرد رؤيتها ذات يوم تقدم لخطبتها، فوافقت عائلتها ليتخلصوا من الفضيحة التي لحقت بهم بسبب ما رماها به زوجها، وكان هذا من حسن حظ "عذبة" التي وجدت في "مهنا" الرجل الذي كانت تتمناه طوال حياتها، وانتقلت معه للعيش في زنجبار، لتتعلم هناك على يد والده الشيخ "سيف" الذي كان مهتما بتعليم النساء بشكل خاص اللغة العربية، لأنهن هن من يحملن على عاتقهن تعليمها للأجيال القادمة، خشية ضياعها وسط الثقافات المختلفة في زنجبار في تلك الفترة.
ارتكزت الرواية على شخصية "عذبة" الراوي الرئيسي في الرواية، متحدثةً عن نفسها تارة، وعما يدور من أحداث بعيدة عنها تارةً أخرى، مُتتبعةً بذلك أسلوب الراوي المشارك، والذي يقوم فيه الراوي بدورين؛ فهو شخصية مشاركة في العمل، وهو الراوي للأحداث الأخرى في الرواية، وهو ما يصفه البصام بقوله: "هو إحدى شخصيات الرواية التي يتلقى منها القارئ تشخيصا لذاتها أو لغيرها من الشخصيات، وقد أطلق نورمان فريدمان عليه الأنا المشارك"1 وهو أسلوب يتناسب مع فكرة الرواية التي اتخذت لها مكانين مختلفين في وقت واحد.
الصراع في الرواية مستمر من بداية الرواية حتى نهايتها، وإن بدا باردًا أحيانًا، وغير منطقي أحيانًا أخرى، كتدخلات "مرهون" في كل خِطبة تحدث، واعتراضه بقوله إنه الأحق بالفتاة، ومن ثم تنازله بمنتهى الهدوء، وكأن الأمر لا يعنيه أصلًا، كاعتراضه على خطبة "مهرة" ابنة عمته عذبة من الشيخ الجلندى؛ فلماذا تدخَّل إن كان الأمر لا يعنيه فعلًا، ويعلم أنه لن يجني منه إلا الخِزي، والإهانة.
السرد التقريري أيضًا قطع هذه الإثارة في الكثير من المشاهد، كالمشاهد التي تصف بها طريقة عمل "البخور" مثلا، والمواد المكونة له، إذ تسهب في الأمر بلا داعٍ؛ فقارئ العمل الأدبي لا يحتاج لمن يخبره مكونات البخور العماني وطريقة عمله، والرزحة، وفكرتها، ونظامها، وقصائدها، والأسلحة المستخدمة فيها، وطبيعة رقصاتها. وهذا الأمر نلاحظه في كل الرواية، فالكاتبة أرادت التعريف بأغلب العادات والتقاليد العمانية القديمة، وبرأيي الرواية لا تحتمل المرور على كل التفاصيل؛ لأنها عمل أدبي، وليست عمل توثيقي، كما أن سر نجاح العمل الأدبي في التعريف بأي شيء، هو بجعل القارئ يبحث عن المعلومة السريعة التي قرأها في الرواية؛ ليتأكد منها، أو ليزداد معرفةً بها، وقد نجحت الكاتبة في إبراز ثقافتها، وإطلاعها على التراث، ومعرفتها بالعادات والتقاليد، ولكنها أيضًا بالمقابل لم تتناول بقية الأحداث كما يجب، كالصحافة العمانية في زنجبار، ومحاولة بريطانيا القضاء على الوجود العماني في شرق أفريقيا، فلم تدخل في لب الصراع الحقيقي في تلك الفترة، وكان من الممكن أن تختصر الكثير من السرد التقريري في الرواية، وتحوله إلى تفاصيل لأحداث كانت مهمة، ومفصلية في تلك الفترة.
من الأمثلة على التقريرية في الرواية:
(يبدأ الشاووش وبقية الرجال شلة اللال. هي أشبه بالموال الحزين، المؤدى بصوتٍ جماعي وشجي.
انتهت شلة اللال، وبدأ المزافن، وهي أجمل أجزاء الرزحة، حيث تُستعرض مهارات القفز بالسيف والمتاقاة بها) ص ٣٨
وتكمل في نهاية الصفحة ذاتها (ولأن الرزحة فن فرجوي إخباري ممتع للجميع في القرية، نساء ورجالا وأطفالا؛ اجتمعت النسوة في مكان يسمى الحياب. لأنه فعلا يحجب الرجال عن رؤيتهن، بينما يستطعن أن يرينهم ويسمعنهم بوضوح تام، وأحيانا يكتفين بسماع أصواتهم إن تعذر وجود ساتر يفصل بينهم).
هذه التقريرية رافقتها أيضا إشكالية في صياغة الجمل؛ فنجد مثلا فقرة مكتوبة كالتالي: (خرجنا جميعًا من البيت باتجاه الصوت، النيران تتصاعد في المزرعة، مهنا وأبوه يركضان مستغيثان بالجيران، يأتي الجميع مذعورًا ما يلبث أن يتجه لجلب الماء فيما تيسر له من أوعية، كنت كما يفعل الجميع...) ص 84، والجمل في الفقرة ص 184 (صرخ عامر لائمًا ابن أخيه، يلتفت فهد لعمه دون أن يكون لديه جواب، يلتفت الرجال فجأة بحركة متسقة واحدة نحو ضوء يبرق من بعيد، لم يعودوا من التفاتتهم...) وأكتفي بذكر هذين المثالين اللذين تعمدت أن يكونا بعيدين عن بعضهما.
وكما نعلم فإن صياغة الجمل في اللغة العربية يُحتّم وجود حرف عطف بين الجمل، أو الربط بينها بشكلٍ ما طالما كان هناك فاصلة بين الجمل، وليس نقطة كدلالة على نهاية الفقرة.
وكما عادت الكاتبة إلى بداية الحكايات، أعود إلى بداية تعرّف القارئ على الرواية، وكما يقولون "المكتوب ينقري من عنوانه" يتعرّف القارئ على الرواية من خلال العنوان الذي وصفه حمداوي بقوله "من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية نظرًا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والرواية بصفة خاصة"2 وهو "عتبة النص، وبدايته، وإشارته الأولى"2، أما عبدالمالك اشهبون فوصفه بأنه "معبرًا نحو مضمون النص، وعنصر وشاية بمحتواه الإيديولوجي".3 وقد اختارت الكاتبة لروايتها عنوانًا ملفتًا للقارئ وهو "تلك المائة عام" العنوان الذي لفت نظري مباشرة في الرواية، وربما كل من ستقع عينه عليه سيعود به مباشرة إلى الرواية الشهيرة "مئة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، فتساءلت عن المائة عام التي قد تحمل التشابه بين العملين، كما حملته في العنوانين، ولكني في الحقيقة لم أجد في رواية "تلك المائة عام" ما قد يُفسّر اختيار الكاتبة لهذا العنوان، إلا قولها في الصفحة 267 "فتلك المائة عام، كانت هي الألم والعزلة" وفي هذه الجملة عودة أكبر إلى عنوان ماركيز، الذي ارتكزت روايته على العزلة التي استمرت مئة عام، وهذا ما لم يكن في الرواية المُتَناولة، عدا ذلك لم أفهم سبب تسمية الرواية بهذا الاسم، فلا وجود لمئة عاما فيها، وأجد بأن الكاتبة كانت في غِنىً عن استخدام هذا العنوان، وكان بإمكانها عنونة روايتها بما قد يدل القارئ على فحوى الرواية، أو يشير له، أو على الأقل يمتُّ له بصِلةٍ ما، وعدم الارتكاز على عنوان عمل آخر، خاصة أن أحداث الرواية دارت فيما يقارب العشرين عاما، إذا حسبناها من بداية زواج "عذبة" من "سلطان"، مع أن الزمن الفعلي لأحداث الرواية لا يزيد عن عشرة أعوام؛ لأنها فعلا ابتدأت بعد طلاقها منه.
صدرت رواية "تلك المائة عام" عن دار نثر، بدعم من الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء ضمن مبادرتها لدعم إصدارات أعضاء الجمعية، وهي العمل الروائي الأول للكاتبة، ولكنها ليست تجربتها الأولى في الكتابة؛ فلها كتابان نقديان، وعدة أعمال درامية تلفزيونية وإذاعية.
المراجع:
* أحمد مجيد شاكر البصام، مفهوم التشخيص وتمثلاته في الرواية العراقية، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية. مج12,ع22. العراق. 2018.
* جميل حمدان، مقاربة العنوان في الرواية العربية، دنيا الوطن، 2006.
* عبد المالك اشهبون، العنوان في الرواية العربية، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، 2011.
0 تعليقات