رواية (خرافة الرجل القوي) ورواية (زوج بغال) للروائي بومدين بلكبير -أنموذجا-

 خديجة مسروق (الجزائر)

عملت الرواية الجزائرية منذ ولادتها، على ملامسة الواقع، ونقله بأمانة للقارئ، ضمن التأريخ للثورة الجزائرية، إلى تدوين العشرية السوداء التي وقعت في تسعينيات القن الماضي، عرفت فيها الجزائر أنهارا من الدماء، نتيجة للصراع بين جبهتين متناقضتين (السلطة والعناصر الإسلامية المسلحة).

حاول الروائي الجزائري في فترة التسعينيات التفاعل مع الأزمة الراهنة، ومواكبة المستجدات بشكل دقيق، والتأسيس لنص روائي يؤرخ لتلك المرحلة الحاسمة في حياة الجزائريين.

فما هي مظاهر الأدب الجزائري في المرحلة التسعينية؟

تميز المشهد الأدبي الجزائري (الرواية) خلال تلك المرحلة بطابع خاص تمخض عنها أدب الأزمة وقد عرف أيضا ب (الأدب المأساوي) و(الأدب الاستعجالي).

إذ يعد أدب الأزمة من أهم الإنتاجات الإبداعية الجزائرية، في وصفه للحرب الأهلية الطاحنة التي وقعت بين أبناء البلد الواحد (الجزائر)، وقد تجسد من خلال العديد من الأعمال الروائية منها رواية (الشمعة والدهاليز للطاهر وطار) ورواية (سيدة المقام لواسيني الأعرج) على سبيل المثال لا الحصر.

حيث قامت الرواية الجزائرية التسعينية بكسر النمط السردي الكلاسيكي الذي ظل حاصلا بموضوع الثورة والاستعمار الفرنسي للجزائر، بالانتقال إلى موضوع العنف والإرهاب والموت، وهي موضوعات لخصت فواجع ومآسي العشرية السوداء.

وإذا كانت مرحلة التسعينيات قد حفلت بالأدب المأساوي، فإن الرواية الجزائرية بعد هذه المرحلة نحت منحى تجريبيا، دون أن تحدث القطيعة مع أدب الأزمة.

فهل بات من الضروري على الروائي الجزائري أن يبقى رهين الكتابة عن أزمة العشرية السوداء، وما خلفته من أضرار على جميع المستويات؟

وهل يمكن أن يؤثر هذا اللون من الكتابة على مسار الأدب الجزائري، بوقوعه في التقليد والتكرار؟ وكيف يمكن أن نسمي هذا الأدب، هل هذا أدب مأساوي أم أدب تجريبي؟

أصبحت الرواية، الجنس الأدبي الأكثر مقروئية في العصر الحديث، كما يعرف الروائيون فضاء واسعا للتعبير عن التجارب الإنسانية، من خلال مزاوجتها بين ما هو واقعي وما هو وما هو متخيل، إذ تمردت على التقنيات الموروثة بابتكار شكل روائي جديد، بالاعتماد على تقنيات السرد الحديثة، التي رافقت الرواية التجريبية، التي تتسع للمتخيل، وتلامس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي...

إن الروائي الجزائري الذي عايش العشرية السوداء بالأمس، وقام بنقل أحداثها للرأي العام في حينها عبر أعماله الروائية، هو نفسه روائي اليوم، يستعيد الذاكرة بعد أكثر من عشرين سنة على مرورها، يحاول إعادة تصويرها في كتاباته كأداة تجريبية في إطار التحولات الطبيعية للكتابة الإبداعية، يفجر من خلالها أسئلة الراهن، وذلك بالاشتغال على تيمتي الإرهاب والموت.

لقد شغلت ثنائية الإرهاب والموت حيزا كبيرا في الرواية الجزائرية المعاصرة، بعودتها إلى واقع الأزمة التسعينية، واستحضار صور الموت والدمار التي حدثت للجزائريين، على مراحل متعاقبة بدءا بالثورة التحريرية وصولا إلى العشرية الدموية.

من الروائيين الجزائريين الذين استلهموا من تلك الأحداث الدامية موضوعا لأعمالهم الإبداعية المعاصرة، الروائي بومدين بلكبير، في روايتيه (خرافة الرجل القوي) و (زوج بغال)، إذ يستحضر الثورة الجزائرية كموضوع يشكل جسرا مأساويا ممهدا للوصول إلى مرحلة التسعينيات.

وكنموذج لذلك يروي أحد شخصياته الروائية الواقعة التي حدثت لعائلته في الثورة التحريرية وهو صغير، حيث اقتحمت جماعة مسلحة مجهولة دارهم ليلا، وقاموا بعزل الرجال في غرفة واعتدوا على جدته، وكانت الكارثة بالنسبة له (أن ملامحهم عربية، ويتكلمون العربية، لو كانوا فرنسيين لأتوا نهارا)"1"، ومنذ ذلك الحين كفرت العائلة بكل شيء يرمز للثورة والكفاح.

مآسي الثورة التي عاشها الشعب الجزائري لم تنته بانتهاء الثورة، والحصول على الاستقلال، فالجراح النفسية لم تندمل بعد، ويدخل المثقف الجزائري بالذات في حالة يأس وإحباط شديدين، وتعرف البلاد موجة عاتية من الانتخابات مست عديدا من الأقلام الأدبية، سببها مصادرة الآراء وغياب حرية التعبير، الروائي بلكبير يؤكد (مستحيل أن أنسى صالح زايد حاصروه في كل الجهات، لأنه كان يتكلم بجرأة وبدون رهبة ... كنا معجبين به أيما إعجاب لأنه كان يعبر بصوت مسموع عن صوتنا المخنوق ... كتب صالح قبل رحيله رواية اختار لها عنوان "الانتحار !!"، ولم يكتب لها الطبع، لكنه في سنة 1989 ميلادية، اختار نهاية أخرى لروايته تلك، أكملها بصورة تراجيدية موجعة، حيث رمى جسده من جسر سيدي راشد ... وحلقت(2) روحه في سماء سيرتا معانقة الطيور الحرة.

قام الروائي برصد أسماء مجموعة من المثقفين الذين آثروا الانتحار على الصمت فـ (المثقفون والشعراء هم أرواح المجتمع ونبضه، هم أصوات الشعوب المقهورة، متى حوصرت الحريات وصودرت الآراء، متى توقف النبض الحي، الأسباب ذاتها تدفعهم للمصير ذاته، أتذكر تماما الشاعر فاروق أسميرة الذي انتحر في جسر سيدي مسيد عام 1994 ميلادية، كما أنني لا أقوى على مجرد التفكير في الشاعرة الفرانكفونية والصحفية البارزة صافية كتو التي اختارت جسر تيليملي بوسط العاصمة ذات شتاء من عام 1989. (3)

الضغوطات السياسية والاجتماعية التي عرفها الجزائريون منذ الاحتلال الفرنسي إلى غاية أواخر الثمانينات جعل البلاد تدخل في بحر من الدماء في التسعينيات، وكان الموت يحصد الأرواح بشكل وحشي، و(الإرهاب في .... هو أقصى تمظهرات العنف والموت، لا يعترف بالحياة حقا عند الآخر) (4)، وكما ان يتعرض المدني للقتل، العسكري أيضا والسياسي كانا أشد عرضة لذلك إذ يشير الروائي إلى حادثة اغتيال الرئيس الجزائري (محمد بوضياف الذي قتل وهو رئيس للدولة المستقلة ... في تسعينيات القرن الماضي، أثناء إلقائه خطابا في قصر الثقافة بمدينة عنابة) (5).

لقد عبر الروائي بومدين بلكبير من خلال رواية (خرافة الرجل القوي) ورواية (زوج بغال) عن تلك الوقائع المأساوية حيث كان الجرح عميقا آنذاك استهدف قتل الفرح في قلوب الأثرياء. وقد انضم في تلك الفترة مئات من الشباب المغرر بهم إلى المنظمات المتطرفة التي كان يغذيها الإرهاب.

يصور الروائي نماذج من ذلك، حيث تعترف إحدى شخصياته الروائية بانضمامها إلى إحدى المنظمات الإرهابية، وقد سبقها إلى ذلك زوجها (إدريس)، والتي كانت التقته في (ابن غردان التونسية، بعد أن قدم من الجنوب بطريقة غير شرعية، حيث وجدنا هناك من يرشدنا إلى شخصين، أقمنا عندهما يومين بلياليهما، ثم تم نقلنا عن طريق المسالك السرية إلى صبراتة الليبية ...، ثم سلمونا إلى مجموعة أخرى ... أخذوا هواتفنا، وكنا محل مراقبة مشددة ... مررنا بأوقات عصيبة، وعشنا مآسي وأوجاعا لا حصر لها، كنا نعامل بقسوة منقطعة النظير، كانوا يعزلوننا فوق بعضنا كالحيوانات في مصافات، عشنا فيها تجارب وصور مؤلمة وموجعة) (6)، لقي (إدريس) حتفه في تفجير بمقهى في مراكش المغربية، ويلحق به أخوه عبد اللطيف ويقع الخبر كالصاعقة على رأس والدهما عبد القادر الركراكي(الشخصية الرئيسية في رواية زوج بغال) إذ يعبر عن ذلك بحرقة (يا إلهي أرى جسديهما محترقين ومفرغين من اللحم ... حاولت الاقتراب منهما ... وحاولت الإمساك بيديهما ومداعبتها بحنو بيدي اليمنى أمسكت يد عبد اللطيف، وبيدي الثانية شددت برفق على يد إدريس بدت يداهما مختلفتين علي، غالبت دموعي ووجعي، أحسست فجأة أنني أقبض على الفراغ ... اكتشفت أنهما استحالا إلى رماد) (7).

هكذا كانت فواجع العشرية السوداء في الجزائر، كما وصفها الروائي بلكبير، من خلال هاتين الروايتين، وهما لا شك فيه أن لكل أزمة تبعات خطيرة، فقد أفرزت تلك الظروف ظاهرة الفساد، خاصة الفساد الأخلاقي، وغياب الضمير الإنساني عند بعض الأفراد، وتقديم المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة.

أدرج الروائي نماذج تؤكد على تلك الظاهرة، منها شخصية صفوان الذي كان يتعرض للمضايقات ثم تم اغتياله (كان صفوان ضابطا في الجمارك في ميناء عنابة ونظرا لمضايقته بعض رؤسائه في العمل، أصبح مصدرا غير مرغوب فيه، فتم إبعاده من خلال نقله إلى ميناء سكيكدة ... بعد ثلاث سنوات حول إلى المديرية الجهوية للجمارك بالعاصمة ... ولما رفض الصمت عن قضية فساد كبيرة تورط فيها مسؤولون نافذون في الحكم، فتمت معاقبته) (8).

إن الأنانية وحب المال يجعلان صاحبهما عبدا لرغباته، لإرضاء غرائزه الحيوانية، كشخصية (بشير ميزيغاش) التي وظفها الروائي، استغل بشير منصبه كوالي على إحدى المدن الجزائرية فكان من ضحاياه (سلوى) التي اعتدى عليها بصورة وحشية، ويكمل حياته مقعدا عاجزا عن الحركة.

الإرهاب باختلاف مشاربه ووسائله هو قتل للفرح وإعدام للإنسانية.

تمكن الروائي من توظيف ثنائية الإرهاب والموت في هاتين الروايتين، وتجسيده للأزمة الجزائرية الواقعة في تسعينيات القرن الماضي، وتبعاتها المأساوية على الصعيد النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي.

نستخلص في الأخير أن الرواية الجزائرية المعاصرة، لازالت متأثرة بالأحداث الدامية والوقائع المأساوية التي عاشتها الأمة الجزائرية في السنوات البعيدة.

فالروائي الجزائري اليوم يستشعر تلك الأحداث، ويقوم بتوظيفها في منجزه الروائي توظيفا فنيا جماليا، كاستعارة كبرى يلامس فيها الواقع. ويحلق في سماء المتخيل، وهو أصل الممارسة الإبداعية الحديثة والمعاصرة. فقد أصبحت الكتابة الإبداعية اليوم لا تتعامل مع الحقائق بشكل تقريري مباشر، بل تجعل للنص سطوة خاصة يفرضها على القارئ وإغراقه في فضاءات اللامتناهية من التأويل والتساؤل.


المراجع:

  • بومدين بلكبير، خرافة الرجل القوي، منشورات الاختلاف، الجزائر/منشورات الضفاف، بيروت/ ط1، 2016، ص17
  • المرجع نفسه، ص ص73،74
  • المرجع نفسه، ص74
  • عبد الوهاب المسيري، فتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دار العربي للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 2012، ص 232
  • بومدين بلكبير، زوج بغال، منشورات الاختلاف، الجزائر/ منشورات الضفاف، بيروت، ط1، 2018، ص19
  • المرجع نفسه، ص195
  • المرجع نفسه، ص 203
  • بومدين بلكبير، خرافة الرجل القوي، ص 106











0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم