أن تكتب رواية كرهًا في أمريكا:

ثمان عشرة ملاحظة على رواية "دار خولة" للرّوائيّة الكويتيّة بثينة العيسى


أعتقدُ أنَّ الحديثَ عن الفساد، جشع الرّأسماليّة، الجرائم العنصريّة، التّفكك الأُسري، الظّلم وازدواجيّة المعايير وبشاعة جرائم النّظام الأمريكي بإداراته المتعاقبة على امتداد قرن أو أكثر، أصبحَ لزوم ما لا يلزم. ذلك أنَّ الأمرَ معروفٌ للقاصي والدّاني مِن المشتغلين في حقول الفنون والآداب والأفكار. وإذا أراد القارئ معرفةَ كيف تناولتِ الأعمال الرّوائيّة والأفلام السّينمائيّة الأمريكيّة الحياة في أمريكا من زاوية نقديّة، يكفيه طرح سؤالٍ على (ChatGPT) من قبيل: ما هي الأعمال الرّوائيّة أو الأفلام السّينمائيّة الأمريكيّة التي انتقدت السّياسات الأمريكيّة والحياة في أمريكا، سيحصلُ على قائمة طويلة من الرِّوايات والأفلام الأمريكيّة، بعناوينها وأعوام صدورها وعرضها، وملخّصات مضامينها.

مناسبةُ الكلام السَّالف الذِّكر، طرحُ أسئلة أخرى مفادها: ما الذي دفعَ الرِّوائيّة والنّاشرة الكويتيَّة بثينة العيسى نحو كتابةِ روايةٍ مدخلها كراهية أمريكا التي حرَّرت بلدها من احتلال (الشَّقيق) العراقي؟! وما الجديد الذي ستضيفه هكذا رواية للمنجز الرَّوائي العربي أو الكويتي أو الخليجي لجهة التّناول النّقدي الجديد لتأثير نمط الحياة الأمريكيّة على الشَّباب العربي عمومًا، والخليجي والكويتي على وجه الخصوص؟ هل حاولت العيسى تقديم رواية مدغدغة لمشاعر الكراهية ضد أمريكا والتي تفاقمت في العالمين العربي والإسلامي؟ إلى أيّة درجة يمكن أن يتورَّط الكاتب/ة والنّاشر/ة في خيارات الشّارع العربي وأهوائه وخياراته الشّعبويّة عبر تقديم نصوص تغذّي تلك الميول والأهواء السَّلبيّة؟


الكراهية مدخلا:

"الأمر الذي تكرهه خولة أكثر من الشّيخوخة هو التّصابي، والأمر الذي تكرهه أكثر من التّصابي هو أمريكا". هكذا تفتتح بثينة العيسى روايتها "دار خولة (112 صفحة من القطع المتوسّط – التكوين – الكويت 2024). إذن، نحن إزاء ثلاثيّة متوالية من الأسباب لمشاعر الكراهية: الشّيخوخة، التّصابي، وأمريكا. وثالثها هي الأكثر تحفيزًا وإنتاجًا للكراهية عند خولة. وتضيف العيسى على لسان الرّاوية العليمة: (في صباح ذلك اليوم قررت خولة أنّ "التصابي والتأمرك أمران متلازمان"، والحقُّ أنّها تجد التأمرك ممزوجًا بكلِّ ما لا تحبّه). وفي الفصل الرّابع من الرّواية، تكشف الرّواية الخصومة بين خولة وأمريكا على أنَّها خصومة شخصيّة، تبدأ من فبراير 1991 ولحظة تحرير الكويت من الجيش العراقي، وتقديمها وزوجها البسكويت والقهوة العربيّة للجنود الأمريكيين ذوي العيون الملونّة والشعر الأشقر والقامات الفارعة! "الذين بدوا خارقين وفارعين ونبلاء على نحو غير مفهوم، وقد تكبَّدوا مشقّة المجيء من قارّة بعيدة لإنقاذهم" (ص24). ثم تسرد أسباب فشلها في تربية أولادها، وتحمّل مناهج وطرائق التّدريس الأمريكيّة مسؤوليّة ذلك الفشل. بمعنى؛ حبّها وشغفها بأمريكا الذي دفعها لوضع أولادها الثّلاثة في المدرسة الأمريكيّة، أطاح به التّدريس الأمريكي الذي أفسد عقول وأخلاق أولادها، وفكَّكَ أُسرتها، بحسب تصوّرها! إذن؛ الحبُّ الشَّديد غير المنطقي، كانت خاتمتهُ كراهية شديدة غير منطقيّة! هذه العلاقة المتناقضة التي مبتدؤها حبّ بلد ما وخبرها كراهية له ولنظامه السّياسي والتّربوي والأخلاقي، قدَّمتها لنا بثينة العيسى في شخصيّة أستاذة جامعيّة ومربيّة أجيال وشخصيّة ثقافيّة عامّة في الكويت! هكذا شخصيّة شديدة السّلبيّة في التّعامل مع محيطها القريب (الأولاد) والمتوسّط (الجماهير العربيّة)، والبعيد (أمريكا)، وسبق أن أهانت الجماهير في مقابلة تلفزيونيّة ووصفتهم بـ"البهائم"، هكذا شخصيّة ينبغي أن تخضع لجلسات علاج نفسي، لا أن تلقي بفشلها في التّربية على أمريكا!

زيدوا على هذا وذاك، يبدو أنّ الكاتبة تخلط بين التأمرك (التشبّه بأمريكا والأمريكيين) وبين أمريكا نفسها. ذلك أنَّ الأخيرة لا تتحمّل مسؤوليّة أولئك المتشبّهين بها تصنُّعًا وافتعالاً مزيَّفًا. من حقَّ العيسى تمرير أفكارها ومواقفها المؤيّدة أو النّاقدة، ضمن أعمالها الرّوائيّة، شريطة أن تكون المعالجات الدراميّة ومنطق بناء الأحداث مُكتسبًا قدرًا من المعقوليّة والإقناع.


تلخيص:

المتن الحكائي للرّواية مُلخَّصهُ محاولة أمّ أكاديميّة كويتيّة فتح نقاش مع أولادها الثّلاثة بخصوص دعوة تلفزيونيّة موجّهة إليها للمشاركة في برنامج ثقافي حواري، وأخذ رأيهم ومشورتهم في الأمر، فتحضّر العشاء لهم، وينتهي الأمر بشجار حادّ وتراشق بالألفاظ النابيّة البذيئة بين الشّقيقين الأكبر والأوسط، وتتسبب الأم في حدوث مشكلة جديدة بينهما وتصبح جزءًا من المشكلة. لكنها لا تعترف بفشلها في تربية أولادها وتلقي باللائمة على أمريكا!

ولأنَّ بثينة العيسى تمتلك تجربة روائيّة معروفة، وصاحبة مكتبة ودار نشر، وتقيم ورشات عمل للتدريب على الكتابة الأدبيّة، وهي منظِّرة تقدِّم النصح والإرشادات ذات الطّابع النّقدي للكُتَّاب والكاتبات الجُدد، للأسباب سالفة الذكر؛ أيّةُ هفوة في الكتابة الرّوائيّة تكون بألف هفوة.


مشاكل فنيّة وتقنيّة:

شابت رواية "دار خولة" الكثير من الهفوات والمشاكل الفنيّة والتقنيّة والمتعلّقة بالتّحرير الأدبي، أذكر منها:

أوّلاً: عملاً بالعُرف الأدبي والبحثي، تحديدُ مقولاتٍ معيّنةً ضمن النَّصّ بزيادة عرض الخطّ، ووضعها بين ظفرين – مزدوجين لتمييزها، سببه أن تلك المقولة ليست للكاتب أو الباحث. وقد استخدمت العيسى ذلك بكثرة مبالغ فيها ضمن الرّواية، لكننا لم نعرف؛ أهي للكتابة أم لا؟ وإذا كانت للكاتبة، لماذا تبرز تلك الجمل والعبارات دون غيرها؟ أ تشكك في مقدرة القارئ في اكتشاف والتقاط العبارات المكثّفة التي تنمّ عن حكمة وبلاغة؟! مثلاً: "التصابي والتأمرك أمران متلازمان" (ص1)، و"الشيخوخة في جوهرها إذلال وئيد" (ص1)، و"فخاخ منصوبة لأمومة معطّلة" (ص2)، و"إن كانت الشيخوخة والوحدة أمرين متلازمين" (ص3)، و"البيوت أضحت فندقيّة إلى حدّ بعيد" (ص3). وإذا افترضنا ذلك، فلماذا عاملت الجُمل التي تحتوي على معلومة تاريخيّة، معاملة الجملة الأدبيّة ذات المحتوى المعرفي – الحكمة؟ مثلاً: "لكنها قطعًا استفحلت، هناك (أمريكا) منذ أن كانت هيروشيما هي الرد على بيرل هاربر" (ص4). وهناك عبارات أخرى تمَّ إبرازها بالخطِّ العريض، لأسباب غير معروفة، ولا ينطبق عليها الافتراض السّابق، مثلاً: "أسرة سعيدة في فيلم هوليوودي عن عيد الشكر" (ص7)، و"حتى موقفًا، لا مجرَّد تعصّب" (ص8). هاتان العبارتان، لا معلومة فيهما ولا حكمة، فما مبرر إبرازهما كـ"Bold"! ولا تكاد أن تخلو صفحة من الرّواية من هذه الطّريقة (التقنيّة) المشوّشة غير الواضحة السّبب والهدف وغير المنطوية على فنيّة في البناء الرّوائي!

ثانيًا: تقول الرُّواية: "رافق ناصر شقيقيه إلى المسجد قبل أن يتسنّى له ملء بطنه؛ مجرّد تمر ولبن، وهو لا يحبُّ التَّمر ولا يحبّ اللبن" (ص13)، كيف سيملأ بطنه لبنًا وتمرًا وهو أصلاً لا يحبّهما؟ زد على ذلك، ثمّة حشو لغوي، إذ كان بإمكان الاكتفاء بـ"مجرّد تمر ولبن، وهو لا يحبّهما" والاستغناء عن تكرار كلمات "يحبّ، تمر، لبن، وأداة النفي: لا!

ثالثًا: يبدو أنَّ عقال الأزمنة وضبطها انفلت من يد الكاتبة. "تجاوزت خولة الخامسة والخمسين منذ شهرين" (ص2). "أنجبت ناصر بعد سنة من تحرير الكويت" (ص25). يعني أنَّه من مواليد أغسطس 1992. "سيتم ناصر عامه الثلاثين بعد أسبوع" (ص16). إذن، البؤرة الزَّمنيّة لأحداث الرّواية هو صيف 2022. بالتّالي، التّرتيب والتّتابع الزّمني يفترض أنَّ الإعلاميّة رندة اتصلت بخولة في شهر يوليو 2022. لكن خولة تتعفف من المقابلات التلفزيونيّة منذ سبع سنوات" (ص9). هذا يعني أنّ المقابلة الأولى كانت 2022 – 7 = 2015! لكن الرواية تقول: "كان أوّل ظهور لخولة على الشّاشة في 2005" (ص54). إذن، المقابلة الثّانية موضوع النّقاش والعشاء ودعوة الأولاد للمناقشة يفترض أن تكون في 2012! وإذا افترضنا سنة 2008 موعد المقابلة التلفزيونيّة التي أثارت جدلاً وكانت سببًا في شهرة خولة، فهذا يعني أنَّ رندة اتصلت بها في 2015 وليس 2022! لأنَّ الرّواية قالت: "لكنها لم تشتهر إلاّ بعد ثلاث سنوات 2008، بعد سنة من رحيل ناصر" (ص50)، ما يعني أنَّ زوجها قتيبة مات سنة 2007، و"هجرها ناصر قبل 15 سنة" (ص39). بينما نكتشف في الصّفحة 32 أنَّ خولة أمّ لـ"طفلين منكوبين"، بعد وفاة والدهما بسبعة أشهر، ولا ذكر للطّفل الثّالث حمد! لنكتشف في الصّفحة 56 أنَّ حمد في العاشرة من عمره! 2022-10=2012. هذا يعني أنَّه ولد بعد وفاة والدهِ بخمس سنوات! وإذا كان قد ولد بعد وفاته بشهر أو شهرين، هذا يعني أن عمره 15 سنة وليس 10 سنوات! في الصفحة 84 تقول الرواية: "غادر (ناصر) البيت... وحمد في سنته الثانية". 2007-2=2005. هذا يعني أن عمر حمد 17 سنة وليس 10 أو 15! في الصّفحة 44 هناك سن تقريبي لحمد، بعد ست أو سبع سنوات سيصبح مؤهلاً للزّواج! والسّؤال هنا، بعد كلّ هذه المتاهة؛ كم عمر حمد بالضّبط؟! ولماذا لم تضع الكاتبة تواريخ واضحة لولادة أولادها الثّلاث، طالما أنَّها ذكرت تواريخ بعض المناسبات بدقّة، كتاريخ أوّل مقابلة لخولة، وتاريخ متى أصبحت مشهورة مثلاً؟!

تقول الرّواية في الصّفحة 29: "بعد مضي سبعة أشهر على وفاة قتيبة، ذهبت خولة إلى موكب اليوم العالمي في المدرسة"، وتستمر الرّاوية في سرد تفاصيل ذلك اليوم، وتفسير خولة لتدني درجات ناصر: "التدهور في مستواه طبيعي، لأنّه فقد والده للتو" (ص31). بعد مضي سبعة أشهر، هل من الجائز استخدام "للتوّ" في وصف المدّة الزّمنيّة على رحيل الأب؟!

رابعًا: طالما أنَّ الكاتبة بثينة العيسى حشرت أسماء الكثير من مشاهير الأدب والفن الغربي والعربي في روايتها كـ "فوكنر، وايتمان، آلان بو، بوب ديلان، همنغواي، شتاينبك، ديكنسون...،" (ص36)، بودلير، بول فاليري، هيغل، شوبنهاور، نيتشه، فوكو، إدوارد سعيد، الجابري، فرانز فانون، أراغون، أدونيس، عنترة، المعري، ابن الفارض، مظفر النوّاب...، (ص50)، لكنها لم تخترع لنا عنوانًا أو اثنين أو ثلاثًا لكتب بطلتها د. خولة سليمان، الباحثة والشّخصيّة العامّة، والمثقّفة والأستاذة الجامعيّة!

خامسًا: أتت اللّغة بسيطة مطعّمة باللّهجة الكويتيّة، وأدَّت وظيفتها الفنيّة بشكل مقبول. لكنها لم تخلُ من حشو وركاكة لا يمكن أن تسقط فيها كاتبة محترفة، تشرف على ورشات للكتابة الأدبيّة. على سبيل الذّكر لا الحصر: في الصّفحة 73 تكرَّرت (أن) النّصب 8 مرّات، و(أنَّ) المشبّهة بالفعل 7 مرّات. بينما في الصَّفحة 80، وهو نفسه المقتبس الذي اتخذته منصّة "أبجد" كتصدير للرّواية والتَّرويج لها، عدد كلماته 163 فقط، تكرَّر فيه: "إنّ/أنّ" المشبّهة بالفعل 11 مرّة، وحرف الجرّ "في" 10 مرات، و"حقيقة 4" مرّات، و"أمومتها" مرّتين، و"كل" 6 مرّات، و"على" 4 مرّات.... إلى آخر التِّكرار الموجود في المقتبس.

وربّما يقول قائل: هناك مبرر فني لغوي يبيح ضرورة تكرار مفردة ما ضمن سياق نصّي - سردي، لكن بكلّ تأكيد، هذا الكمّ الكبير من تكرار المفردات لا مبرِّرَ فنيّ له. والسُّؤال هنا: إذا كانت العناية بالنصّ الرّوائي لجهة التّحرير الأدبي لدى بثينة العيسى بهذه الدّرجة – والنَّصُ نصُّها – فما هي درجة عنايتها واهتمامها بالرِّوايات الأخرى التي تصدرها مؤسستها؛ دار ومكتبة تكوين؟!

سادسًا: هذه الرّواية على قِصَرِها (112ص) إلاَّ أنّها لا تخلو من نتواءات واستطالات لغويّة يمكن التخلّي عنها، من دون أن يتأذَّى المعنى، تمثيلاً وليس حصرًا: "ابتسم نصف وجهه، نصفه فقط" (ص19)، ما الجدوى من إرفاق الجملة الأولى بالثانية (نصفه فقط)؟ هل المعنى لم يكن واضحًا أو مؤكّدًا؟! هل يمكن لنصف وجه أن يطلق خمس ابتسامات مثلاً؟

سابعًا: تكرار الفكرة ذاتها في نفس المقطع: (قال إنّه لا يفهم لماذا لا يكترث أحد للمواعيد في "هذه البلاد"، ثم أردف بأنّ الناس في "هذه البلاد.. لا يحترمون أمرين مهمّين: المواعيد والحدود"،...)، يمكن دمج العبارتين واختصارهما بهدف التّقليل من الحشو والتكرار.

ثامنًا: منطق أحوال البشر يتنافى مع ما قالته الرّواية: بأنَّ أول ظهور لخولة إعلاميًّا وثقافيًّا كان سنة 2005، وتتحدّث عن قضايا هامّة كـ"الهويّة" و"اللغة"...الخ، هكذا مواضيع لا تتحدَّث عنها كاتبة مغمورة أو مبتدئة! بدليل أنّها اشتهرت "بعد ثلاث سنوات في 2008" (ص54).

تاسعًا: في الصّفحة 24 يتحدّث الرّاوي/ة العليم/ة عن خلفيّة الخصومة بين خولة وأمريكا ويصفها بـ"شخصية صرفة"... ثم يقول: "الأرجح أن الحكاية بدأت في فبراير 1991"، ولأن الرّاوي العليم عليم بكل ما جرى، وعليه فهو لا يتحدّث ضمن دائرة التّرجيح والاحتمال!

عاشرًا: العوائل والأسر الخليجيّة عمومًا وفي دولة الكويت على وجه الخصوص، يمكنهم الرَّدّ على "دار خولة" وصاحبتها بثينة العيسى، لجهة التّعليم في المدارس الأمريكيّة، وحديثها عن جهل ابنها بطريقة يستحيل أنّه دَرس في مدرسة أمريكيّة: "لم يعرف، لا العراق ولا إيران (على حدود الكويت) لا يعرف كم دولة عربية على الخريطة. لا يجيد القسمة والضرب...  ولا أن يعرف فعل مضارع في جميلة بسيطة، لا يعرف المشترك الحسابي، لا يحفظ بيتًا شعرًا واحدًا..." (ص33)! وكأنَّ المدارس والجامعات الأمريكيّة في العالم العربي هدفها تخريج أجيال من الجهلة يتمتّعون بـ"فردانيّة أمريكيّة مطلقة" (ص34)، بحسب تعبير الكاتبة!

أحد عشر: المثقف/ة في الكويت والخليج والعالم العربي أصحاب المواقف والأفكار التّنويريّة التّحرريّة، يمكنهم انتقاد الجماهير ضمن النّصوص الفكريّة والأدبيّة بعبارات تنمّ عن سخط وغضب، كأن تنتقد العيسى على لسان خولة سليمان الجيلَ الجديد بأنّه "يسمّي النزق تفكيرًا نقديًّا، ويتباهى بجهله المركَّب مثل شهادة من هارفارد" (ص18-19). لكن أن يصل ذلك إلى حدّ الشّتم والإهانة اللفظيّة، فهذا ما أجده غريبًا ومستبعدًا: "الجماهير منحطة فكريًّا" و"بهايم" (ص36). ثم تأتي وتقول: "الحداثة ستدمّر البيوت" (ص28)!

اثنا عشر: حَضَّرت خولة العشاء، وضعته على الطّاولة، وأكلت مع ولديها، ورفعت الأطباق من الطّاولة، وغسلتهم، ثم جلسوا وتحدّثوا، تشاجروا، تعاركوا، بكت، و"قررت العودة إلى سريرها الدّافئ" (ص67) ... وحمد البالغ العاشرة أو الثانية عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، لم يعد، وهي غير قلقة على غيابه، بل مشغولة بمناقشة ولديها حول مقابلتها التّلفزيونيّة السّابقة والمقابلة التّلفزيونيّة المرتقبة! هل يستقيم ذلك مع حال أمٍّ سويّة؟!

ثلاثة عشر: في الفقرة 14 والأخيرة من الرّواية يتضح لنا سبب غياب حمد وتوقيت عودته للمنزل: "عندما عاد إلى البيت كانت السّاعة قاربت الحادية عشرة والنّصف ليلاً" (ص86). الأكثر غرابةً أن حمد قبل وصوله إلى البيت، وفي تلك السّاعة المتأخّرة، صادف في الطّريق "صبيًّا يمنيًّا في التّاسعة يبيعُ أسماكًا للزّينة" (ص86)! والسّؤال: كيف ينسجم هذا البناء التخيّلي – بحسب منطق الأحوال – مع طفل يظلّ متأخّرًا عن منزله، وأمّه المثقّفة الأستاذة الجامعيّة تذهب إلى غرفة نومها، ولا تسأل عنه؟ إذا كان هكذا سلوك غير جائز وبل مستحيل في بلجيكا، فهل يجوز ذلك في دولة محافظة مثل الكويت!؟ كذلك في تلك السّاعة المتأخّرة من الليل، هل من الجائز وجود طفل في التاسعة على قارعة الطّريق، ويمني (هل سأله حمد عن جنسيّته؟) ويبيع أسماكَ زينة أيضًا؟!

أربعة عشر: تقدّم لنا رواية "دار خولة" نموذجًا من أمومة بشعة في نظرة الأم إلى ولديها: "راحت تجول بعينيها على وجهيهما (ولديها) بإحساس عارم بالخذلان: الأول (مسخ فرانكشتاين أمريكي) والثاني (زائدة دودية في أمعاء الدولة الريعية)" (ص69)! فضلا عن إهمال الأمِّ لأولادها، ثمّة علاقة مرضيّة بين خولة وابنها ناصر، يتضح ذلك للقارئ في الفقرة (11) من الرواية: "لكن الحقيقة أنّها لم تحبّه، بل لا تحبّه، (...) اشمئزازها المبطّن من هيئته، واحتقارها لمساره الوظيفي، وسخريتها المسمومة من آرائه" (ص73) ... إلى آخر الأوصاف الرديئة عن ناصر والمنسوبة إلى أمّه، على لسان الرّاوي العليم.

خمسة عشر: كيف لأخ أن يشتم أخيه بـ"ابن العاهرة" (ص75) في المجتمع الخليجي؟ "أنت تافه ورخيص" (ص83)، "روث البقر" و"قطعة من الخراء" (ص76)، ثم يتعاركان ويشتمان بعضهما البعض ويبصقان على بعضيها البعض! منطق الأحوال والأشياء يقول: يستحيل حدوث ذلك في أسرة الأب المتوفّى المثقف، والأمّ المثقفة. وإذا كان هذا النّموذج المشوّه في أسرة كويتيّة الأب والأم فيها مثقّفان أكاديميّان، فما حال الأسر العادية؟! هذا التّساؤل، ليس الهدف من ورائه الدّعوة إلى تعقيم الرّواية وفلترة لغتها وأحداثها، لا قطعًا، بل أخذ منطق أحوال البشر في الحسبان، مهما بلغت درجة التّخيّل والشّطح الأدبي في الكتابة!

ستة عشر: قسّمت بثينة العيسى روايتها إلى 14 فصلاً، ورقّمت الفصول، والتّرقيم تمييز. لكن بحذف الأرقام لا يتغيّر أيّ شيء في الكتل النصيّة المتلاحقة بتتابع منتظم. وعليه، أتى ترقيم الفصول كعدمه.

سبعة عشر: ضمن بيانات الكتاب التقليديّة، ذكرت الكاتبة تاريخ الطّبعة الأولى (يوليو 2024)، وعدد النسخ (3000)، وذكرت تاريخ الطّبعة الثانية (سبتمبر 2024) وعدد النسخ (3000)، وفي حال صدور طبعة ثالثة ورابعة وخامسة، هل من الضّروري ذكر عدد نسخ الطّبعات؟ بماذا يفسِّر النّاقد هذا (التّوثيق)؟

ثمانية عشر: هل يمكن لكاتب أو كتابة الاتكاء على فكرة برنامج تلفزيوني ثقافي أو استثمار استضافة تلفزيونيّة في برنامج حواري ثقافي وثائقي لكتابة وبناء عمل روائي؟ قد يكون السُّؤال غريبًا، ورُبَّما مستبعدًا طرحه. وإذا صحَّ هذا الافتراض والتوقّع، هل من الحياء أو الخجل الأدبي والثّقافي الإفصاح عن ذلك؟! تساؤلٌ افتراضي قادني إلى تساؤلٍ افتراضيٍّ آخر مفاده: عندما قرأت رواية "دار خولة" قفز إلى ذهني برنامج "بيت ياسين" الحواري الوثائقي الذي كان يعدِّه ويقدّمه الشّاعر والرّوائي المغربي ياسين عدنان على قناة "الغد، حيث كان يسلّط الضَّوء على محطّات من تجارب ضيوفه وأفكارهم. والأمر ليس فقط تشابه العنوانين: "بيت ياسين" و"دار خولة". ولأنّني كنت أتابع برنامج "بيت ياسين"، اكتشفت أنَّ العيسى كانت ضيفة إحدى حلقاته، وتمّ بثُّها في أغسطس 2020. ولأنّ الكاتبة ذيّلت واختتمت نصّ الرّواية بذكر المدّة الزمنيّة التي استغرقت كتابتها (يناير 2022 – إبريل 2023) هذا يعني أنَّ البدء بكتابة "دار خولة" جاء بعد مشاركة الكاتبة في برنامج "بيت ياسين". وطبعًا، لها كلّ الحقّ في توظيف فكرة البرنامج لصالح تدبيج وتألف رواية، على أن تكون هذه المحاولة متماسكة وقويّة، وأقلّه تخلو من نصف الملاحظات المذكورة أعلاه!

ومن المؤسف القول: إنّ المدّة الزّمنيّة لكتابة هذا العمل (أكثر من سنة وثلاثة أشهر)، معطوف عليها الفترة التي استغرقت لظهور الطّبعة الأولى في يوليو 2024، كانت كافية لولادة رواية جيّدة تضيف إلى المنجز الرّوائي للكاتبة والنّاشرة الكويتيّة بثينة العيسى، رواية تعكس حقيقة موهبتها والجانب التّنظيري لديها، وتستحق كل ذلك الاحتفاء المبالغ فيه الذي حظيت به "دار خولة".

***********************

ملاحظة: النّسخة التي اعتمدتها في قراءة الرواية وتوثيق الفقرات والاقتباسات هي الـPDF الموجودة على مواقع الانترنت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم