الطارش مهنة، من المهن الموسمية الضرورية في الماضي يقوم بها أشخاص لإيصال الرسائل  إلى داخل أو خارج البلاد، وأحياناً يُطلب منه توصيل بعض الأخبار الشفوية أو إبلاغ أصحابه بأية أخبار، سواء كانت مفرحة أو محزنة أو مفاجئة أو أي نوع آخر.

"يا طارشي على الرنج وأنته سايقه ..  شل الكتاب وسير صوب أرحامي" وبهذا الطارش الذي اسمه حمدان بن عاشور استهل الروائي العماني زهران القاسمي روايته " تغريبة القافر"و هي الرواية التي فازت مؤخراً بجائزة البوكر العربية، حيث انطلقت الأحداث في هذه الرواية الرائعة من قرية عمانية اسمها مسفاة، ولعلها هي ذاتها "مسفاة العبريين" العمانية تلك القرية الجبلية التى يقصدها السياح من جميع دول العالم كواحدة من أجمل القرى السياحية.

والذي يهمنا هنا أن الطارش حمدان بن عاشور قد انطلق يذيع الخبر الذي كلفه به الشائب حميد بو عيون، ومفاده أن هناك "غريقة" في بئر أو طوي قرية مسفاة، الطوي هو البئر المطوية بالحجارة، وله أسماء متعددة تختلف باختلاف طبيعة البئر ووجوه استخدامه، والشائب حميد بو عيون ليس شخصاً عادياً فقد سبق وأن أطلق عليه أهل القرية تسمية بوعيون  لحدة بصرة ودقته أثناء شبابه وقد ظل يتمتع بهذه الخاصية حتى وهو في الثمانين من عمره، حيث ظل يرى في البعد ما لايراه الآخرون، بل وصلت قدرته لدرجة تبيّن حيوانات القرية التى تسرح بعيداً في الجبال والسيوح المتاخمة، فيعرفها ويعرف أصحابها، لذلك هو وحده من قادته الصدفة المحضة لينظر في الطوي أو البئر ليكتشف ملامح جثمان غارق، فيكلف حمدان بن عاشور بمهمة الطارش لينادي على أهل القرية كي يتجمعوا عند البئر .

وعلى الرغم من عدم تمكن بوعيون من تبين الغريق، بل قد اختلف أهل القرية بعد تجمعهم وتسالوا عن جنسه ولونه، ثم تشككوا عما إذا كان هناك غريقاً بالفعل؛ إلّا أن المناداة كانت "غريقة .. غريقة "، لتحتضننا الأحداث ودهشتها، ثم ينمو لدينا الفضول ليبلغ ذروته منذ انطلاقة الطارش في مناداته الأولى، لنصبح جزءاً لا يتجزأ من تفاعل أهل القرية مع الخبر "غريقة .. غريقة .. حد غرقان في طوي لخطم"، فننهض مع أهل القرية ونركض معهم إلى تلك البئر، بل ربما صرنا مع أولئك الشباب الذين ساعدوا الطارش في مناداته ..

استجابت قرية مسفاة كلها لنداء الطارش، النساء تفقدن أطفالهن، والعجوز هبت على هراوتها، ثم ركض الشاب القصير ولم يتوقف إلّا عند البئر، سمع الناس نباح كلب في الحارة الأُخرى، وصرقعة دجاجات في نواحي النخل، ونهيق حمير في عمق الوادى كأنهن جميعاً استجبن أو قرّرن مساعدة الطارش في مهمته، وربما هذا هو الريف في كل مكان حيث الاستجابة السريعة والنجدة الفورية والفضول، كذلك فقد "ضاقت السكك الهاجعة واكتظت باقدام أهل قرية مسفاة وهم يتجهون مسرعين ناحية البئر"

تحلق ناس القرية حول البئر في ذاك الوقت من الظهيرة الصيفية المتوهجة، في تلك القرية الجبلية التى يلفحها الهواء الغربي وتعاني من جفاف الوديان، لتصفعها أسئلة المتحلقين حول البئر يتسألون من هو الغريق؟ وكيف سقط؟ وماذا حدث له؟ نعم بعضهم شكك في وجود غريق أصلاً  وبعضهم قال إنه شخص يصعب تبين ملامحه أو جنسه، وربما هو ما جعلني اتساءل كيف نادى الطارش على غريقه؟ أم أنه كان يقصد جثة غريقه، إذ أنه في مطلع الأحداث توجهت قناعتنا نحو أن المنادي يعرف أنها سيدة أو امراءه، ولكن تشككنا في الأمر بعد ذلك لواقع ما اختلف عليه الناظرون إلى البئر، حتى بوعيون ذاته لم يقطع الشك بجنس الغريق وهو صاحب النظر الدقيق.

احتاج أهل القرية إلى من ينزل إلى البئر، فتوجهت الأنظار في بادئ الأمر إلى سيف بن حمودة، وهو رجل جهم، طويل بجسم قوي، معروف في القرية بأنه لاتوجد معضلة تقف في طريقه إلّا وجد لها حلاً، ولكنه فشل وخاف واهتز حين نزل إلى البئر لينتشل الغريقة، فصدمته عيونها المفتوحة، لتجعله يخرج صارخاً  "الغريقة تشوف .. الغريقة تشوف .. كلتني عيونها "، ثم فرّ إلى بيته ليغلقه عليه، ويتدثر ببرنس الصوف الثقيل، لقد أصابتني الخيبة المؤقته من سيف بن حمود القويّ، حلال المعقد والمشبوك، لأنه فرّ هارباً من عيون الغريقة، فر كطفل صغير ليلوذ بالبيت، ويتدثر بالصوف من برد الماء والخوف، واعتقد أن الشايب عريق قد أصابه ما أصابني من خيبة حيث "أدرك الشائب عريق ألّا أحد يقدر على الهبوط إلى قعر البئر غير شخص يسمونه الوعري فقال لهم عليكم بالوعري"، والوعري صاحب قلب شجاع لا يخاف البتة يتسلق النخيل العالي ويهبط إلى أمهات الأفلاج الغائرة في العمق، ويقضى الليالي في الجبال البعيدة، وهو لا يصاحب أحد بل يعتزل الناس وحيداً، فتبرع أحد الناس من المتجمهرين حول البئر لإبلاغ الوعري في مزرعته البعيدة، فجاء إليهم بشعره المنكوش، ونزل إلى حيث الجثة فأسدل أجفان عينيها الجاحظة، دون أن يكترث لنظراتها، فهي لم تأكله كما أكلت سيف بن حمود الهارب كالصفل، ثم ربط حولها الحبل ونادى في الناس من عمق البئر بأن يسحبو الجثة لأعلى، وخرج الوعري من البئر عبر تسلقه للحجارة وحده ودون مساعدة من أحد، كم تمنيت أن يكون هذا هو موقف سيف بن حمود، الرجل الطويل القوى الذي له حل لكل مشكلة، بدلاً من أن تأتي من الوعري المخيف الذي يعتزل الناس والحياة، فقد تعودنا أن يأيتنا الأبطال من رحم الحياة والإصرار والتحدي؛ لا ممّن يعتزلونها أويخافهم الناس، وعلى كل حال فإننا لا زلنا موتورين بالأحداث نتساءل لمن تعود الجثة الغريقة وما هي قصتها؟

الجثة أو الغريقة هي لمريم بت حمد بن غانم، وزوجها عبد الله بن جميل الرجل المكافح الذي كان حاضراً لحظة إخراج الغريقة من البئر، وهو لم يصدق ما حدث، أو ربما فقد ذاكرته من هول الصدمة، لأن زوجته مريم كانت تخاف حتى من الاقتراب من الاآار وحوافها، فكيف بها تسقط غريقة في بئر عميقة كهذه، ونحن أيضاً نستغرب ونريد أن نفهم قصة مريم، وكيف صارت هي الغريقة، ولكن أحداث الرواية لا تتركنا إلى دهشتنا المحضة، فقد صرخت خالة الغريقة عائشة بنت مبروك أثناء تكفين الجثة؛ لتخبرنا أن الغريقة حامل وفي بطنها حياة، فننظر ناحية بطن الغريقة لنتحسسها كما تحسستها إحدى النساء الحاضرات للتكفين، فأدركت حركة الطفل وأعلنت لنا ذلك، ولكن اختلف الحضور حول ما ينبغي عليهم فعله، واحترنا نحن واختلفت الافكار لدينا، لماذا لم يلحظ أحد بطن الغريقة، لماذا لم يتحدث زوجها وهو العارف بأمر حملها حتى شهوره الأخيرة، غلبني عقل المنطق، كم ساعة يمكن للجنين أن يظل حياً في بطن الأم الميتة أو الغريقة؟ ولكن وعلى أية حال أخبرتنا الأحداث بأنه لم يلحظ أحد بطن الغريقة كما لم يتحدث أحد عن حملها إلّا بعد أن صرخت خالتها عائشة بنت مبروك، ولا أدري أين كانت عائشة حين انتشال الجثة؟ ولماذا بقيت صامته إلى لحظة التكفين؟

اختلف الحضور حول مصير الحياة التى بداخل بطن الغريقة، تشاورا مع شيخهم حامد بن علي الذي رفض استخراج الجنين وقال لهم بحرف واحد "بو فبطنها أولى به الدفن" ثم في خضم الاختلاف ظهرت لنا العمةكاذية بنت غانم التىى سحبت سكينا من حزام أحد الحاضرين ورفعت ثوب الغريقة وشقت بطنها وأخرجت الجنين وقطعت المشيمة وسمع الناس صراخ الطفل، بدا لي المشهد عنيفاً للغاية، وتساءلت من هذه كاذية؟ التى تسحب سكين الرجال وتفعل ما فعلت دون أن يحرك أحدهم ساكناً، وقد تطلعت إلى باقي أحداث الرواية كي تفصح لي عن كاذية الشريرة القوية، أو عن ملامح شخصيتها التى تستطيع أن تبقر بها بطن غريقة ولكن الأحداث لم تفعل، بل قالت أن كاذية تخاف حتى من كلام الناس، لقد تهت عن مكان الجثة أيضا حين شقت كاذية بطنها، هل كانت عند غرفة التكفين؟ وأين كان الرجل الذي سحبت كاذية سكينته من حزامه، وإذا كانت عند غرفة التكفين فما الذي رفعته كاذية عن الغريقة؟ هل هو الثوب كما قيل أم الكفن؟ وعلى أي حال فإن جميع الحضور أُعجب بالطفل الذي أنقذته العمة كاذية وقالوا الصلاة على النبي من جماله.

مريم الغريقة هي أفضل من يطرز الثياب في قرية مسفاة، كانت لها يد خفيفة ودقيقة وماهرة، لقد غارت منها كل النساء ولم يستطعن مجارتها، خاصة بعد أن أصبح من عادة الأُسر الميسورة في القرية أن تعهد بكل طلباتها من الحياكة إلى مريم، فأصبحت مريم تكسب ما يكفيها لتعيش هي وزوجها في غنًى وإحسان، لقد تأخر حمل مريم الغريقة من زوجها  الذي يقدرها، ولكنه وبعد تجارب عديدة لأبخرة وعلاجات شعبية كثيرة ونصائح حول مكان سكنها انقطع عنها الطمث، ثم أكدت لها قابلة القرية أنها حامل، بل بدأت بطنها في البروز، ولكن منذ ما قبل الحمل كانت مريم الغريقة تشعر بصداع، ثم تطور الصداع بعد الحمل إلى حالة غريبة، كانت تسمع طرقات هائلة بداخل رأسها، وعندما تنام تحلم بزندين كبيرين يحملان مطرقة ضخمة ويهويان بها على صخرة صماء وتكرر الحلم، ولكنها اكتشفت أن الصداع الهائل يختفي إذا نزلت إلى حوض الماء جوار البئر ، ويزداد كلما جلست إلى خياطتها التى كانت تمهر فيها، غير أنها في مواجهة ذلك قررت أن تتوقف عن أعمال الخياطة حتى ينتهي الصداع أو تنهي فترة حملها، لقد جربت مريم كل أنواع العلاج و لم ينفعها غير الغطس في حوض البئر،  أو ادخال رأسها في الدلو المملوء بالماء، ثم لاحقاً صادفت رجلاً غريباً مر على القرية، وأكتشف الرجل أمر صداعها دون أن تخبره ثم أعطاها نشوقا ذا مادة لزجة، فجربته، فزال ما بها من صداع، غير أن الرجل الغريب غادر القرية وانتهى النشوق من مريم، وأصبحت تعاني الأمرّين حتى شهور الحمل الأخيرة، وواضح أن حملها كان يعرفه الجميع حتى زوجها ونساء القرية، وذلك حين تركت الخياطة فتحول النساء الميسورات عنها إلى أخرى، ولكن لا أحد تحدث عن حملها عند انتشالها من البئر، لا زوجها ولا بعض النساء النائحات، بل ظل الأمر هكذا حتى بدء تكفين الغريقة، فصاحت خالتها عائشة بنت مبروك بأن الغريقة حامل وفي بطنها حياة.

لقد نشأت مريم يتيمة، فقدت ابوها حين تركها وسافر إلى زنجبار فمات في البحر، ثم فقدت الأم من بعده، فتكفلت خالتها عائشة بنت مبروك بتربيتها، ولكنها ظلت متنقله بين خالتها وعماتها الثلاث، ومن بينهن عمتها كاذية تلك التى كانت مريم تقضى أغلب الوقت في بيتها، وحين داهما الصداع في آخر أيام حملها؛ تكفلت خالتها وعماتها بالقيام بأمور بيتها، وتجريب كافة أنواع العلاجات معها بالسدر والزيوت العطرية دون جدوى، حتى أن مريم في آخر أيام حملها  كانت تخرج من البيت هائمة تتنرنح وسط الضواحي وبين النخل، تئن وتتوجع ولا تدري إلى أين تتجه، ولا إلى أين تعود، بل فقدت القدرة على تحديد الاتجاهات وحساب الزمن، كانت في بعض المرات تعود مبكرة إلى البيت، ومرات أخرى تتأخر حتى المساء، فيذهب زوجها عبد الله جميل للبحث عنها، فيجدها مغماً عليها قرب النخل، أو جالسة قرب شلال الفلج النازل، فقد اعتادت مريم أن تسكت الصداع بغمر راسها في الماء. كانت مريم أحياناً تبكي في صمت، وأحياناً تحكي عن  قصص دون ترتيب، فقال عنها الناس أنها مجنونة أو أنها مسحورة أو أصابها الحسد في مهنة حياكتها الماهرة، والواقع أن الصداع والحلم تحولا في خاتمة المطاف إلى همس يناديها: " تعالي .. تعالي"، وما كان الهمس يأتيها إلّا من داخل البئر، فعند ظهيرة ما وصلت مريم إلى البئر ووضعت قدميها على حافته، وأمسكت الحبل الذي لطالما رأته في الحلم مستجيبة للهمس المنادي من الأعماق: "تعالي تعالي"، فتدلت هابطة إلى البئر وإذا بثقل جسدها على الحبل، فأفلتت يدها وسقطت في الهوة العميقة، إذاً هكذا غرقت مريم هرباً من الألم والأحلام، وربما الحسد والسحر الذي ياتي بالهواتف الغامضة

ولكن بموت مريم لا تنتهي القصة ولا الحياة لأنها تركت من خلفها حياة تلك التى كانت تتحرك في أحشائها، إنه المولود الذي نبهت عنه خالتها عائشة بنت مبروك وأخرجته عمتها كاذية بتلك الوحشية الصادمة، وضعت كاذية الرضيع في حضنها ونسيت جثة بنت أخيها الغريقة، لا بل توقف النساء عن تكفين الجثة في موقف بدا لي غريباً ولكني تقبلته على كونه معبراً عن ثقافة أهل بادية في مكان ما من العالم، ليس من المطلوب أن يطابق ما عرفناه وتعودنا عليه، وهذا هو الأدب الذي يعرفنا على الغير وثقافته ويقرب لنا الآخر ومنهجية تعامله مع الأحداث، والرواية جاءت غزيرة بهذا النوع من المعارف؛ فهناك الطارش والافلاج والطوي وغيرها الكثير من ثقافة أهل البادية في الخليج، وللحق فان الرواية أعادت لى الثقة في ذائقة البوكر العربية بعد ما كنت احتار في سابق رواياتها عن اللغة المنخفضة التى كانت تعج بها والأفكار، حتى كنت أتساءل بكامل تواضع تجربتي ومعرفتي؛ أين هو الأدب في قلة الأدب؟ غير أنني وفي تغريبة القافر أقول وبكامل تواضع مقامي؛ أن ذائقة البوكر قد ارتقت هذه المرة  أو هكذا هي الحياة ..

إن الحياة التى تركتها مريم خلفها تجسدت في الطفل، وقد سمته عمته بسالم؛ لأنه سلم من الغرق والموت والشر، فصار اسمه سالم عبد الله جميل، لم تحضر كاذية عملية اتمام تكفين الغريقة، لقذ ذهبت بالطفل إلى بيتها فلحقتها جارتها آسيا بنت محمد، تلك المرأة التى عانت الأمرين من موت أطفالها وآخرهن طفلة دفنتها قبل يومين في مقبرة الأطفال، وبالتالي فإن صدرها مملوء باللبن، فأرضعت سالم منه حتى نام، فيما عادت كاذية تتعقل ما حدث وتتعجب مما قامت به من فعل ثم تبكي فقيدتها، ولكن الحياة أيضاً تخبرنا بها، المطر الذي هطل حين تشييع جنازة الفقيدة الغريقة مريم، فقد صبت السماء على الرؤوس مطراً ناعماً ظلّ يبلل المكان والوجوه وحتى لحاف النعش، فقال الرجل الأربعيني أن: "هذه الحرمة ربنا راضي عليها"، هذا بعد أن سبق وأن قال عنها أهل القرية أنها مجنونة، ولا نتعجب فنحن البشر هكذا لا نذكر محاسن بعضنا إلّا عند الموت أو بعده، لأنه في تلك اللحظة تنتفي المنافسة والمفاضلة، ولا بأس إن قال البعض عن أُناس ماتوا أنهم كانو أفضل منهم، وعلى أية حال فد دفنت القرية مريم الغريقة بعد أن تركت خلفها الحياة.

إن المطر الذي هطل ظهيرة تكفين ودفن الغريقة لم يمنحني الاحساس بالجفاف الذي سيغمر القرية أو سيفاجئها فيما بعد، المطر الهطال منع الناس من العزاء، كما جعل أب الطفل سالم يتأخر في زيارته عند بيت العمة كادية، ولكنه معذور، إذ أن غياب زوجته جعله كمن غاب فعلاً، ورغم أن الأحداث لم تقنعني بأن الزوج لا يتطرق إلى حمل زوجته الميتة، بل يفقد ذاكرته ولا يعيش أحداث بقر بطن زوجته وإخراج طفله، ولا يتذكره حتى حين زيارته إلى بيت كاذية، بل قد هم خارجاً لو لا أن كاذية سالته: "ماتبغى تشوف ولدك ؟" لقد فقد ذاكرته، لم تقنعني ربما لأنني ما أحببت أن يظهر عبد الله جميل الرجل المكافح الصبور المحب والمساند لزوجته بهذا المنظر الواهن، ولكنه قد كان وحصل.

في صباح اليوم التالي لزيارة عبد الله جميل لطفله سالم في بيت كاذية؛ حلت جائجة بالقرية، فقد تحول الصيف إلى برد قارس، وهبت الرياح واقتلعت جميع الأشجار، ثم دلقت السماء ماء المطر دلقاً على القرية، حتى احتمى الناس بالكهوف والمغارات وذابت جدران البيوت أمام السيول الجارفة، وقد اختار عبد الله جميل خيار الاحتماء بكهف صغير يسع له ولكادية والطفل سالم ومرضعته أسيا بنت محمد،  ثم بعد سبعة أيام توقف المطر، وظهرت السماء صافية فعاد الناس إلى بيوتهم وأصلحوها، وقد كانت سنة خصبة للقرية وأهلها، امتلأت الوديان والشعاب بالماء، وضجت جنبات القرية بخرير الجداول، وتدفقت مياه الأفلاج بغزارة، والفلج هو قناة محفورة في باطن الأرض أو على سطحها، قد تكون مكشوفة أو مغطأة، هدفها تجميع المياة الجوفية أو مياه العيون والينابيع، وتعتمد سلطنة عمان من قديم الزمان على نظام الأفلاج في الريّ علماً بأن هناك خمسة أفلاج عمانية أدرجتها لجنة التراث العالمي من ضمن التراث العالمي، المهم أن قرية مسفاة كفضاء روائي قد أينعت، كمان أن الطفل سالم قد شب عوده، وأتمت اسيا بنت محمد رضاعته، وحين بلغ ست سنوات جاء أمر مهما لآسيا مرضعته.

فقد وصل إلى القرية تاجر أقمشة يحمل رسالة إلى آسيا مفادها أن زوجها موجود في قرية تُسمى الغافتين، وأنه مريض ويطلب حضورها إليه، فشجعتها كاذية على السفر إلى زوجها كما اعانها والد الطفل سالم، عبد الله جميل، بان دلها على سلمان المسافر والذي يخبر دروب القرى، وهكذا سافرت المرضعة اسيا، ثلاثة أيام تسير على حمار، يرافقها الدليل ولا كلام بينهم إلّا عند الحاجة، إلّا أنها كانت غارقة في ذكرى الطفل الذي خلفته، تتذكر سالم ويده الصغيرة ووتذكر ما ظهر عليه من مرات يحك فيها أذنه بباطن يده، وتتذكره حينما ينصت إلى الأرض، وكم من مرة كتمت ما ظهر عليه لا تخبر أحد سوى كاذية؛ التى كانت ترشدها وتحذرها من لسان أهل القرية الذي يأكل كل شيء، حتى عبد الله جميل أكلوه بقصة زوجته الغريقة، ولم يسلم من ذلك حتى ابراهيم بن مهدي زوج المرضعة اسيا، فقد قالوا أنه مسحور لذلك مات أطفاله، وهجر القرية واسيا معه، وجربت اسيا كل شيء، حتى إطلاق الأسماء القبيحة على أطفالها وزيارة الأضرحة ونثر الحلوى على حواف عيون الماء والأبخرة، ولكنهم من بعد ذلك كانو يموتون، فالموت لا تمنعة الطلاسم.

وحين وصلت اسيا إلى قرية الغافتين سألت الناس عن زوجها حتى وجدته تحت شجرة سدرة كبيرة، وكان متغير الحال شديد الهزال، حتى أنها كادت تنكره لولا بريق في عينيه كانت تعرفه عنه، بنت اسيا سوراً عند تلك السدرة، وأصلحت مكاناً للسكن، وطببت زوجها بالسدر، ثم كتمت مشاعرها، كانت كل يوم تبلل قطعة من القماش بنقيع ورق السدر المغلي، وتمررها على جسده الهزيل، ثم تقترب منه كأنها لا تتقصد ذلك وتبدأ في فلي شعره، وأثناء ذلك ينغرز أنفه في منبت صدرها، ويختفي وجهه هناك فتسحبه ناحيتها، فيحس أن نهديها قد أحاطا بوجهه، هو المكان الوحيد الذي أظهرت فيه الرواية هذه المشاعر الحسية، ولكنها أظهرتها مثل زهرة لازمة لجمال البستان، وكجزء من الحقيقة الإنسانية الكبرى، فكان ظهوراً لازماً ورائعاً في ذات الوقت، ليس كسابق عهدنا بروايات ينغرز الجنس بكل صفاقة وانخفاض ودون لازمة أو حاجة لهذا لمجرد التعري والانكشاف، وعلى العموم فان "تغريبة القافر" رواية لا يمكن نسيانها على الرغم من الربكة التى أحدثها المنطق عندي أحياناً في مواجهة بعض الأحداث، ولكن هذا هو البناء الإنساني للحياة، حين نتصور حياة متخيلة فإننا نصورها بنقصنا الإنساني الكامن فينا، والعبرة دائما ليست الوصول إلى كمال التصور، وإنما في المحاولة المبدعة الخلاقة للوصول إلى الكمال.  

إن زوج اسيا بنت محمد اسمه ابراهيم بن مهدي، كان مباركاً يستضلح أراضى القرية ثم يرحل منها إلى أخرى، وهو لم يتذكر زوجته إلّا حين مرض في قرية الغافتين، "لقد  شعر بثقب في روحه ثقب في وسط جسده بين صدره وبطنه ثقب كبير كأنه نافذة يستطيع أن يرى منها ما هو خلفه، فطالعته صورة زوجته فتشبث بها تشبث الغريق بحافة متهدمة من الفلج"، وفي ذات الوقت كان الطفل سالم قد بلغ التاسعة من عمره في قرية المسفاة، حيث ولد وأرضع وشب بين خوف العمة كاذية مما ظهر عليه، وفي ذات يوم أخذه والده في رحلة إلى الوديان البعيدة، وجلسا ليستريحا تحت غافة كبيرة كثيفة الظل، والغافة هي نبات شجري معمر له فروع كثيرة الشوك، وهناك بالتحديد  تحت ظل الغافة، جلس الطفل سالم ووضع أذنه على التراب وأغمض عينيه ثم تمتم ماي ماي، وهذا ما تميز به الطفل سالم، أنه يسمع خرير المياة في باطن الأرض، ويحدد مكانها وقد انتشر الخبر في القرية بل في كل الارض "ولد عبد الله جميل يسمع شئيا من باطن الأرض" وكعادة الناس قاموا بتحوير الخبر، مرة إلى أنه يستمع لأهل باطن الأرض، ومرة إلى الجن،  ومرات أنه ساحر، وكل هذا جعل الناس تخافة وتتجنبه، بدلاً من أن تحبه ووتتقرب إليه فهو يدلهم على الماء لا يرشدهم إلى النار، ولكنه طبع الإنسان فهو قد تجنب الأنبياء حسداً من عند أنفسهم، والغريب أن كاذية لم يخافها الناس حين بقرت بطن الغريقة بل اجتبوها حين ذاع خبر الطفل سالم وهي ترعاه وهو أمر بدا لي غريباً. 

وحين أدرك سالم أن خاصية سماعه لصوت الماء من باطن الارض ينفر الناس منه تركه ظاهريا ولكنه ظل يستمع إلى أصوات عديدة أخرى مثل زقزقة عصافير بعيدة، أو زحف أفعى، أو صوت طفل بعيد يبكي وكان يستمتع بذلك ولكن لابد من كدر يصيبه حين يكتشف أن امرأة ما تتشاءم منه مثلاً، ولكن الأيام تمضي ويتلقي سالم بالوعري ويحس برابطة تشده إليه وحين أخبر كاذية به قالت له أنه الرجل الذي أخرج أمك من البئر ..

تدور بنا الرواية مع الأحداث الغرائبية إذ نكتشف أن الوعري ذات نفسه له قصة من المرض منذ أن كان في السابعة من عمره، كما أن له قصة مع أم الصبيان، والحروز، وقراءة الفنجان، وما تركت أمه شئ، حتى أنه ذات يوم تعافى، ولكن فجأة تبدل حاله وصار يأكل دون توقف، ويبتلع الماء بلعاً، ويأكل البلح بنواه ولا يكفيه شئ، بل احمرت عيناه وتحدقت في وجه أمه حتى خافت منه، وقالت أنه "مو ولدي"، وأن ولدها قد غاب أو أبدله الجن، وثمة شبه بين سالم والوعري.

وحتى بلغ سالم الخامسة عشرة من عمره عاشت قرية مسفاة في دعة وخير، بل أصبح الناس يتمرغون في النعيم ولم يتصوروا أن المياة الوفيرة ستغور يوماً وتختفي، ولكن أبو عيون رأى في المنام أن ناراً أكلت كل القرية والمزارع والبيوت وحتى الجبال، و مات أبوعيون بعد أيام قليلة ولكن حلمه قد صدق، فقد جاء الصيف وجفت الينابيع والأفلاج وشعر الناس بالعطش حتى جفت حلوقهم، وأمتد المحل في كل مكان، وتفشى الموت وأخذ الأطفال والأشجار والناس والأغنام، حتى الطيور أصبحت تقع من عليائها، فتضرع الناس بالصلاة وبالذبائح للاستسقاء دون جدوى ولم يتبق في القرية سوى نبع قليل في مزرعة الوعري  الذي جاد بها على أهل القرية ولم يبخل، ورغم ذلك احتاج الناس واجتمعوا واقترحوا "ليش ما نحفر الفلج"، ولكن من وين يأت الماء للفلج؟ ولكنهم لعلهم يصلون إلى منابع الفلج بالحفر وباشروا يستعيون بكبار السن لتتبع الإفلاج وقد اختلفوا، بعضهم يشير إلى هنا والآخر إلى هناك، وأخيراً استعانوا بالوعري ودلهم من ذاكرته، ولكن ظل الناس يحفرون دون نتيجة، حتى وصلوا إلى سواعد الفلج وفروضه ثم إلى أم الفلج، ولكنها جميعاً كانت جافة بلا قطرة ماء، وأخيراً همس سالم لأبيه "الماء ما هنا الماي هناك"، ولكن الأب عبد الله جميل خاف من سخرية الناس وصمت، فحدث ما توقع إذ سخر الناس منه ومن ابنه سالم، ولكنه إصرار الخير فقد بدا سالم بالحفر حتى لحقه والده عبد الله جميل وبعد جهد ظهر الماء وتجمع الناس من حوله مبهورين مخذولين، لا يدرون ما يقولون بعد أن رأوا بعيونهم صدق ما يقوله، وكرر سالم فعلته، وهنا قد ظهرت مهمة جديدة للطارش فقد ذهب ليخبر الناس بما حدث من عثور على الماء، وأن سالم بن عبد الله ابن الغريقة له قدرة على الإنصات إلى الماء وهنا ظهر الاسم الجديد لسالم وهو "القافر" حيت أطلقته كاذية حين قالت: "بجي الجديد ما دام القافر معاك" وبعد جهد انفلج الماء وعادت الحياة إلى القرية وكف الناس عن أذية سالم بن عبد الله وصاروا يسمونه بالقافر .

ثم خمس سنوات مرت بالقافر يجول القرى مع أبيه وبمفرده يتتبع الأفلاج ويعثر لهم على الماء،ثم تزوج سالم بن عبد الله القافر من نصرا بت رمضان، وناما متعانقين مثل بذرة وجدت نصفها ولكن توفي عبد الله بن جميل صبيحة زواج ابنه القافر، وعاد القافر إلى قريته وقرر أن يتوقف عن تتبع أثر الماء ظناً منه أن ماحدث لأبية كان عقاباً بسبب أن المياة التى بباطن الأرض محروسة، وأنها تأتي بلعنتها ثم ماتت كاذية، وحزن الوعري عليها وعاد أهل القرية إلى لعنتهم وقالوا أن القافر قد جن تماماً: "ايش الفائدة الماي في هاي الأرض فاسد ويخلق نفوس فاسدة"، وعلى الرغم من ذلك جاء من يطلب القافر يريد أن يأخذه الى القرية الميتة الباحثة عن الماء، فعرض عليه أن يكون له نصيب كم القرية، ولأول مرة يسافر القافر بعيداً بدافع المصلحة، وحين وصل إلى القرية الميتة أمضى الأيام في حفر الصخر حتى اندفع الماء، ولكن القافر امتزج مع الماء، وانقضت عليه أيام وساعات لا يعرف حسابها، فلا تشرق عليه شمس ليعرف نهارها ولا تلمع نجوم فوق رأسه ليدرك جمال الليل، وهناك في الداخل البعيد أكل الحشرات والهوام والضفادع واستمتع بقرمشتها، ثم انتبه إلى الأسماك، فأكلها بعد أن خدعها بسائل العنكبوت اللزج، وحينها فقط سبح عكس التيار من أعماق الفلج، حتى نظر إلى زرقة السماء ولكن الفلج انهار به مجددة وأخذته المياه الى أعماق الفلج..

لقد غاب القافر كثيراُ، وحاول الناس إقناع زوجته بأنه مات أو غرق ولكنها كانت تقول: "يوم يبرد قلبي، هذيك الساعة أعرف أنه مات"، ولكن البعض أخذ يقول أن القافر قد أخذه أهل الأرض السفليه حيث لا موت ولا حياة ولا أمل،  وبعد سنة كاملة من غياب القافر قامت زوجته نصراً إلى نعاجها وجزت صوفها وبدأت تحلج الصوف وتغزل كل يوم من بعد أن تنتهي من مهامها المنزلية، وقد سمت نصرا خيوط الغزل باسماء الأفلاج التى دخلها سالم، لك الخيوط التى كانت تمتد بلا نهاية...

نهاية الرواية كانت غائمة بين الحقيقة والواقع الغريب، مدسوسة هناك بين طيات الخيال فسالم بن عبد الله جميل قد ظل محبوساً في الفلج مغموراً بين المياة في عتمة لا تعرف الأيام، يأكل مما لا ياكله عادة الناس، ولكنه يشرب مثلهم من غمار مياه الأفلاج، وهو هناك يعرف الإصرار والأمل أحياناً ويظل يحاول ويحاول ولكن ينبثق الماء و يجرف معه كل شئ .

"تغريبة القافر" لا تنتهي إلّا لكي تبدأ في خيالاتنا وأحلامنا ..

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم