في روايتها الثانية تقدم رحمة ضياء عالمًا مختلفًا مغايرًا عما عرفناه عنها في روايتها الأولى "النقشبندي"، إذ تنتقل هذه المرة إلى عالم المطبخ والطهي، الذي يبدو وقد لفت أنظار عدد من الكتاب مؤخرًا بطرق مختلفة، سواء كان ذلك في الروايات أو بكتابات سردية غير روائية، وكان آخر من كتب عنه بطريقة خاصة الكاتب عزت القمحاوي في كتابه الشيق والمهم "الطاهي يقتل الكاتب ينتحر"، إلا أن  الكاتبة آثرت هذه المرة أن تجمع بين الطاهي والكاتب في الوقت نفسه، وأن تدخل ذلك العالم المليء بالأسرار المفاجآت والمذاقات، لا لكي تطهو وتقدم وصفات الطعام فحسب، وإنما لكي تنجو ببطلتها من حافة الانتحار وتبحث وتتقصى حول جريمة قتل!

هكذا تبدأ رواية سيدة القرفة، تكتشف البطلة وفاة والدها بشكلِ مفاجئ ثم تعرف أن الوفاة ليست طبيعية وإنما هناك جريمة قتل، ورغم ذلك الخيط البوليسي والتشويقي في الرواية إلا أنها لم تعتمد على فكرة البحث عن القاتل والانشغال بكشف ملابسات "الجريمة" حتى نجد القاتل، وإنما انتقلت بنا إلى عالمها الخاص، عالم "ميمي" التي تعلمت من والدها أصول عالم الطهي حتى انغمست فيه وعرفت أسراره، وتحوّل الطهو إلى وسيلة من وسائل مقاومة صراعات العالم ومشكلاته بما فيها البحث عن ذلك القاتل!

ندخل مع البطلة "ميمي" عالمها فنتعرّف من خلال الوصفات وطرق الطهي على علاقتها بوالدها بداية، وكيف كان رجلاً محترفًا، لا يمسك فقط بمقادير صنع مائدته المفضلة، ولكنه يتحكم في مقادير وعلاقات الناس من حوله، فيعرف كيف يقرب ابنته منه ويعرف كيف يجعل أمها تبدو غريبة عنها حتى تهجرها، ويقرب إلى البنت من يشاء ويبعدها عمّا يشاء، حتى تأتي وفاته لتقوض لميمي عالمها من جديد، وتجعلها تفكِّر في هذا الرجل بطريقة مختلفة، وتراجع علاقاته من جديد وعلاقتها بالأشخاص القريبين من محيطها، ونفاجئ بعودة أمها من غيبتها الطويلة، وكذلك بوجود أخت لها من أمها، وكأن الحياة تفتح لها أبوابًا مختلفة.

((وفي ظرف يوم وليلة أصبحت ميمي وأبوها «التريند» الجديد! ‫ لم يتبقَّ أحد لم يدلِ بدلوه في القضية، ويتشارك مع أصدقائه أدق أسرار حياتنا ‫ يقتلني التفكير فيما حدث؛ انقلاب الكل ضدك في غمضة عين وتحول المعجبين والمحبين إلى أعداء ينتظرون لحظة سقوطك! ‫ ألسنا نعيش في عالم مجنون، مزيف، مرعب؟ والأدهى أننا محبوسون فيه جميعًا دون أمل بالخلاص، نفترس بعضنا البعض بلا رحمة كوحوش كاسرة، ولا يوجد عاقل واحد يبحث عن المفتاح ويحررنا.))

هكذا ننتقل مع البطلة والكاتبة من لحظات حيرتها وبحثها عن قاتل والدها إلى تفاصيل عملية البحث تلك التي تعرفها على العالم من حولها بشكل مختلف، كل ذلك وهي تخاطب والدها من خلال السرد، وتحكي له ما يحدث لها من بعده، وفي الوقت نفسه تخلصها تلك الرسائل/ المعرفة مما يعلق بها من حزن وصدمة سواء لرحيل والدها أو لمعرفتها بحقائق كانت غائبة عنها عن تاريخه وحياته.

 استعانت رحمة ضياء بأكثر من أسلوب سردي مختلف لعرض حياة بطلتها، وطريقة تعرفها على ذلك العالم الجديد الذي تبدو غريبة عنه، فشخصية "ميمي" التي رسمتها باقتدار تلك الفتاة التي عاشت طويلاً في كنف والدها وحمايته، ثم اكتشفت برحيله قسوة العالم، كانت وسيلتها الأولى للتجاوز ذلك هي مخاطبته من خلال الرسائل، كما استعانت بتقنية الحلم التي اختلط فيها الواقعي بالفانتازي، واستطاعت أن تقدم من خلاله ملامح أخرى لتلك البطلة، كل ذلك بالإضافة إلى العلاقة الاستثنائية بعالم المطبخ وتحضير وصفات الطعام، والتعرف على الناس من خلال اختياراتهم في الأكل والشراب المفضل.

(( اكتشفت أن للألم قدرة هائلة على إعادة تشكيلنا وأن الليالي الطويلة التي نبكي فيها بحرقة دون أن يسمعنا أحد، أو يحتضننا أحد، نستيقظ في الأيام التالية وقد تبدل شيء فينا إلى الأبد تختلف بعده ملامحنا وعيوننا وشكل ابتساماتنا، وخطوط وجوهنا وكأن الدموع صهرتنا وأعادت تشكيلنا في قوالب جديدة. ‫ بعضنا يُصب في قالب المرارة، ويدور مع الدائرين في دائرة الأذى. والبعض الآخر يتشكل في صورة جديدة أكثر طهرًا وزهدًا بعد أن تزال منه الشوائب والأوهام. ويتحرر من المسلمات))

ربما يؤخذ على الرواية ذلك التحول المفاجئ الذي حدث مع البطلة في نهاية الرواية، والذي لم يكن ممهدًا له بشكل كافٍ خاصة ما يتعلق بتصالحها مع المشكلات والأخطاء التي أحاطت بها، والتي من الممكن أن تسبب عقدة كبرى لأبطال آخرين، بالإضافة إلى طريقة التعرف على القاتل التي بدت "سينمائية" بعض الشيء، إلا أن ذلك كله ربما يرجع إلى محاولتها التنقل  بين أكثر من فكرة وطريقة عرض في الرواية، بين عالم الجريمة والبحث عن القاتل وعالم الطبخ وما فيه من غواية وأسرار، كل ذلك مع مشكلات اجتماعية في علاقة تلك الفتاة بوالدها وأمها بعد ذلك، ولكن الرواية جاءت موفقة في النهاية، واستطاعت أن تقدم عالمها وتفاصيلها الشيقة بشكل جيد، كما قدمت "مذاقًا" خاصًا ونادرًا لأدب الجريمة قل أن يتم تناوله على هذا النحو، كما أكدت من جهة أخرى امتلاك الكاتبة لأدواتها وقدرتها على الانتقال بين عوالم وأفكار سردية مختلفة.

رحمة ضياء صحفية وروائية مصرية، حصلت روايتها الأولى "النقشبندي" على جائزة خيري شلبي للعمل الأول عام 2021، شاركت بروايتها الثانية "سيدة القرفة" في ورشة رواية أدب الجريمة تحت إِشراف الروائية منصورة عز الدين 2022.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم