لا خلاف أنّ أبرز مداخل أو روافع الإبداع هو التّجريب. وأعتقد أنّ الأخيرَ قائمٌ على ثلاثة ركائز استراتيجيّة منها الموهبة، الوعي والاجتهاد. 

الموهبة وحدها ليست تفويضًا مفتوحًا لدخول عالم الإبداع. كذا حال الوعي من دون موهبة، بينما الاجتهاد من دون موهبة ووعي، لن يفضي إلى نتائج إبداعيّة مأمولة أو مرجوّة. 

زد على ذلك، حسُّ الابتكار وتجاوز الذات والسائد، هو ديدن العمليّة الإبداعيّة. وعليه، الفنون والآداب والعلوم الإنسانيّة والتّطبيقيّة، مفتوحة على التجريب لتقديم الجديد كمًّا ونوعًا. 

وإذا كانت المادّة الأدبيّة (رواية، قصّة، شعر...) هي التي تحرّك أسئلة النّقد، وتحفِّزهُ، وتستنهض فيه نزعة التّجاوز من المناطق المكتشفة إلى المناطق المجهولة غير المكتشفة في النّصوص، فإنّ النّقد بذلك، يطوّر من نفسهِ، ويفتحُ أفقًا أمام تطوّر الأدب وأجناسه أيضًا.

مناسبة الكلام السّالف الذّكر، الحديثُ عن رواية "سنوات الجري في المكان" للرّوائيّة والقاصّة المصريّة نورا ناجي. 

ذلك أنّه، في أثناء قراءتي لهذه الرّواية، انتابني شعور وكأنّني قرأتها سابقًا. علمًا؛ لم أقرأ لناجي أيّ عمل روائي أو قصصي أو حتّى مقال قبل قراءة هذه الرواية، وليس لي سابق معرفة شخصيّة مباشرة بها. 

وهي الكاتبة المصريّة المعروفة الحائزة على جائزة الدولة التشجيعيّة عن مجموعتها القصصيّة "مثل الأفلام السّاذجة". وآمل أن يتّسع صدر الكاتبة وصدور أصدقائها للملاحظات التي خرجت بها من قراءة روايتها، وما أمكنني تسجيله في هذه الأسطر، وغايتي وضالّتي من ذلك، خدمةُ الأدب، وتحريك سؤال النّقد الجادّ الممحّص، الذي يقلبّ النّصوص على أوجهها، من دون اقتراف العسف والإجحاف، عبر المبالغة في كيل المدائح، ونسب أشياء ومقامات مبالغ فيها للنّصوص.

في البداية، لا مناص أمامي من التأكيد على موهبة الكاتبة نورا ناجي الأدبيّة، والإقرار بأنّ رواية "سنوات الجري في المكان" نصٌّ متعوب عليه، على صعيد اللّغة، لجهة البساطة والرّشاقة، فضلاً عن فكرة العمل، ومحاولة الدّمج بين الأجناس الأدبيّة، والاشتغال على الحواس وما يترتّب على فقدانها من مضاعفات نفسيّة. 

وبالتالي، "سنوات الجري في المكان" يمكن تصنيفها ضمن الأعمال ذات البُعد النّفسي. أمّا مدى نجاح الرّوائيّة من عدمهِ، في تقديم نصّ أصيلٍ متينٍ متماسك، من صلب خيالها وأفكارها، فتلك قضيّة أخرى، أترك الحكم فيها للقرّاء الأعزّاء.

مصادفات الكتابة:

يحدثُ أن يتأثّرَ كاتبٌ أو كاتبةٌ بعمل فنّيّ، أدبيٍّ، موسيقيٍّ، سينمائيٍّ...، فتتسرّب أفكار وأخيلة تلك الأعمال، بشكل خفي، إلى نصٍّ أدبيٍّ، ينجزهُ الكاتبُ أو الكاتبةُ المُتأثّران بها. 

ويحدثُ أيضًا، أن تتسرَّبَ أفكارُ الأدباءِ الأصدقاءِ إلى نصوصِ بعضهم البعض، وفق مستويات القُرب والتّواصل في ما بينهم. ذلك أنَّ حساسيّة وهشاشة الأديب/ة، تمنحهما التّفويض أو التّرخيص أو التّفسير أو التّبرير، لسلوكٍ كهذا. وعليه، يمكن توصيف هذا "التَّسرُّب" أو "التّأثّر"، أو حتّى التّخاطر، بـ"مصادفات أدبيّة" تحدثُ أثناء الكتابة، من دون أن يدري صاحب/ة النّصّ الجديد؛ إنَّ ظلال أعمال أدبيّة أخرى تغلغلت إلى مدوّنتهِ الأدبيّة الجديدة، ويكتشف ذلك لاحقًا بعد صدور العمل، وإعادة الكاتب قراءته بعين فاحصة ناقدة.

وبديهي أنّ نسبة العََمد / التَّعمُّد، في حال وجودها، مهما كانت قليلةً أو ضئيلةً، ستكون على حسابِ جودةِ وفنيّةِ وأصالةِ العمل، وستفتح قوسًا كبيرًا لسؤالٍ محيّرٍ لحوحٍ مفادهُ: هل هذا العمل أو ذاك، هو من صلب أفكار وخيال كاتبهِ، أم هو حاصل تجميع وتقطيع، وتوزيع، وإعادة إنتاج نصوص وأفكار سابقة؟ وإذا كانت نسبة "المصادفات الأدبيّة" كثيرة ومبالغ فيها، كيف يمكن لها أن تؤسّس لحداثةٍ أدبيّة ناهضة، فضلاً عن هشاشةِ تمثيل تلك الحداثة المُصدّرة على أنّها طفرة إبداعيّة؟ والسّؤال الأبرز: ما مدى تورُّط وضلوع النّقد والإعلام والسُّوشيال ميديا في تصدير أعمال أدبيّة روائيّة وقصصيّة أو شعريّة - في حال كشف أمرها، وافتضاح سرَّها - وإصدار "فتاوى" تجيز الإكثار والغلوّ في استخدام "المصادفات الأدبيّة" المُتعمّدة؟ مقصدي؛ أيّةُ درجةٍ مِن الحرصِ والأناة والتأمّل والتّمهُّل يتوخّاها النّقُّادُ، في أثناءِ وضعهم النّصوص الرّوائيّة تحت عدساتِ ما يمكن وصفه بالنّقد "التّشريحي التّطبيقي" عبرَ الغوصِ في الطّبقات الخفيّة للنّصوص الرّوائيّة، وفرزها، ومقاربتها مع نصوص أخرى، لمعرفة مستويات المصادفة، مِن التَّعمُّد عن سابقِ إصرار وتصميم وترصُّد، ما يبيح وصف الواقعة بالاختلاس الأدبي؟ إذن، والحال هذه، أحيانًا، النقد مطالب بمعرفة (DNA) للعمل الأدبي في حال وجد هنالك تشابه مفرط بين عمل روائي وأعمال روائيّة وفنيّة أخرى. ومثلما الكاتب مطالب بأن يتعب على نفسه، وهذا صحيح، الناقد أيضًا مطالب بأن يتعب على نفسه.


لستُ في وارد إعادة تقديم رواية "سنوات الجري في المكان" تحليلاً وتقييمًا، (لأنّ الرّواية في متناول القرُّاء، وقيل فيها وكُتِبَ عنها الكثير)، بل سأكتفي بإجراء بعض المقاربات بين هذه الرواية وروايتين، وبعض الأعمال الأخرى.


1ــ "سنوات الجري في المكان" (دار الشروق – القاهرة 30/12/2022). 263 من القطع المتوسّط. بحسب ما ذكرته الكاتبة في نهاية الرواية، أنّها انتهت من كتابتها في 2 فبراير 2022.

2ــ "ماكيت القاهرة" (منشورات المتوسّط – ميلانو 15/6/2021) 408 صفحات من القطع المتوسّط

3ــ "كأنّني لم أكن" (دار سؤال – بيروت 24/4/2022)[2] 229 صفحة من القطع المتوسّط. تاريخ البدء والانتهاء من كتابة هذه الرواية: "من 1/6/2016 ولغاية 26/11/2019". (ص229).

أمّا بالنّسبة للرّواية الأولى؛ "سنوات الجري في المكان"، والرّواية الثانيّة؛ "ماكيت القاهرة"، ثمّة تقاطعات كثيرة، أذكر منها:

أولاً: ثيمة الزّمن، والمراوحة في المكان، وتكرار القصص، ضمن بنية النصّ. يقول طارق إمام عن روايته: "بنية الرواية جاءت دائرية الزمن والمكان، لتترجم ذلك المعنى انطلاقًا من الشكل، وبداخلها فكرة "التكرار"، التي اتخذت منها الرواية ثيمة رئيسية" (ضفّة ثالثة – العربي الجديد. حوار أجراه أشرف الحسّاني 6 ديسمبر 2022). كذلك نورا ناجي في روايتها، تعتمد على التكرار، في سرد المشاهد (مقتل سعد في موقعة الجمل)، "مشهد مجيء نانا إلى المشرحة ورؤية الجثّة، ثم هروبها.."، "مقتل سعد، موقعة الجمل، الهروب في الشوارع، صعود مصطفى سطح البناية والنظر إلى الحشود..،"، نفس التقنية في تكرار المشاهد، مستخدمة في "ماكيت القاهرة": هروب بلياردو، الاجتماع مع المسز...، وتكرار ذكر الحوادث، مع إضافة تفاصيل جديدة. حادثة أوّل لقاء بين نانا ومصطفى (ص213-214)، وحادثة اللقاء بين نانا ومصطفى في شقة اللواء المتربة الوسخة ونومها معه (ص220). وكذا الحال في "ماكيت القاهرة" وتكرار حوادث جرت مع بلياردو ونود، مع إضافة تفاصيل أخرى. والذي قرأ العملين سيلاحظ ذلك.

ثانيًا: استناد "ماكيت القاهرة" إلى محاكاة المدينة، منذ ثورة 25 يناير، والتحولات التي شهدتها، لغاية 2020، ثمّ القفز بالزّمن إلى الأمام. كذلك تنحو رواية "سنوات الجري في المكان"، نفس المنحى، لكن، من دون القفز إلى المستقبل.

ثالثًا: حاولت "سنوات الجري في المكان" توظيف الفنّ التشكيلي، الشعر، الديكور، التصوير، في السياقات الدرامية، وبناء الأحداث والأشخاص، وكذا كان حال "ماكيت القاهرة"، عبر توظيف التصوير، السينما، الديكور، الرسم الغرافيتي...، باستثناء عدم لجوء الأخيرة إلى الشِّعر.

رابعًا: شخصيّة سعد الذي يفقد عينه في أحداث ثورة 25 يناير، تشبه إلى حد ما، شخصية بلياردو الذي يفقد عينه في نفس الفترة. بينما يموت الأول، ويبقى الثّاني حيًّا.

خامسًا: فكرة الحركة الدائريّة للزّمن، الجري/المشي داخل كرة زجاجية شفافة، و"جاليري القاهرة" الدائري الشكل.

 سادسًا: الغمز من فكرة "العود الأبدي" لنيتشه في كلتا الروايتين. "ربّما كانت أنتِ في حياة سابقة" (ص213)، "كيف يموت شخص في زمن آخر، ويظلُّ باقيًا، مكرّرًا في حيوات أخرى؟" (ص53- سنوات الجري في المكان). وفي "ماكيت القاهرة": "لا أحد يملك حياة واحدة (...) الحياة لو تسنّى لها أن تتكرر، فلن تعاش أبدًا مرّتين بالطريقة نفسها..." (ص424)، وفي الصفحات 432، 467، و511 "لماذا تكرر نسخة منه، قصّةٌ تمّت وصارت من الماضي بدلاً من أن تواصل تقدّمها لتبحث عن قصّة في المستقبل؟ ولأيّ مغزى؟ أيّ نوع من العود ولحساب أيّ شخص أو زمن أو مدينة أو ماكيت؟"، وفي الصفحة 522 "لو استمرّت الأحداث، بترتيب وقوعها السابق، لو أن الحكاية تكرر نفسها للنهاية هنا، فإن هذا الشخص المصغّر سيهرب بعد قليل (...) سيفقد عينه...، سيهربان...، سيصير زوجًا لها...، سينشأ بينهما طفل".

 تجب الإشارة إلى أن فكرة "العود الأبدي" عالجها ميلان كونديرا في روايته التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي "كائن لا تحتمل خفّته". وفي هذه الرواية يتحدث كونديرا عن الخفّة والثقل، كذلك نورا ناجي تحدّثت عن الخفة والثقل في روايتها "سنوات الجري.." (ص73)، وطارق إمام تحدّث عن الأمر ذاته في روايته "ماكيت القاهرة"!

 سابعًا: تحويل الأصوات إلى كلمات: "بينج بينج" (ص34 – سنوات الجري في المكان)، "أطلق دويًّا من فمه: بوم" (ص2 ماكيت القاهرة).

 ثامنًا: فنان (مصطفى) يتقدّم بطلب منحة لتنفيذ مشروعه عن ميدان التحرير، ويقبل طلبه (ص138-139) كذلك الأمر بالنسبة لبلياردو في "ماكيت القاهرة" يتقدّم للحصول على منحة من جاليري شغل كايرو، ويُقبل طلبه.

 وعليه، الأسبقيّة في كتابة ونشر الروايتين تعود لطارق إمام "ماكيت القاهرة" (15/6/2021) "سنوات الجري في المكان" (30/12/2022). وهناك مقالة سبق وأن كتبتها نورا ناجي ونشرتها في العدد 68 من مجلة "الإنساني" (16/9/2021)، تحت عنوان: "عشر سنوات من المشي في المكان"[3]. يعني بعد صدور "ماكيت القاهرة" بثلاثة أشهر!

 تجب الإشارة إلى أنّني سبق وأن وثّقت مصادر اختلاسات رواية "ماكيت القاهرة" بالأدلّة والأسانيد الموثّقة، وذكرت أنّ تلك المصادر متعددة الجنسيّة (الأدبيّة والفنيّة)، ما فتح عليّ صاحب الرواية حرب شعواء قوامها الشتائم والتحشيد المتهافت على السوشيال ميديا.

مقارنة أخرى:

بعد معرفتنا تاريخ نشر رواية "سنوات الجري في المكان" (دار الشروق – القاهرة 30/12/2022)، ورواية "كأنني لم أكن" دار سؤال – بيروت 24/4/2022)، نجد أن الأسبقيّة الزمنيّة في الكتابة والنشر تعود للرواية الثانية (سبعة أشهر تقريبًا). ومع ذلك، هناك تقاطعات بين العملين، لا يمكن أن تخطئها عين ناقد ملمّ، حصيف، ممحّص، منها:

أوّلاً: فكرة اضطراب الحواس وتأثيرها على الفن والأدب، موجودة وأساسيّة في "كأنني لم أكن" لهوشنك أوسي، كذلك في "سنوات الجري في المكان" الفكرة موجودة!

ثانيًا: رواية "كأنني لم أكن" تشتغل على ثيمة علاقة الفنون بعضها ببعض (شعر + فن تشكيلي) داخل الرواية، وكذا حال رواية "سنوات الجري..." تنحو نفس المنحى، مع توسيع الأخيرة للدائرة (شعر، تشكيل، سينما، مسرح ومستلزماته).

ثالثًا: في رواية "كأنني لم أكن"، الفنان التشكيلي هوازن أقام معرضًا في لندن، ويستعيد ذكريات تلك اللحظات، حين زار لندن للمعالجة من العمى (ص134). وفي الصفحة 146 تقول رواية "سنوات الجري..." الفنان التشكيلي مصطفى أقام معرضًا في لندن، ويستعيد ذكريات ذلك المعرض.

رابعًا: في رواية "كأنني لم أكن" يرسم الفنان التشكيلي هوزان 12 جدارية استلهامًا من 12 قصيدة قصيرة كتبها جدّهُ، عناوينها ألوان: "أخضر الجحيم"، "الأزرق اللعين"، "الأبيض الذليل"، "الأحمر الميّت"، "البرتقالي الحكيم"، "الأصفر الكتوم"، "الأسود الجبان"، "الأرجواني الذبيح"، "الرمادي العصيب"، "البنفسجي المغدور"، "النيللي البتول"، و"القرمزي التائه" (ص114)، وعنوان كل جدارية هو نفسه عنوان كل قصيدة، والقصائد منشورة في "كأنني لم أكن" أثناء افتتاح معرض هوزان (ص145-149). كذلك نورا ناجي توظف الألوان عناوين لبعض فصول "سنوات الجري في المكان": أزرق (ص11)، أسود (ص21)، أحمر (ص31)، أخضر (ص39)، برتقالي (ص49)، رمادي (ص56)، أبيض (ص61).

خامسًا: في رواية "كأنّني لم أكن" فنان تشكيلي يفقد البصر فجأة، الأطباء يقولون له: "لا مشكلة عضويّة في عينك، المشكلة نفسيّة". فيعرض نفسه لجلسات علاج نفسي! وفي "سنوات الجري.." يعرض الشاعر يحيى نفسه لجلسات علاج نفسي لأنّه فقد حاسّة الشّمَ. يقول له الطبيب المعالج: "هذا عرض نفسي نعمل على حله أنا وأنت.. لا لعنات في الأمر" (ص165-171).

طبعًا لا يفوتني هنا ذكر أنّ الاشتغال على حاسّة الشّم، تناولها الكاتب الألماني باتريك زوسكيند (Patrick Süskind) في رائعته "العطر" سنة 1985، ترجمة نبيل الحفّار (دار المدى) التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي، سنة 2006[4]. فماذا أضافت نورا ناجي إلى جهد زوسكيند روائيًّا؟

سادسًا: يكسر الطبيب النفسي القواعد المعمول بها في أثناء التعامل مع مريضه الفنان في رواية "كأنني لم أكن"، كذلك يفعل الطبيب النفسي في رواية "سنوات الجري..." الشيء نفسه مع مريضه الشاعر. 

سابعًا: يتغيّب المريض عن إحدى جلسات العلاج النفسي في رواية "كأنني لم أكن"، وكذا الحال في "سنوات الجري..." حيث يغيب يحيى بسبب انشغالاته (ص166). 

 ثامنًا: جرى استخدام القصائد ضمن تقنيات الكتابة الروائية في "كأنني لم أكن". كذلك فعلت نورا ناجي في الصفحات 165، و173، 184، 191، 203، من روايتها "سنوات الجري في المكان".

 تاسعًا: في رواية "كأنني لم أكن" وأثناء جلسات المعالجة بين الطبيب النفسي ومريضه يجري الحديث عن الثورة في الصفحة 184. وفي الصفحة 161 يقول الفنان لطبيبه النفسي: "علاقتي بالثورات مشوبة بالحياد والحذر والقلق. لا أكرهها ولا أستطيع أن أحبّها.... لا أقف معها، ولا أسمح لنفسي بان أكون ضدّها". وفي رواية نورا ناجي نقرأ: "الطبيب: هل أنت نادم؟/ يحيى: على ماذا؟ الثورة؟/ أبدًا.. كان لا بدّ أن تحدث، لكننا لن نعيش في ثورة إلى الأبد، هذه أحلام السذّج" (ص175).

عاشرًا: القصائد في "كأنني لم أكن" عن الألوان، بينما القصائد في رواية نورا ناجي عن الروائح: "رائحة الدماء" (ص165)، "رائحة الجلد" (ص173)، "رائحة العرق" (ص)، "رائحة القلب" (ص191)، "رائحة الدموع" (ص203).

أحد عشر: في "كأنني لم أكن" تتوطّد العلاقة بين الطبيب النفسي ومريضه، بل يتأثّر الطبيب بالمريض، بالرغم من أنه لا يمكنه معالجته. كذا الحال في رواية نورا ناجي؛ تتوطّد العلاقة بين الطبيب والمريض: "أنت الوحيد الذي آخذ راحتي معه يا يحيى، حتّى إنني أوشكت أن أطلب منك إلى طبيب آخر، لأنّك صرت صديقًا، لا يجب أن يعالج طبيب نفسي صديقه" (ص184) لدرجة أنهما يتعاطيان الحشيش معًا.

اثنا عشر: في معرض الحديث بين الطبيب ومريضه هوزان في "كأنني لم أكن" يتحدّث المريض عن نفق يمرّ تحت الحدود التركيّة – السوريّة، وتجربة حفر النفق والعيش فيه، وإسقاط ذلك على الحياة وإيديولوجياتها باعتبارها أنفاق للبشر. بينما يحيى في رواية "سنوات الجري..." يدور كلام بينه وبين طبيبه عن الجُبّ، ودوره في حياة النبي يوسف (ص187).

ثلاثة عشر: أثناء الحديث بين الطبيب ويحيى، يسعى الأخير إلى لوم نفسه ونقدها وجلدها، نتيجة سلبيّته أثناء الثّورة وهروبه، وأثناء المحكمة، بينما الطبيب يحاول التهدئة وتقديم التبريرات والتفسيرات. كذلك يحدث أثناء جلسات العلاج النفسي في رواية "كأنني لم أكن" إذ يجري الحديث عن الثورات وعلاقة الفنان هوزان بها، لكن بعبارات وأسباب مختلفة تتعلّق بالواقع السوري والكردي.

من جهة أخرى، في "سنوات الجري..." أثناء الحوار بين الطبيب النفسي ويحيى، يظهر وكأنّه يعرف تفاصيل حياة مريضه، وتفاصيل أصدقائه أيضًا! في "كأنني لم أمكن" الأمر مختلف نوعًا ما، الطيب يعرف مريضه، ولا يكشف له ذلك إلاّ في نهاية الجلسات.

أربعة عشر: في "كأنني لم أكن" الطبيب يزور مريضه في منزله، للحديث معه، كجلسة معالجة نفسيّة. في "سنوات الجري في المكان" أيضًا يزور الطبيب مريضه يحيى في بيته لاستكمال الجلسات والحديث معه (ص192-201)، و(ص 204 - 209). في رواية "كأنني لم أكن"، مواعيد الجلسات متفق عليها بين الطبيب ومريضه، بينما في "سنوات الجري في المكان" هناك ما يشبه الارتجال: "ما دمت نسيتنا وتتجاهل اتصالاتنا، ولا تظهر في مواعيد جلساتك، قلت: مبدهاش، أحضر أنا وأفهم ما الذي حدث" (ص205).

الغريب والملفت أنّه في "كأنني لم أكن" جلسات العلاج النفسي كانت خمسة، وفي "سنوات الجري..." أيضًا كان الجلسات خمسة. صحيح أن الجلسة الخامسة في هذه الرواية انتهت بحشيش وضحك وفرفشة وأصدقاء آخرين انضموا إليهما، إلاّ أن الحوار الذي دار بين الطبيب ومريضه، في هذه الجلسة، لم يختلف عما دار بينهما في الجلسات السابقة.

وأخيرًا: في رواية "سنوات الجري..." تطرح الكاتبة على لسان إحدى الشخصيّة فكرة ""فنان مأخوذ بفنّه، حتى إنّه توقّف عن الشعور بالعالم..." (ص214). وهذه هي تمامًا توصيف لحال الفنان هوزان، في رواية "كأنني لم أكن"، باعتباره منهمك وبفنّه ومجذوب إليه، ولا تعنيه السياسة والثورة المندلعة على نظام بشّار الأسد سنة 2011!

مصادر أخرى:

1ــ "ماكو" فيلم مصري جرى إنتاجه وعرضه في سبتمبر 2021[5]، فكرة الفيلم عن إمكانية تصوير فيلم وثائقي عن العبارة المصرية "سالم إكسبريس"، الغارقة قبالة سواحل مدينة "سفاجا" في البحر الأحمر، منتصف ديسمبر 1991[6]. رواية "سنوات الجري في المكان" الصادرة في 30/12/2022 تقول: "معرض عن سفينة غارقة"... "نريد أن نجسّم تجربة الغوص إلى السّفينة داخل غرفة" (ص50)، وفيلم "ماكو" عن نفس السّفينة الغارقة، ويجسّد نفس التجربة!

قضاء سعد (بطل سنوات الجري في المكان) سنة كاملة بعيدًا عن بيته لتعلم الغوص، ونقل إقامته إلى الغردقة، وأخذه إجازة من العمل، وتركه زوجته وأمّه وأصدقاءه، (ص40/41)، كذلك يفعل أبطال فيلم ماكو، يتدرّبون على الغوص لأشهر في تلك المنطقة. من جهة أخرى، يتمّ ذكر "سفاجا" كمكان للتدريب على الغوص، وتفاصيل السفينة في الصفحة 43 من رواية "سنوات الجري...". ويتم ذكر اسم العبّارة الغارقة "سالم إكسبرس" وأصوات الناجين منها في الصفحة 113 من الرواية! هذا يعني أن الكاتبة شاهدت الفيلم، من دون أن تشير إلى فيلم "ماكو" لا من قريب أو من بعيد! لماذا؟ ذكر الفيلم ضمن المعلومات المذكورة عن السفينة، تم تجاهله ربّما لأن بعض المشاهد التي تصف العبّارة والضحايا، والشهيق والزفير تحت الماء، وقلقلة خروج ثنائي أكسيد الكربون في فقاعات كثيرة... مشاهد النزول تحت الماء والوصول إلى العبّارة، واستحضار الذكريات... مذكور في الصفحات 44-45-46 من الرواية، موجودة أيضًا في فيلم "ماكو"! ما يعزز هذه الفرضيّة أكثر وأكثر أن شخصيّة سعد في رواية "سنوات الجري في المكان" الذي فقد والده في تلك العبّارة، تقابلها شخصية غرام في فيلم "ماكو" التي فقدت والدها في نفس العبّارة! ومشاهد نزولها تحت الماء واستحضار ذكريات والدها وبكائها تحت الماء، تكاد أن تكون نفسها التفاصيل الواردة في الرواية على لسان سعد في الرواية. ماذا يعني كل ذلك؟ أيعقل أن تكون تخاطرًا، "تناصًّا" اقترفته نورا ناجي من فيلم "ماكو"؟! ربّما! الغريب أن الروائيّة المصريّة، وفي متن "سنوات الجري في المكان" تذكر أسماء بعض الأفلام الأجنبيّة ومشاهداتها في تلك الأفلام، وتذكرت الفيلم المصري "في بيتنا رجل" (ص141) وتجاهلت ذكر فيلم "ماكو"!

والسؤال هنا: هل تجاهلت نورا ناجي بعض مصادر عملها "سنوات الجري في المكان"؟ طبعًا لا. في صفحة "شكر خاص" (ص264)، وجّهت الشكر لروح الشهيد الفنان أحمد بسيوني، وأرفقت شكرها برابط عن الفنان باللغة الانجليزيّة[7]، بالرغم من وفرة الروابط باللغة العربية عن مصادر التعريف بالفنان الشهيد ومشروعه! كما شكرت الغطاسة سمية زيدان التي "أمدّتها بمعلومات لازمة ضمن أحداث الرواية" وتجاهلت فيلم "ماكو"!

2ــ تقول الكاتبة على لسان إحدى شخصيّاتها: "سأخبر الله بكل شيء.. أين سمعت هذه الجملة؟ تصلح عنوان قصيدة، سأسجلّها هنا من أجل يحيى، ربما يكتبها ذات يوم" (ص77-78). ولم تذكر الكاتبة أن هذه المقولة لطفل سوري جريح، وهو يلفظ كلماته الأخيرة. (القدس العربي – 8/1/2014)[8]. وكان بإمكانها ذكر صاحب المقولة على أقل تقدير، إذا كان يصعب عليها ذكر المصدر!

3ــ المشي، السير، الحياة داخل كرة شفّافة (بلاستيكية أو زجاجيّة) التي تتكرر في "سنوات الجري..." في الصفحات 22/ 27/ 28/ 35/ 85/ 249/ 262/، أصلاً الفكرة مأخوذة من فيلم أمريكي اسمه؛ (Bubble Boy) – فتى الفقاعة، جرى إنتاجه سنة 2001[9]. حتى أن بعض مشاهد الفيلم تسرّبت إلى الرواية: "... كنت لا أزال واقفًا ببدلتي داخل الكرة الشفافة، عندما اقتربت ولمست الكرة بكفها... وضعتُ كفي على كفها من الداخل، لم أكن يومًا جريئًا، لكني شعرت أنني أعرف هذه الفتاة" (ص23)[10].

4ــ وظّفت الكاتبة ضمن روايتها قصّة من التراث العالمي، معروفة وشائعة، بعنوان "الحلاّق والملك"، من دون ذكر أيّ ملمح لهذا "التناص"! هذه القصّة السّاخرة الناقدة، تحولت إلى أفلام كارتون للأطفال، وشاهدتها ضمن برنامج "حكايات عالميّة"[11]. كما أنّ هذه القصّة من تراث شعوب أخرى أيضًا، كالتراث الكوري[12].

وتعليقًا على هذه القصّة الساخرة "الحلاق والملك"، تقول الكاتبة على لسان الطبيب النفسي عمرو: "الحكاية لا تذكر الحلاق ولا الملك ولا الشجرة" (ص207)، وهذا غير صحيح. الملك يعتدل ويعترف أمام شعبه بطول أذنيه، ويبقى الحلاق حيًّا، والشجرة (الأشجار) تتوقّف عن الكلام: أذنا الملك كأذني الحمار"! يعني نهاية الحكاية واضحة وسعيدة.

5ــ الصفحة 249 من "سنوات الجري في المكان"، بالحرف والنصّ، هي من مقالة سبق وأن كتبتها الكتابة ونشرتها في العدد 68 من مجلة "الإنساني" (16/9/2021)، تحت عنوان: "عشر سنوات من المشي في المكان"[13].

تجب الإشارة إلى أنّ الكاتبة نورا ناجي لم تكن مضطرة في الصفحة 265 إلى ذكر تفاصيل الأغنيات التي وردت في الرواية، وهي معروفة. بمعنى، من منّا لا يعرف تفاصيل أغنية "العيون السود" مثلاً. هل هناك أيّ داعٍ لذكر اسم صاحبة الأغنية وصاحب القصيدة والملحّن، على أساس توخّي التوثيق والأمانة الأدبيّة والعلميّة؟! وفي تقديري كان أجدى بالكتابة ذكر المصادر الحقيقيّة لعملها الروائي، وليس القفز من فوقها نحو الحديث عن الأغنيات!

مشاكل تقنيّة:

شابت الرواية بعض المشاكل التقنيّة التي تتعلّق بالتحرير الأدبي، ربّما لا تتحمّل الكاتبة مسؤوليّتها، بل المحرّر الأدبي في دار الشروق المصريّة، الجهة الناشرة لرواية "سنوات الجري في المكان"، من تلك المشاكل:

1ــ في الصفحة 93 تكرر استخدام الحرف المشبه بالفعل إنّ/أنّ 17 مرّة!

2ــ ذكرت الكاتبة على لسان سارة: "العالم يعاني من جائحة مثل جائحة الأنفلوانزا في القرون القديمة" (ص96). أية قرون قديمة؟ غالبًا كان مقصدها الانفلونزا الإسبانيّة، وهي لم تكن في القرون القديمة!

3ــ  في الصفحة 14 يقول سعد: "عندما ذهبت إلى الميدان لم أخف، (...) ما رأيته على شاشة التلفزيون كان كافيًا لأن أحمل كاميرتي وأذهب". وفي الصفحة 47 يقول سعد: "كنت خائفًا من الموت، ولم أرغب في النزول إلى الميدان حتى آخر لحظة". ثمّة تناقض هنا، واختلاف في أسباب النزول للميدان من عدمه!

4ــ ولأن نسبة التكرار في الرواية واضحة، لا مناص والحال هذه من وجود الحشو والمطمطة في العديدة من الأماكن. على سبيل الذكر لا الحصر، نقرأ في الصفحة 17: "سأسافر إلى السعودية، مثل أبي سأسافر إلى السعودية". ويمكن اختصارها بحذف الجزء الأول من الجملة.

5ــ "... وضع صينيّة الشّاي أمامها وذكّرها بهذا اليوم" (ص130). أثناء الحديث عن الماضي، ينبغي القول: ذلك اليوم.

خلاصة القول: أيُّ عمل روائي يعاني ممّا عانتهُ رواية "سنوات الجري في المكان"، كيف للبعض محاولة تبرير هذا الحجم المهول من التقاطعات مع النصوص الأخرى؛ روائيّة، سينمائيّة، قصصيّة، على أنّ الأمر محض تناص مباح؟ أعتقد أنّ تبريرًا متهافتًا كهذا، سيفشل في رفع الرواية من مقام الفقر والتواضع والتهجين إلى مقام الأصالة. من جهة أخرى، إذا بقيت فتاوى التناص رخوة ومرنة ولا سقف لها، فإن الباب سيبقى مفتوحًا أمام أنتاج أعمال روائيّة وقصصيّة وشعريّة، قمّة في التهجين والاختلاس، ويُصار إلى تصديرها إعلاميًّا ونقديًّا على أنّها قمّة في الأصالة والفنّ والإبداع. في ظنّي وتقديري أن حركة النقد يفترض بها أن تكون شديدة الحذر واليقظة ممّا أسمّيه "خدعة قريش" أو "خطّة قريش" في الاختلاس الأدبي، حين اتفق قادة القبيلة على قتل النبي محمد (ص) عبر اختيار قاتل من كل قبيلة، حتّى يتفرّغ دمه بين القبائل، ويفشل بنو هاشم في الثار له أو المطالبة بدمه. وكذا حال البعض، حين يلجأ محدودو الموهبة إلى الاختلاس من مصادر عدّة، حتّى يتلبس الأمر على القارئ أو الناقد بحيث يرى التهجين المتنوّع، أصيلاً! لذا، إذا كان من العسير أن يكون الناقد موسوعيًّا في ثقافته، أقلّه أن يكون نصف موسوعي، بذهن متّقد وفطن، عصي على المداهنة والمساومة حيال أيّ نصّ يُشتمُّ منه رائحة الاختلاس.

 رواية "سنوات الجري في المكان" في ظاهرها تبدو مقبولة ومتعوب عليها لجهة مرجعيّاتها ومصادرها المتعددة الجنسيّة. وفي هذه الدراسة أنا معني بالنصّ أوّلاً وأخيرًا، ووضعي هذه الرواية تحت عدسة التحقيق والتشريح والتدقيق وإثارة بعض الأسئلة، لمعرفة مصادر الجمال المتواضع فيها، وهل هو أصيل من صلب خيال وفكر وأدب نورا ناجي، أمّ لا؟ هدفي من ذلك خدمة الرواية والقارئ والذائقة العامّة. وطالمّا وجّهت الكاتبة في نهاية روايتها الشكرَ لمَن ساعدها وألهمها في كتابة هذا النص، عليها ذكر الجميع، من دون استثناء. وإلاّ ستضع نفسها ضمن دائرة الشبهة والمساءلة.

أيًّا يكن من أمر، يبذل المبدع جهدًا مضنيًا لابتكار فكرة جديدة ويطلقها في الفضاء الإنساني ضمن نصّ أدبي، ويبذل المبتدع أو مدّعي الإبداع، أو متواضع الموهبة، جهدًا مضاعّفا لاختلاس تلك الفكرة، وإخفاء معالم جرم الاختلاس، وصولاً إلى نسب الفكرة إلى نفسه. وإذا سألتموني: مَن المسؤول عن تسميم المواهب الشّابّة في الآداب والفنون، اسمحوا لي بالقول: المديح المتهافت المجّاني، الذي لا يأخذ بيد الموهبة، ويضعها على المسار الصّحيح، بل يلقي بها في سماوات الوهم والاغترار.

الناقد رقيب على المواهب والارتقاء بها، وتجنيبها الزلل والشطط ومحاولات السطو والاختلاس الأدبي، ورقيب على ذائقة القارئ والمجتمع أيضًا من أيّة أعمال فنيّة متواضعة يصار إلى نمذجتها. فإذا تهاون في مهامّه ومسؤوليّاته الأدبيّة والأخلاقيّة، فلا حرج على أيّ كاتب أو كاتبة من ارتكاب أيّ فعل مشوب الريبة والشبهة الأدبيّة، ربّما يرقى إلى مقام السرقة الأدبيّة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم