تنتقل عجلة التخييل السردي في رواية سلالم ترولار لسمير قسيمي بين ثلاثة أقطاب وجدناها بارزة؛ وهي: رمزية الشخصيات- ومنطق شعرية السرد- وتخييل الراهن والتاريخ، تتمرجع حبكة رواية السلالم السبعة (عبر فصولها السبعة) واقعياً بسلالم ترولار (السبعة) ذلك الحي الشعبي الواقع في قلب العاصمة (الجزائر الوسطى). بينما تتكفل الشخصيات النصف مقنعة والنصف شفافة، بنسج عقدات الرواية فيما بينها، تاركة للروائي، (أو تاركاً الروائي لنفسه) مهمة حلها على طريقته.

أولاً- طبقات التخييل السيميائي.

الطبقة الأولى: مستويات الشخصيات ورمزية الازدواج (بين البنائي والسيميائي)

- مستويات الشخصيات وفق التقسيم البنائي (الشكلي)

لعل أولى القضايا التي يطرحها النص هي ازدواجية مستوى الشخصيات، وبصفة خاصة من حيث مستواها، إذ تقدم الرواية طبقة أولى من الشخصيات تضع في مقدمتها:

- جمال حميدي: شخصية رئيسية، أو بطلاً، بينما تترتب مجموعة من الشخصيات التي مُنحت أقل نصيباً من الخطاب (سواء كمتحدث عنها أو كمتحدثة بصوتها) في خانة الشخصيات الثانوية. وهي على التوالي:

- حورية: (المدعوة أولغا زوجة البطل جمال حميدي وطليقته).

- إبراهيم بافولولو: (صهر جمال ومربي أولغا زوجته)

- عصام كاش كاصي: أو رجل القمامة (الأب الحقيقي لأولغا) يبيع ويشتري بقايا الذهب المهشم. (يتحول مجاهد أو حركي حسب حوافز ودرجة ما يُدفع له).

- الكاتب الذي بلا اسم: (رجل الشرفة) الذي يصدر كل عام رواية باسم شخص آخر يتفق معه.

- الرجل الضئيل:- شخصية عسكرية متحكمة في دواليب الحكم وإدارة رئاسة البلاد.

- الكاتب المزيف: صاحب اسم الكاتب الحقيقي للروايات.

الشخصيات الهامشية- (التي لم تنطق ولم تمنح فرصة للحديث لكن تم ذكرها بالاسم والوظيفة أو التحدث على لسانها)

موح بوخنون. 

- الرجل الزومبي (نموذج للرئيس الجزائري الميت الحي)

- إيلاغن: رجل أسطوري يعتقد بأنه أول من اكتشف المهر، وأول من سكن شمال افريقيا، أول من سكن العاصمة في مرتفع سيصبح لاحقاً حي سلالم ترولار. ومكتشف لغز القطعة النقدية التي تعلق ترافق الرواية منذ تشييد مدينة الجزائر، لتدور بين يدي شخصيات الرواية وتفقد من جديد في نهايتها.

- غريجا الرجل الزنجي المرسوم على قطعة النقود والذي يتحول الى صورته كل سكان مدينة الجزائر. بداية من الكاتب.

2- مستويات الشخصيات وفق التقسيم السيميائي (الدلالي)

بعد أن تقدم الرواية مستويات شخصياتها، (رئيسية وثانوية وهامشية شكلياً) تقوم ضمنياً بهدم هذه المستويات البنائية، وتقلب أدوارها دلالياً. عن طريق آلية خاصة بالروائي تخالف معايير المبنى البنيوي المتعارف عليه، والذي يمنح أولوية الشخصيات حسب حجم الخطاب الذي منحها إياه الكاتب (كمتحدثة أو متحدث عنها أكثر من غيرها)، ويستبدله بمعيار استراتيجي خاص بهذه الرواية هو: من يتحكم في الآخر. (أو من يمسك بمصائر البقية).

وهنا يظهر بطل رمزي للرواية يتحكم ضمنياً في مصير جميع شخصياتها، هو "غريجا" [وهو الذي وجدناه في العنصر السابق، وفق التقسيم البنيوي الشائع شخصية هامشية لا خطاب لها]، هو صاحب ذلك الوجه الزنجي المرسوم على القطعة النقدية المجهولة التي تدور بين الشخصيات، والمجسد أيضاً في تمثال اشتراه الكاتب (الذي بلا اسم- الذي سنكتشف فيما بعد أنه سمير قسيمي)، وتظهر هذه الشخصية بطاقتها الرمزية الكامنة، وحمولتها السيميائية الدالة متحكمة في مصائر الجميع، حيث تمتلك القدرة على مسخ الجميع في نهاية النص على صورتها، فيصبح جميع سكان الجزائر في صورة زنوج عبيد. وهذا أحد المواقف السردية التي حسمت جميع مصائر الشخصيات في نهاية الرواية.

وفي خطوة ازدواجية ثانية، تكشف الرواية وفي صفحتها الأخيرة؛ أن الكاتب الذي بلا اسم والذي كان آخر ما كتب من روايات هو البطل الأول الذي هندس شخصية [غريجا] وجميع شخصيات هذه الرواية حينما قرر أخيراً أن يعلن عن اسمه وعن عنوان روايته، وعن مسؤوليته عن كل شخصياتها وأحداثها، فكان اسمه [سمير قسيمي] وعنوان الرواية التي عكف على كتابتها هي: [سلالم ترولار]، لمنح ذاته الكاتبة دور البطولة في نهايتها، تماما كما فعل في رواية الحالم وبطلها (ريماس إيمي ساك) الذي يخبرنا في نهاية الرواية بأن نقلبه لنكتشف بأنه الصيغة المقلوبة لاسم (سمير قسيمي)، وهنا يمتزج دور البطولة بذات الكاتب وتتجلى ذاتيته في الاستحواذ على مركزية الدور المحرك لعوالمه السردية داخل الرواية وخارجها.

الطبقة الثانية: رمزية الفضاء: (المدينة الدولة)

1- رمزية السلالم

تتماها هندسة هذا النص من حيث الإحداثيات البانية لموضوعه مع طبقات السلالم السبعة لحي ترولار بالعاصمة، فتطرح في مستهل الرواية أولى طبقات السُّلَّم الاجتماعي للمجتمع الجزائري، بشكل عمودي نجد فيه أن السلم السلفي من السلالم السبعة، في صورة سفح لجبل تحتشد فيه مآسي الطبقات الدنيا من المجتمع، حيث تعشش الرذيلة، والجريمة، كونه مهوى مثالي للقمامة المتدحرجة بقوة الطبيعة من أعلى السلالم، حيث يتسيد قصر الحكومة المحروس، على الجزائر كلها، وتسكنه الطبقات الراقية التي لا تنزل أسفل السلالم، ولا تعرف دهاليز العالم السفلي، بل تنزل بدلاً عنها؛ فضلاتها وقمامتها المتدحرجة قهقريا إلى أدنى دركات السلالم: "فقد كان بين قصر الحكومة وشقتهما، سُلَّمان ومنعطف، وبين الشقة وشارع الدكتور سعدان سبعة سلالم"(ص60).

لتتحول السلالم السبعة في لحظة انحدار القمامة، وتدحرج فضلات الطبقات العليا نحو عالم الطبقات الكادحة في السلم الاجتماعي، إلى طبقات سياسية بدورها تمتد من الحاكم (غير المرئي) المتربع على العرش، إلى حارس العمارة المقعد والعنين، جمال حميدي أول راوِ يقابلنا في مفتتح الرواية. والذي قادته مسيرته النضالية والسياسية والمهنية إلى أن يصير عميد البوابين في الحي. وهي مهنة رمزية تحمل من السخرية ما تحمل من احتفال الطبقات الدنيا بالرتب البهلوانية الجوفاء. حين لا تجد ما تفعله في يومياتها الميتة كدحاً.

هكذا تتحول السلالم في دلالتها الرمزية من تعبير عن طبقات اجتماعية إلى طبقات سياسية، إلى طبقات تاريخية، وهي في جوهرها طبقات هندسة سردية تقوم بصهر كل تلك الطرق الموضوعاتية في تدرج سردي يسمح للقارئ بالوقوف على كل سلم من سلالمها، برؤية مزدوجة ومتعامدة للعالمين العلوي والسفلي في حركة عمودية لوصف المجتمع الروائي، وحركة أفقية حينما يتم تداول الصوت السردي عبر فصول الرواية التي يروى كل منها على لسان شخصية من شخصياتها، على امتداد الفصول السبعة للرواية، وهو ما يجعل من العدد سبعة رقماً سيميائياً، منتشر الدلالة على كامل الفضاء النصي ببعديه الظاهر والمضمر.

الطبقة الثالثةرمزية الأبواب.

إذا كان من حق القارئ أن يمنح عنواناً جديداً للنص، فقد طرحت لهذا النص عنوان "الأبواب". لأن العقدة الرئيسية فيها تتعلق بظهور الأبواب وتتأزم باختفائها، وتحل بعودتها. ما يعني أن الإشكالية الروائية تحمل طابعاً عجائبياً عند حلول لعنة اختفاء الأبواب في الجزائر. فتتجلى هنا أزمة فقدان الفرق بين الداخل والخارج، حيث يفقد الشرطي والحارس والبواب معاني وظائفهم في حراسة أبوب المؤسسات والمباني الحكومية، فيجد السجناء كما المسؤولون والحكام والوزراء أنفسهم في وضع متساوٍ لا يغلق عليهم باب ولا يوجدون في الداخل، ولا باب يغلق على أحدهم فالكل في العراء المتحرر، بل صار مكشوفاً ومواجهاً لقرينه، حارساً ومحروساً، فاقدين دلالة وضعهما، ومتساويين مع بقية أفراد الأمة. بزوال المراتب والمناصب التي كانت محمية بحرمة الأبواب.

إن ازمة اختفاء الأبواب في الرواية ولدت لفيفاً من الأزمات الفكرية في النص منها:

- فقدان معنى طبقات المجتمع، والسياسة والاقتصاد، ومعنى التفوق المرتبي والمنصبي بين الساسة والشعب.

-فقدان معاني أخلاقية عدة معنها، في صورة فقدان قيمة غشاء البكارة الذي هو باب موصد بدوره، يحول بين الشرف وفقدانه، فتساوت بذلك كل النساء وفقدت العذرية معناها ووظيفتها في ثقافة المجتمع. بزوال بابها الأخلاقي الموصد في وجه اختراق الحرمة، فلم بعد للشرف هناك ما يميزه عن العار.

- خاتمة أزمة اختفاء الأبواب أنها: "ليست مسألة أمن فحسب، بل تعدت إلى مسائل أخرى (...)، فحتى اللغة مستها الفوضى كما قال ذلك الرجل الذي ظهر على لتلفاز، عارضاً قاموساً لغوياً جديداً، شطب منه كلمات كالباب، والمنفذ، والمخرج، وأفعال كالدخول والولوج والخروج، وكل ما تعلق بالباب من كلمات"(ص 135).

إن فقدان الباب في تأويلية النص قد خلق على مستوى ظاهر الخطاب (الدال) فوضى منظمة مست جميع نواحي الحياة في المجتمع الروائين وخلقت نوعاً من المساواة الظالمة التي أزاحت كل أنواع الحواجز والفوارق وفتحت كل القنوات بين المقدس والعادي، وبين الرسمي والهامشي، وبين الرفيع والوضيع. وهو وضع لا يمكن أن نراه إلا في النكبات الكبرى التي تقضي على مفهوم الدولة ومؤسساتها والعودة إلى ما قبل قانون الغاب.

وعلى المستوى الدلالي خلق فجوة تفكيكية احتمالية لما سيحدث بانهيار بوابات اجتماعية وسياسية وأمنية وثقافية واجتماعية، وضعنا الروائي من خلالها، على حواف هواجس زوالها وأفق ما سيقع عند أزوفها، ما يجعل هذه الوحدات الدالة، تمنح للنص طابعاً تفكيكياً في مستوياته الثقافية والفكرية الضمنية، أكثر من كونها وحدات دلالية بانية على المستوى الذهني الذي يشيده المتلقي بعد أن قامت الرواية بتفكيك سابق للبنى الراسخة في المخيال الجمعي في شتى مجالات الحياة خارج الرواية.

وهو ما يصنع طرفي ثنائية متضادة تجعل من دلالة فقدان الأبواب في بعدها المزيل للطبقات، تتعارض فنياً مع دلالة السلالم ذات البعد الطبقي والفئوي المتمايز.


ثانياً – المفارقات السردية وسمات السرد الفنتازي

علينا هنا أن ننتبه إلى أن لحظة إدماج الكاتب لاسمه ودوره في بطولة عمله، هو فعل قد تم خارج عملية التخييل الروائي. لأن المكاشفة هنا هي موقف معلن ومباشر. يحيل على الذات الكاتبة الحقيقية خارج النص، بيد أن لهذا السلوك وجه تخييلي يمكن أن يندمج به في مغامرة السرد إن تم النظر إليه كحيلة سردية تسمى في عرف الشعريات، بـ: [الإيهام بالواقع]، أي: ما كان ذلك إلا إيهاما للقارئ بواقعية الشخصية، خاصة وأن هذه الإشارة جاءت ومضة ختامية مختصرة وليست مؤكدة عبر سيرورة السرد، والإيهام بالواقع تقنية تخييلية كثيرة الاستعمال في عالمي السينما والمسرح الواقعيين.

ما يعني أن مستويات الشخصيات قد انقسمت إلى شخصيات رئيسية وثانوية وهامشية (بناءً وشكلاَ وتمثيلاً) وأخرى مثلها (مضموناً وتخييلاً) والمفارقة أنك ستجد الشخصية الهامشية في المستوى البنائي والشكلي رئيسية على المستوى الرمزي والسيميائي، وكلاهما يندرج ضمن الفكر السردي للنص، المبني على المفارقات. حينما تحمل شخصيات رواية السلالم شحنات رمزية متفاوتة بشكل معاكس لمستواها في سلم البطولة، فالشخصية الرئيسية (شكلياً) في هذه الرواية هي أقل الشخصيات سيميائية ورمزية كونها شخصية متخيلة، بينما تكتسي الشخصيات الهامشية دلالات رمزية أعمق تتناسب مع قيمتها الاستراتيجية في الواقع لا في السرد.

وتبدو هذه المفارقة بين المستويين (ما هو رئيسي شكلاً هو هامشي سيميائياً والعكس)، بما أن الرواية فنتازية تلقي على الواقع الحمولة الأكبر من التخييل المفترض، بينما لا يعنيها ذلك على مستوى الشخصيات المتخيلة التي لا بعد واقعي لها ومن الميزات السرد الفنتازي لسمير قسيمي:

1الوصف الكاريكاتوري الذي خص به أهم شخصياته:

- شخصية البطل (الشكلي) جمال حميدي: ذو الـ 57 سنة، مهنته نقيب البوابين، 5 سنوات من التقاعد، معطوب جسدياً مقعد على كرسي متحرك، مصاب بشلل نصفي (نصف عنّين)، بكرش ضخمة كثيف شعر الجسد، يقول الكاتب في وصفه: [كائن لكثافة شعر جسده لا يستطيع أي واحد، مهما بلغت درجة تركيزه، أن يعرف إن كان عارياً أم ل (...) الشعر الذي بدأ يكسو ذقنه، سيمتد إلى وجنتيه، ومنخريه وأذنيه، ورقبته، وصدره وسائر جسده، حتى صار المسخ الذي أصبح عليه الآن.. تصدر من جسده تلك الروائح الغريبة التي أحالته إلى ما يشبه خنزيراً وحشياً يسي على قدمين] (ص21-23).

وهذه الشخصية الخنزيرية (جمال حميدي)، هي التي وجد فيها النظام المتهالك سمات الرئيس المقبل، بحكم خبرة جمال في التعامل مع الأبواب باعتباره عميد بوابين متقاعد، أي سيد الأبواب على مدينة فاقدة للأبواب حيث تتموقع الرمزية في وظيفته: (بواب/ رئيس للبلاد). وفي صفاته المورفولوجيته (مقعد، مخصي، نصف مشلول، بواب سابق، مرشح لرئاسة مدينة بلا أبواب) لا في اسمه العبثي (جمال حميدي)، دون أن يخفى على أحد أنه يتقاطع في تلك الصفات المورفولوجية مع الرئيس الجزائري السابق بوتفليقة، دون أن يلعب دوره ويؤدي وظيفته طبعاً.

** - البطلة الثانوية حورية المكناة [أولغا]: وهي زوجة ثم طليقة البطل (المتخنزر) جمال حميدي، وهي تلك الطفلة اللقيطة التي وجدها إبراهيم بافولولو رضيعة مرمية أسفل سلالم ترولار، فتبناها دون أن يعلم من هو أبوها، حتى نكتشف فيما بعد بأنها ابنة [عصام كاش كاصي] (أحد سماسرة بقايا الذهب المهشم). أوصافها المورفولوجية لا تقل كاريكاتورية عن زوجها جمال حميدي، فبالإضافة إلى تغير لونها بسبب إصابتها بالبرص: [كانت أولغا تشبه أنثى وحيد القرن، بيضاء، بمؤخرة بحجم طاولة بيلياردو، وبصدر ضخم متدلٍّ كعنقود عنب، وكان رأسها كبيراً، بجبهة عريضة، وبعينين صغيرتين بلا رموش تقريباً، أما حاجباها، فكانا متصلين، يشبهان في الشكل جناحي طائر] (ص25).

بعد هذا الوصف الكاريكاتوري للشخصيتين الرئيسيتين، يجد القارئ نفسه بين زوجين الرجل في صورة خنزير والمرأة بصورة أنثى وحيد القرن. وهي إشارة بعيدة، ومحاكاة مقلوبة تستدعي شخصيات الرواية السياسية الساخرة "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل.

2- كاريكاتورية المصائر:

يبدو الموت لعبة مسلية، ووجبة باردة تتعاطاها شخصيات سمير قسيمي بشكل عبثي ومصادفاتي بحت (ولعبة الموت العشوائي البارد هي خاصية سردية نجها في كل أعمال سمير قسيمي منذ وفاة البطل في نهاية رواية يوم رائع للموت). ولعل موت الشخصية الثانوية: إبراهيم بافولولو في رواية السلالم، يعكس عبثية أسلوب الروائي في توزيعه لوجبات الموت الباردة بين شخصياته: [وفجأة من دون تفصيل ممل، بمجرد أن بلغ أسفل السلالم، حتى توقف قلبه ومات] (ص29). ليواصل الكاتب سرده لبقية الأحداث كان شيئاً لم يحدث، وأن الأمر لا يتعلق بشخصية هامة. كأنما بتخلصه منها بهذه السهولة، يتخلص الروائي من جهده المضني في تشكيلها، وهو الذي منح من التهيئة والبناء والتفصيل والتمهيد لوجود وحياة هذه الشخصية ما هو مكلف وباهظ سردياً.

3- النكوص السردي،(كسر أفق توقع القارئ)

وهو أسلوب من أكثر أساليب السرد الساخر القائم على المفارقات السردية عند سمير قسيمي، إذ يشرع في كل مشهد أو لوحة إلى تدبيج البناء وجمع الصفاة وتطوير الموصوف وإثراء المعلومات عنه، وفجأة دون مقدمات يكسر أفق توقع القارئ، ويخرب ذلك البنيان المُكْلِف بطريقة مفارقاتية ساخرة غير آسف عليه، وهو من سمات الترف السردي لدى الروائي الذي لا يعز عليه شيء مما بناه مهما كان مكلفاً ومرهقاً في تشكيله، وتعج رواية سلالم ترولار بهذه الانهيارات المفاجئة لمعمار النص الذي أطلقنا عليها مصطلح النكوص السردي. الذي يمكن أن نجده في شواهد كثيرة في صورة: [نقيب البوابين في البلد، وهو منصب محترم، لو لم يكن يعني في النهاية، أنه مجرد بواب] (ص19). وفي كل منعطف يصاب القارئ بخيبة مماثلة كلما على منحنى السرد وعانق المخيال لينكسر ويخيب في اللحظة التي لم يتوقعها أحد.


ثالثاً- هدم التخييل عبر المواقف المعلنة، (من الشرح الذاتي إلى القارئ السلبي)

1- عودة الأبواب وحل العقد السردية

على غير عادته (وربما هو استمرار للترف السردي ولعبة هدم ما بناه) يقوم سمير قسيمي (في رواية السلالم) بشكل مفاجئ- بحل كل عقد الرواية ومغالقها قبل اختتامها الفعلي، وفق أسلوب جمع العقدات وحلها معاً كسبيل لوضع القفلة النهائية والخروج إلى إنهاء المصائر المعلقة، لكن بأية طريقة كان ذلك الحل؟؟

-العقدة الأولى: التي يقوم الروائي بحلها هي: إعلان الرواية عودة الأبواب، لنفهم بأن مشكلة اختفاء الأبواب ليست سوى فكرة ثورية مسحت العالم من جميع مقدساته، بل ومسحت -على وجه التحديد- القداس الوهمية لمؤسسات الدولة الجزائرية في إشارة إلى قرب ثورة شعبية تطيح بكل رموز النظام الوهمي الذي وضع أبوباً سميكة بين عالمه العلوي(قمة السلالم) وعالم الشعب السفلي(سفح السلالم). فكان اختفاء الأبواب بمثابة انفتاح العالمين وزوال قداسة ذلك الهيلمان الوهمي لتلك المؤسسات الزائفة التي ترمز السلالم فيها إلى تلك الفجوات السحيقة التي حفرها ذلك النظام الأوليغارشي الفاسد بين مؤسساته وبين الشعب. وبزوال الأبواب: يقول الروائي: "يصبح الداخل خارجاً والخارج داخلاً بحيث ينصهر العالمان، ويصبحان عالماً واحداً، وهو أمر من شأنه أن يجعلنا نطرح أكثر من سؤال يتعلق بجدوى السر الذي عادة ما تحفظه الأبواب، وأعطى مثالاً بما حدث من فضائح ما كانت لتنكشف لو لم تختف الأبواب، [على غرار ما نشرته الصحف من صور غريبة لرجال سياسة محترمين في أوضاع جنسية غريبة، ولرجال دين صروا بملابس داخلية للنساء، كانوا إلى وقت قريب يُكَفِّرون المثليين، ويدعون إلى هدر دمائهم (...) ظهر لأولغا أنها أنها تعيش على مشارف عالم مختلف عن الذي عاشت فيه لعقود" (الرواية ص 163).

لتكون عودة الأبواب في نهاية الرواية، وهي عودة أبواب جديدة ومختلفة عن التي اختفت، أي: هي أبواب مرحلة يعاد فيها تأسيس وطن مختلف بمؤسسات ما بعد ثورية ناشئة تهندس في ملامحها مرحلة جديدة من التاريخ الفتي، وترسم قطيعة جذرية مع الأبواب المهترئة لتاريخ الفساد المؤسس وشرعيته الزائفة.

كأنما شكلت الأبواب في الرواية- ورقة التوت التي كانت تغطي عورات وكوارث النظام الجزائري منذ عقود، وأن زوالها هو قدر وحتمية تاريخية لابد أن تحدث، لتتلوها مرحلة مكاشفات وفضائح سياسية لنظام زائل، وهي فترة ترتسم فيها ملامح ثورة سليمة حدثت بلفعل؛ بعد صدور الرواية بأسابيع قلية (حراك شعبي 22فبراير2019)، هتكت أبواب الفساد التي تحصن بها نظام بائد، وها هي الثورة السلمية تعيد هندسة أبواب مؤسسات جديدة بعد أن خلعت بقوة القدر التاريخي للشعوب، ترسبات مؤسسات الفساد البائدة.

*- العقدة الثانية: التي يحلها سمير قسيمي هي الكشف عن هوية شخصية الكاتب الذي بلا اسم، والذي قرر في آخر صفحة أن يكتب اسمه الحقيقي على غلاف روايته الأخيرة في حاسوبه ليقرأ القرائ في نهاية الرواية داخل إطار مستطيل عبارة: "سلالم ترولار لسمير قسيمي" ب(ص165). وكأن سمير قسيمي يقول لنا بأن الكاتب الذي رافقنا طوال الرواية، وكان يكتب رواياته باسم شخص غيره، هو سمير قيمي نفسه، وأن روايته الأخيرة التي شوق القراء داخل هذا النص لمعرفة عنوانها هي نفسها ما كانوا يقرأونه من تفاصيل لأن عنوانها ببساطة هو "سلالم ترولار"، وهو ما يعني من زاوية ثالثة أنه هو بطل الأبطال الذي كان يهندس ويحكم مصائر الشخصيات ويعبث بأقدارها، رغم أنه شخصية هامشية (شكلاً) لكننا نتأكد في هذه الإشارة التي حل بها عقدة الكاتب المجهول والنص المجهول بأنه هو البطل لكن في المستوى الضمني للسرد.

*- العقدة الثالثة: التي يقوم الروائي بحلها هي: هي لغز وجه الزنجي (غريجا) المرتسم في التمثال الذي اشتراه الكاتب المجهول (المعلوم في نهاية الرواية باسم سمير قسيمي)، والمرتسم في القطعة النقدية اللغز، التي تتداولها الأيدي والأماكن طوال الرواية، ودون أن يتيح الفرصة للقارئ كي يجيب عن لغز الزنوجة المعبر عنها في الصور المتلاحقة للرواية، يعمد الكاتب بشكل مباشر ومعلن إلى الإعلان عنها وتفسيرها حسب رؤيته وكأنه يلعب دور الكاتب والقارئ، أو المجرم والمحقق في نفس الوقت، فيكشف لنا كل الأسرار المتعلقة بتوظيف هذا الرمز (الزنوجة في وجه غريجا المرتسم على القطعة النقدية) ما نعاً إيانا من أي تأويل محتمل، ومجبراً القارئ على تفسير أحادي هو تفسير الكاتب لرموزه، ودون أي تخييل او رمزية، بل في شكل تفسير وشرح مباشر قائلاً: "أدرك الكاتب الحقيقة التي جعلته يشعر سابقاً بتلك الألفة الغريبة التي طالما تملكته كلما نظر إلى ص ورة الزنجي التي اقتناها من بائع التحف القديمة... لم تنطق الصورة وقتما أصر على سؤالها من قبل.. فقط لأنها كانت صورته وصورة كل واحد في المدينة الدولة.. لم يكن هو أو أي أحد من المدينة الدولة ليسأل عن حقيقة كانوا مقتنعين في أعماقهم بها، وهي أنهم عبيد في دجولة تمتهن النخاسة" (ص223).

ببساطة هذا هو السر الدلالي الذي من أجله وظفت صورة الزنجي المتداولة في عدة جدران من الرواية، والتي أبقى عليها الروائي غامضة حتى الصفحة ما قبل الأخيرة، ليحل عقدتها دون انتظار أن يفعل القارئ ذلك. فلا تتعب نفسك أيها القارئ فقد قام الروائي بحل عقده وتفسير رموزه بدلاً عنك. وكأن الروائي بقراءته وتفسيره الذاتي لرموزه وعقده يريد قارئاً سلبياً ليس عليه أن يرى غير ما يراه هو، وأحسب أنه حقق ذلك. لأنه لم يترك في نصه أي فسحة للتأويل، أو لمشاركة القارئ في منحه قراءة مختلفة. بعد غلق أبواب التفسير القرائي بالشرح الذاتي للكاتب/القارئ.

2- الخروج من التخييل الفنتازي إلى التقرير الصحفي

بعد زخات كثيفة من السرد الفانتازي الرمزي المغلف بالإيحاءات والجسور المجازية التي تمير أسلوب سمير قسيمي الذي عهدناه في روايات سابقة: [الحالم - حب في خريف مائل - هلابيل بجزئيها] تفاجئنا رواية السلالم بنزول رأسي مفاجئ إلى السرد التقريري بين الفينة والأخرى، فيشعل القارئ بجراحات ذلك الخروج المفاجئ من التخييل الفنتاستيكي والوصف الكاريكاتوي، إلى شارع الواقع، بأسلوب التقرير المقالي الصحفي، حين تدخل الرواية في مكاشفات غير تخييلية تماماً، نشهد الروائي فيها وهو يزيل –في غير تبرير فني- غشاوة التخييل والروائية عن عمله، ويصرح بآرائه التحليلية للوضع السياسي في أكثر من مناسبة كأن يطرح مطالب اجتماعية في عمق حكاية رمزية في مثل قوله: [ظهر أناس يدعون إلى أشياء غريبة –كانت إلى وقت قريب جداً شبهة خطيرة تستحق المحامكة- دعوا إلى إعادة النظر في قوانين المدينة الدولة... تبني فكرة مجتمع طبقي ل رب فيه ولا وريث يدعي امتلاك الثورة- مجتمع مشكل من أفراد يولدون بحقوق، تسمح لهم بتشكيل حكومة يختارونها، يعد أعضاؤها موظفين لديه، بعد أن الشعب صاحب الإرادة العامة التي تعني مجموعة القيم والأخلاق المشتركة والقوانين العادلة التي تجعل الجزائري إنساناً برتبة مواطن، وأن هذه الرتبة أكثر قيمة من أي رتبة عسكرية أو سياسية مهما كانت. وهي الرتبة الضامنة للحق الطبيعي في الاختلاف اللساني والعقائدي والايديولوجي]. (ص80).

وقد تساءلت كقارئ عن مصدر هذه اللائحة من المطالب السياسية و المدنية، وعن جدواها ومبرراتها في نص تخييلي بطابع فانتازي؟؟ وتركت الأمر معلقاً. ويتعزز هذا الأسلوب التقريري الصحفي، عند تصوير شخصية هامشية هي: الرجل الزومبي صاحب القامة القصيرة، وهي صورة واقعية مباشرة لا إيحاء فيها ولا ترميز يدرك أي قارئ مهما كان مستواه أن المعني بها شخص الرئيس السابق الذي يظهر تارة على أنه الرجل الزومبي (الذي لايموت- أو المنبعث من تحت الأنقاض) بكل أوصافه الواقعية :[توقف تناحر الفصائل، وتشكلت تحالفات سرية بينها وبين آلهة الدرجة الثانية المتحصنة في قصر الحكومة، حتى أنه ولأول مرة منذ رحيلها خلف البحر ظهرت الألهة الفارة مع زعيمها "الزومبي" تناشد الشعب العظيم بتوخي لحيطة والحذر والتعقل]. وتارة أخرى يشير إلى المسؤول العسكري الذي يعين الرؤساء ويعزلهم، (لعله الجنرال توفيق الذي يدعوه الشعب رب الدزاير). بصفاته المورفولوجية المعلنة: [في الحقيقة كان الرجل الضئيل وراء كل ما يحدث في مسألة تتعلق بالحكم، وكان هو من دفع الفارين وراء البحر إلى الاستقالة بعد أن تيقن أن المرحلة القادمة ستختلف عما سبق، بحيث يحتاج الشعب إلى رجل يشعر أنه منه، وكان جمال حميدي هذا الرجل بلا شك]. (ص137).

ومهما قلنا عن المكاشفة الأدبية التي يكاد فيها الروائي أن يذكر الشخصيات السياسية المقصودة بأسمائها، فإن التسميات الرمزية لها في الرواية (الرجل الضئيل، الرجل الزومبي)، لم تكن إلا ترفاً لغوياً لا يكاد يغطي شيئاً من مقاصد الروائي أو مواقفه الصريحة المعلنة التي أقحمها بطريقة تقريرية فجة في مساق السرد الفنتازي الذي يسم 90%، من فضاء الرواية.

بالإضافة إلى ترف آخر أكثر بروزاً وهو حل الكاتب لجميع عقد النص قبل ختامه، بطريقة تلقينية ذاتية، قبل أن ينتظر من القراء أن يفعلوا ذلك. وهي من الخرجات الأسلوبية التي تحاول اختراق ما يسمى ببصمة الكاتب، أو سجن النمطية التي تجعل عملاً ما من أعماله جنيساً لأسلوبية سابقيه.

ولعل هذه هي خصيصة الغاية السردية للروائي، التي يريد من خلالها ألا يكون مشروعه السردي متماثلاُ في الأفكار ومتناسخاً في الرؤى، بل أن يقدم للقارئ في كل عمل سردي فكرة جديدة بأسلوب جديد، من العبث أن نحاول مماثلته بنص سابق له. وقد عز في هذا الزمن الذي لم يخرج فيه روائيون كُثُر عن توليد فكرة أو موضوع جديد، وعجز فريق آخر عن الخروج من رواية أزمة التسعينيات، أن نرى كاتباً في تجريب مستمر يقدم في كل نص فكرة جديدة وأسلوب جديد حتى وإن كلفه ذلك بعض التخريب الذاتي من البناء والهدم.

ورغم ذلك، فلا يخفى في نهاية قراءة هذا النص بأنه ليس نصاً جديد التأسيس على اٌطلاق، بل تبرز بين ثناياه ومفاصله آثار نص سابق تم هدمه، وبناء هذا النص (سلالم ترولار) على أنقاضه، لكن آثار النص الأول لم تختف تماماً، أو أن الروائي عجز عن إخفائها وإزالة ركامها المهدوم، ولعل بقايا النص الأول المنهار، هي التي سببت بعض الاضطراب في النسق التخييلي الذي لم يستطع الكاتب الحفاظ عليه، فانزاح إلى التقرير والمباشرة في إعلان مواقف غير سردية ولا تخييلية في صلب المتخيل السردي. في رواية تحيط بها الأبواب التي تخفي وراءها السلالم. وهما عماد هندسة السرد في هذا النص، الذي كانت بطولة العنوان فيه للسلالم، بينما بطولة المتن للأبواب، أما بقية الشخصيات فقد حملت إلى القارئ وهماً بالبطولة.


*- محمد الأمين بحري (ناقد وأكاديمي جزائري)

----- ------

سمير قسيمي، رواية سلالم ترولار، منشورات المتوسط، ط1، 2019.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم