في البدء لابد من الاعتراف بأن عنوان المقالة يضيق كثيراً بمضمون الكتاب وأسلوبه الشيق، وهذا يحدث معي في كثير من المقالات، ولذا سأتجاوز أهمية العنوان بتقديم شكر وامتنان عظيمين للأستاذة محبوبة خليفة على تواصلها معي معبرةً عن سرورها وسعادتها بتعليقٍ قصيرٍ كنتُ قد كتبته حول استضافتها في حوار أدبي عبر الانترنت، أشرتُ فيه إلى إدراجاتها ومقالاتها المتسمة بعذوبة مفردات لغتها وأسلوبها السردي والشعري الرقيق الذي يعكس قدرةً ومهارة ًفي تطريز جمل تعبيرية تستوطن القلب دون استئذان.

لقد نال ذاك التعليق الذي حظي برضاها وإعجابها مكرمة وهديةً قيمةً منها تمثلت في إرسالها نسخة من روايتها الجميلة الأولى (كنّا وكانوا .. روايتي) التي سعيتُ طويلاً لمطالعتها رغبة في التعرف على بعض جوانب صمودها وتضحياتها ومعاناتها كزوجة وأم خلال محنة السجن الطويلة التي تعرض لها زوجها صديقي العزيز الدكتور جمعة عتيقة، الذي حلَّ بتاريخ 28/12/2010م ضيفاً على حلقة من حلقات برنامجي التلفزيوني المرئي (المشهد الثقافي) في حوار أعتبره حينها من أخطر الحوارات الأدبية السياسية القانونية التي بثت وحظيت بانتقادات وتفاعلات عديدة من المشاهدين.

ولما كنتُ أعرف بعضاً عن معاناة الزوج سواء في المنافي العديدة التي أرهقت قلبه، أو بين وحشة السجن وقضبانه لسنوات طويلة، ومدى رهافة مشاعره الإنسانية وأحاسيسه الجيّاشة التي تطوقك بالمحبة منذ أول مصافحة يهديها إليك بنبضات قلبه وليس بملامسة يده، كما حظيتُ بكرمه حين أهداني مقدمة لكتابي (طرنيش في القلب)، وتشاركتْ دموعي ودموعه في جلسة انتشاء وجداني باذخة، حلقت فيها روحانا بهجة وإمتاعاً في أمسية للشاعر الكبير مفتاح العماري ... فقد كنتُ أسيراً لسؤالي الدائم يا تُرى ماذا عن معاناة الزوجة طوال غيابه؟ وقدرتها على تحمل الفراغ والبعاد وأعباء ومسئوليات الأبناء؟ ومواجهتها لنظرة المجتمع لها باعتبارها زوجة سجين سياسي طارده نظام معمر القذافي داخل وخارج ليبيا كثيراً؟

(كنا وكانوا) رواية قدمت لي بعض الإجابات لتلك الأسئلة القديمة، كما كشفت جوانب أخرى لعل أبرزها أن عشق الوطن والأدب والشعر في هذه العائلة غير مقتصر على الأبوين الكريمين فحسب، بل هو ميراث إنساني له امتداد أسري، والدليل على ذلك ها هي الإبنة البارة ريما جمعة عتيقة تهدينا نصوصاً وسيرة ًما كان لها أن تظهر للمشهد الأدبي والثقافي لولا تشجيعها وتحفيزها وحتى استفزازاتها اللذيذة ربما أحياناً لوالدتها الكاتبة وحرصها على تعميم المعرفة ونشر هذه السيرة الحافلة بالقيم الإنسانية المتأسسة على الوفاء والعطاء والصبر على المحن والمحبة والفن، وهي في ذلك تستعير من ديوان الدكتور جمعة عتيقة (سيرة الألم) الكثير من المشترك، وتلظم عقوداً فواحة بالرياحين الدرناوية والطرابلسية المتناغمة عبر أضمومة جامعة تكرس عناصر منهج المنظومة الدفاعية والحياتية المعاشة للإنسان وهي المحبة والثقة والتحدي والمثابرة والأمل.

(كنا وكانوا .. روايتي) أبانت لنا في أولى صفحاتها عن كاتبة أخرى في العائلة وهي الإبنة التي كتبت بلغتها الأدبية السردية الرشيقة السلسلة مقدمة تصور مشاهد لبعض أجواء وطبيعة الحياة للأسرة سواء في ليبيا أو خارجها في روما وبغداد عندما كان الوالد (عمو الجامعي) مطارداً من قبل عناصر التصفية الجسدية، وتشرح قصة البدء في كتابة ومن ثم صدور كتاب والدتها (كنا كانوا .. روايتي) فتقول: (... كتابها هذا بدأ ببوست أو منشور على الفيس بوك بعنوان "كنا وكانوا" .. ألحيتُ عليها أن تشارك قصتها مع أحبائها وأصدقائها .. ثم مع مرور الوقت، أصبحت هذه اليوميات محور حياتنا .. أجلس معها صباحاً لنستعرض ما كُتب وما سيُكتب وتفاعل من قرأ .. يصل صوت أختي عبر الفايبر مشجعة ماما على كتابة المزيد .. ويتصل إخوتي تباعاً يحثونها على عدم التوقف! يطلب مني بابا طباعة ما قد كتب، ينزوي قليلاً لركن القراءة المفضل لديه ليعود بعد قليل مُبدياً ملاحظاته أو مكفكفاً دمعاً نزل تأثراً .. ثم جاءت الفكرة .. ماذا لو تحولت هذه اليوميات إلى كتاب .. بلا تعديلات ! كما هو، يوميات الفيسبوك في صورة كتاب .. مع تجميع بسيط لبعض التعليقات والصور .. فكان الكتاب!)

وتختم ريما جمعة عتيقة مقدمة كتاب والدتها الأستاذة محبوبة خليفة بيقين واثق فتؤكد تميز الكتاب السيرة/ القصة قائلة: (أعرفُ أن قصة والدتي مختلفة ... لذلك شجعتها على نشرها .. تجربة غنية وفريدة وأعتقد أنها تستحق القراءة والاحتفال بها ..)

أما صاحبة السيرة والدتها الأستاذة محبوبة خليفة فهي تقول (كنتُ أتساءلُ دائماً هل فيما عشته من عمر ما يستحق التدوين؟) وتجيب (بالطبع لم يكن موضوع الاعتقال هو الوحيد .. لنقل إنه أصل الحكاية، غير أن في هذه الحياة الكثير مما يحكى. لنقل إنه سرد لحياة شابة خرجت من مدينتها الصغيرة "درنة" لتواصل تعليمها الجامعي فأخذتها الحياة في متاهاتها الكثيرة والمتنوعة بين فرح وزعل وبين بهجة وترقب كما حياة الناس في هذه الدنيا الطيبة الجميلة.) وبهذه الروح المسكونة بالهدوء حد الغياب والرصانة الفكرية المؤمنة بالله والواثقة بقدرتها على المساهمة والمتطلعة لمستقبل أبهى للأبناء والأحفاد والأجيال التالية توثق محطاتٍ منتقاة بكل عناية من سيرتها الذاتية وتجربتها الخاصة التي بلا شك تكتسي أهمية ثرية بالغة بالنسبة لها، وربما يجد فيها أخرون الكثير من الدروس المستفادة.

وحول اختيارها للعنوان تقول الأستاذة محبوبة خليفة (أما لماذا هذا العنوان "كنا وكانوا" فهو كان لابد أن أعتمده عنواناً لسيرتي وأنا العاشقة للسيدة فيروز والمرددة دائماً لأغانيها في استراحات ما بين الحصص في مدرستي "الزهراء" بدرنة أو بين ردهات بيت الطالبات ببنغازي وكنتُ عادة ابتدئها بموال جميل لأغنية جايبلي سلام (كنا وكانوا هالبنات مجمعين .. يمي وما بعرف ليش نقاني أنا).

وحين مرت عيناي على عبارتها (وهكذا تجمعت لدي مادة جيدة استعرضتُ فيها مراحل عديدة من حياتي بعد خروجي من درنة للدراسة في بنغازي وحتى يوم خروجي مع ابنتي وحفيدتي أحمل علم بلادي أجوب شوارع طرابلس محتفلة من الناس بهذا التغيير الذي أردناه لبلادنا خيراً ولكن كان لغيرنا رأي أخر) لاحت لي منذ الفصل الأول المعنون (من درنة إلى طرابلس) صورة الطالبة الدرناوية النقية الحسناء كنقاء ساقية درنة بزلال مياهها الجارية الرقراقة، والمكتنزة ببهاء المدينة الساحرة، المقيمة في بيت الطالبات بمدينة بنغازي، متمثلة أمامي إحدى بطلات رواية (يومياتُ زمن الحشر) للدكتور صالح السنوسي، وبقيتُ أتابع السيرة طوال فصولها التسعة والخمسين التي نسجتها الكاتبة الأستاذة محبوبة خليفة، أو كما صرّحت باسم الدلع (احبيّب) الذي تنادى به، وأنا أرسم بخيالي وأعقد بفكري العديد من المقارنات بين الشخصيتين الجميلتين والزمنين المختلفين عبر العديد من الأمكنة والظروف السياسية التي مرت بها بلادنا ليبيا الحبيبة.

(كنا وكانوا .. روايتي) إضافة ثرية بقلم كاتبة ليبية تملك تجربة زاخرة بالحياة في شتى صورها ومعانيها من خلال معايشتها التنوع الاجتماعي والعائلي والثقافي والسياسي والمكاني، ورصد تفاصيله الدقيقة عبر محطات مليئة بالمكابدة، وتوظيفها لتكون رسالة توثيقية مسجلة بصوت نسوي يبرهن على مهاراته في السرد المشوق والإبداع الأدبي عامة في نشر المعرفة والمحبة والجمال ليس فقط لإسكانها صفحات التاريخ بل من أجل توطينها بأعماق ووجدان الناس ونفوسهم التواقة للمحبة والصدق والبهاء.

وتوجهنا رواية (كنا وكانوا .. روايتي) للاهتمام بكل الأفكار التي نظنها في البدء ساذجة أو بسيطة ولا تستحق الاعتناء، إلاّ أن الأيام تثبت عكس ذلك تماما، فهذا الكتاب (كنا وكانوا .. روايتي) صدر من خلال فكرة بسيطة ولدت أثناء هدرزة أو دردشة وسط جلسة عائلية داخل البيت بدأت بإدراجات على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك سرعان ما نمت وتطورت وترعرعت الفكرة حتى صارت كتاباً يحمل اسماً وأحداث وذكريات وشخصيات ومواقف، وهذا شبيه كذلك بعمل الأستاذة عايدة الكبتي التي داومت على تدوين خربشاتها على الفيس بوك ثم جمعتها مؤخراً وأصدرتها في كتاب يضم معلومات توثق لحوالي مائتي سيدة ليبية صدر بعنوان (رائدات ومتميزات ليبيات)، وأيضاً كتاب (افيكوات) الذي تضمن الإدراجات اليومية للصحفي الأستاذ جمال الزائدي أثناء استعماله صباح كل يوم سيارة الأجرة (الأفيكو) للوصول إلى مقر عمله... وغيرهم كثير كثير.

جاء كتاب (كنّا وكانوا .. روايتي) حديقة غناء بالعديد من الأسماء والأحداث والأماكن التي توزعت بين ليبيا وروما والكويت والمغرب والأردن والعراق والقاهرة، ووثقت لشخصيات سياسية ووطنية ليبية وفنية مثل الأستاذ محمد عبدالمطلب الهوني والراحل منصور الكيخيا ومحمد عثمان الصيد وعائلة قدح، والفنان المطرب محمد السيليني، والممثل عياد الزليطني، والراحل الرائد عمر المحيشي، وأخرى عربية مثل الدكتور سعدون حمادي نائب رئيس وزراء العراق، والرئيس المصري أنور السادات، واللبناني إيلي حبيقة ودوره في أحداث مجزرة صبرا وشاتيلا، والمافيا الايطالية واغتيار رئيس الوزراء ألدو مورو، والشعراء محمود درويش وعبدالحميد البكوش وعلي الرقيعي ونصوص الكاتبة نفسها باللغة الفصحى أو العامية واقتباسها من كتاب زوجها (السجن والغربة)، والأديبة الاماراتية ميسون صقر القاسمي والمطربة لطيفة العرفاوي والأديب الليبي الأمريكي هشام مطر وروايته (بلد الرجال) وصديقة الأبناء الشابة تاليس وجدي عقيل وغيرها كثير من الأسماء والأحداث الطريفة والمواقف والتي ليس أقلها رحلة كسكاس المطبخ من ليبيا إلى يوغسلافيا ثم البرازيل فالكويت وأخيراً إلى العراق!! ولا حتى مشاغبات الأطفال وصناعة أشكال من الفرح الحزين في ديار الغربة القاسية.

وهذا بلا شك يجعلنا نقر بأن (كنّا وكانوا .. روايتي) ليست رواية أدبية خيالية بقدر ما هي قصة إنسانية واقعية إزادنت بالوصف الجميل الممتع وتجملت بالسرد وتباينت فصولها بين العاطفي الوجداني وما يعتمره من محبة وأحلام وأمن وسلام، والسياسي وما حمله من تهديد ورعب وخوف وقتل تحت مسمى التصفية الجسدية. وقد سيطر السياسي على الأدبي في هذه الرواية منذ إلقاء الزوج المتخرج حديثاً من كلية الحقوق محاضرة حول الشخصية الليبية في سنة 1973م بمدينة بنغازي مما عده النظام العسكري آنذاك استذكاراً وتأييداً لفكر ملكي تبناه رئيس الوزراء الأسبق عبدالحميد البكوش رحمه الله من خلال موقفه الوطني المعارض لمصادرة الشخصية الليبية الوطنية على حساب الهوية القومية الفضفاضة. وتمادى نظام القذافي في تأويل تلك المحاضرة واعتبارها استرجاعاً لأفكارٍ رجعية، خاصة وأن المحاضر كان له أخ وزير سابق في العهد الملكي وهو الدكتور علي عتيقة، كما أنه دافع عن الضباط والعسكريين الذين قاموا بمحاولة اسقاط النظام، وتم وفق كل هذا تصنيف الزوج في خانة الأعداء والمشبوهين، وبدأ التضييق عليه والملاحقات ضده التي كان أولها اقتحام شقته في بنغازي والقبض عليه، ثم مواصلة تتبعه وملاحقته حتى في المنافي خارج الوطن لسنوات طويلة، والزوجة الكاتبة بلا شك لم تكن في منأى عن هذه القلاقل أو بعيدة عن التهديدات، ولكنها استطاعت بصبرها وفطنتها أن تصل بسفينة أسرتها إلى بر الآمان وتحفظ كيانها وثباتها برجاحة عقلها وتغليبها الموضوعي والعقلاني على العاطفي والشخصي.

إن كتاب (كنّا وكانوا .. روايتي) لمؤلفته الأستاذة الكاتبة محبوبة خليفة رغم مأخذنا عليه من حيث كثرة الأخطاء النحوية وعدم مراجعته قبل نشره، وذلك كما أزعم ولا أبرر، نتيجة الابتهاج بانجازه السريع خلال أشهر قليلة وإصداره عبر دار نشر عريقة، فإنه يظل يغمرنا بلذة وأسلوب الحكي والسرد الممتع الممزوج بصدى مفردات اللهجات الدرناوية والطرابلسية وكلمات الأغاني الطربية الرقيقة والمواويل الشعبية وأسئلة المونولوج الداخلي المدوية والنصوص الشعرية، ويبعث فينا تحسراً مريراً على ماضٍ مكلل بالبهاء والمثابرة والجمال، كما ينثر في أعماقنا بهجات عديدة تختلط أحياناً بسيول دمع غزيرة، تجعلني موقناً أن كتابة هذه السيرة ونشرها أضافت عمراً إلى عمر كاتبتها، وشباباً آخر إلى شبابها وروحاً متدفقة بالشوق لتلك الذكريات وعيشها من جديد، كما أنه بكل ذلك يعلمنا الكثير من الدروس في التعاطي مع الواقع، ويقرع رؤسنا لنزع الكسل عن العقول التي بداخلها والسعي لاحتضان الحياة بقلب وفكر وقلم .. ورسم كلمات يعبق بها الياسمين في فضاء الكلمة وتنتشي القلوب وتهفو النفس الساردة إلى .. مزيد وهي تبوح بمعاناتها وسيرتها قائلة (يا إلهي أين أنا؟ وانحدر الدمع وتاهت النفس ووقف البدن حائراً، في أي اتجاه رَمَتْكِ الريح أيتها العالقة بين المسافات والمدن؟).

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم