رغم كل محاولاتها للتجاوز والفرار من الأقدار الصعبة التي تلاحقها تبدو بطلة رواية "فوق رأسي سحابة" محكوم عليها بتلك النهاية الصعبة التي لا تختلف كثيرًا عن حياتها التي لاقت فيها كل الآلام والصعوبات، حتى بدت حياتها مهددة، ولكن من أي شيء، فلتستسلم في النهاية لذلك القدر الأقوى من كل محاولات التصدي والمواجهة! 

في روايتها الجديدة "فوق رأسي سحابة" الصادرة عن دار العين مطلع هذا العام ترسم الروائية "دعاء إبراهيم" باقتدار عالم بطلتها رئيسة الممرضات "نهى" التي تعاني من ملاحقة ماضيها القاسي، وصعوبة حياتها بين أمها وجدتها على السواء، لتذهب إلى والدها الغائب هناك في أبعد مكان يمكن أن تصل إليه في "اليابان" حيث ذلك المكان الذي يختلف جذريًا عن حياتها في مصر، أشخاصٌ يبدو عليهم الالتزام بالنظام الصارم والتقيد به بشكل مبالغ فيه، هناك حيث تكتشف عالمًا آخر مغايرًا جذريًا لكل ما نشأت وعاشت عليه، إلا أنها لا تتمكن من النجاة أيضًا، يلاحقها القدر وتتورط في جريمة قتل لم ترتكبها فعلاً، ولكن القارئ يعرف أنها ارتكبت غيرها الكثير! 

((نظرت إلى السواد الذي حط على عالمي في اليابان، لماذا لم يمت في مصر مع كل الذين ماتوا؟! أم أن أمثاله لا يموتون بهذه السهولة؟ يخبرني فقط بمن سيموت ومن سينجو. أحقن جزءًا صغيرًا من الدواء الشفاف وأخرج قبل أن يُبهت المريض العجوز ويغيب، حين يصبح تحديدًا عند حافة الهاوية يهتز جسده اليابس وهو يحاول بكل ما يملك ألا يسقط. وقتها ينقر الغراب رأسي لأعود إلى الحجرة وأضغط الجرس الذي ينذرهم بخطورة الأمر .. يجتمع الطاقم محاولين إنقاذ المريض))

يحضر الغراب في الرواية منذ سطورها الأولى، وكأنه نذير الشؤم وداعي الخراب يخبرها بموتها، فيما كانت تستدعيه الراوية/البطلة طوال الوقت لكونه يعرفها على من سيموت من ضحاياها، وكأن ثمة صداقة غير مرغوب فيها نشأت بينها وبين ذلك الغراب، ومهما حاولت الهرب مه يلاحقها كظلٍ لا مفر منه، ذلك الغراب الذي يستحضر بطبيعة الحال حادثة الموت الأول في تاريخ البشرية يوم كان الغراب دليلاً لقابيل القاتل الأول لكي يدفن جثة أخيه المقتول هابيل، هكذا يحضر الموت الأول، ورموزه الغراب وقابيل ليشاركا بطلة الرواية عالمها، فالأول يبدو كدليل على الموت، فيما يأتي الآخر كوسيلة لخلاصها، ولو بالخيال، من ذلك الواقع المأزوم! 

تنتقل الرواية بسلاسة من خلال تقنية تيار الوعي بين ماضي البطلة وحاضرها، لتكشف لنا شيئًا فشيئًا عما عانته من مشكلات ومصائب في ماضيها القاسي، فنتعرف على ذلك الخال المتحرش الذي ينتهك فتاة صغيرة مستغلاً غياب أبيها وانشغال أمها، حتى يقوم باغتصابها بالفعل، فيما تسعى الفتاة ثم رئيسة الممرضات فيما بعد لمحاولة العيش بسلام سواء في ظل الجدة أو الأم التي تفقدها مع تكرار زيجاتها، بل وتفقد معها كل معاني الأمومة، لتتحول إلى أحد أسباب كراهيتها لذلك العالم وذلك الدور المحكوم عليها سلفًا، حتى ينتهي بها الأمر لقتل تلك الأم بالفعل من خلال موقعها داخل المستشفى كممرضة، لتتحول ملاك الرحمة إلا أداة للقتل الرحيم، مع أكثر من ضحية وبنفس الطريقة! 

(( لماذا أبعدت قابيل عني؟! ألا يكفي ما نحن فيه من عذاب، نبذه الجميع حزنًا على هابيل، الشاب الطيب الهادئ، لم يرفع عيتيه نحو جسدي، ألفته زاهدا في وفي الدنيا، أما قابيل فكان له عينان عاشقتان تغمزان لي فأنصهر داخل ابتسامته المرحة، أحببت شقاوة قابيل، عينيه الرابضتين خلف جسدي، جموحه حين يهبط الليل فيتوارى عن الجميع ويتسلل إلى مخدعي، أحس لمساته على جروحي الطازجة شفاء.. يخطفني من الدنيا أو لعله يغمسني فيها مرددة خلفه "زدني"))

رغم ما في الرواية من آلام وسوداوية وقسوة، تأتي اللحظات الخاصة التي تتخيلها بطلة الرواية وعلاقتها بالقاتل الأول "قابيل" وكأنها بمثابة هدنة بين ما تقابله في واقعها من صعوبات، لاسيما بعد انتقالها إلأى اليابان، ومواجهة ذلك الأب الذي يبدو غير مبالٍ بشيءٍ فقد أصبح ياباني أكثر من اليابانيين على حد تعبير البطلة، ثم تأتي رفيقة حجرتها "تومودا سان" بحكايتها ومأساتها، لتضيف إلى مشكلاتها مشكلة جديدة، بل وتورطها معها حتى بعد انتحارها! 

تحكم الساردة قبضتها على بطلتها وحكاياتها، وتأخذنا معها داخل السجن الذي تقضي فيه فترة عقوبة قبل الحكم النهائي عليها، تطلعنا الكاتبة على خلفيات ومعلومات قد لا يعرفها القارئ العربي عن السجون هناك، وكيف يتم التعامل مع المتهمين، ولا شك سيتذكر  القارئ حينئذٍ أن ثمة إهداء متروك في بداية الرواية لملاكم ياباني بقي في السجن 48 عامًا بتهمة القتل حتى حكم ببراءته في النهايةّ! 

هكذا تبدو الرواية وكأنها ترثي الإنسانية في عالم اليوم كلها، تلك التي غابت عن الجميع وسط صراعات بحث كل فردٍ عن نجاته الخاصة، ترثي البسطاء والمهمشين الذين لا يملكون أصواتًا ويفقدون أقادمهم (على حد تعبير الكاتبة) فيصوغون من مأساتهم أجنحة، علهم يستطيعون من خلالها أن يتركوا أثرًا ينبه القادمين من بعدهم أن المشكلة لم تعد في المكان وإن تغيّر وفي البلدان وإن تبدلت بل في الإنسان أصلاً، الذي نسي إنسانيته وتوحش فلم يعد يحركه القتل ولا الدماء، ولا آلاف الأبرياء سواء كانوا داخل جدران السجون أو خارجها! 

تجدر الإشارة إلى أن "فوق رأسي سحابة" هي الرواية الرابعة لدعاء إبراهيم، سبقتها "حبة بازلاء تنبت في كفي" الحاصلة مؤخرًا على جائزة الخطلاء الأدبية  للرواية، و"ست محاولات للهو" الحاصلة على جائزة غسان كنفاني للرواية عام 2021، كتبت مجموعتين قصصيتن وصلت "جنازة ثانية لرجل وحيد" للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية 2015. 



0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم