"مبني للمجهول.. نقطة من أول السطر": المسنون بوصفهم خزائن الحكمة والذاكرة
صدر للشاعر والروائي الكردي السوري هوشنك أوسي حتى الآن ستة أعمال روائية. ولأنني قرأت أغلبها ومطلعة على عوالم وطرائق الكتابة الروائية عند أوسي، لاحظت أن "يان دو سخيبر" الكاتب والشاعر البلجيكي الذي اختفى في ظروف غامضة في رواية هوشنك "حفلة أوهام مفتوحة" (دار سؤال – بيروت 2018)، ظهر في روايته الجديدة "مبني للمجهول.. نقطة من أول السطر" (دار الزمان – سوريا 2024)، ليوقع يان روايته الجديدة متحدثاً عن القلق والأرق المتجدد مع انتهاء أي عمل روائي، ومنها أحاسيسٌ بلاجدوى ما كتبه، مشبهاً نفسه بالمقامر الذي يخسر دوماً، ويبقى متعلقاً بتلك الرغبة التي لا تنتهي. بالتالي اختفاء شخصية روائية في رواية ما وظهورها ولو بشكل خاطف في رواية أخرى للكاتب نفسه، والفاصل الزمني بين الروايتين ست سنوات (بعدد روايات هوشنك) هذا الأمر أثار انتباهي وفضولي لمعرفة السبب الذي يقف وراء ذلك؟ هل هي لعبة روائية أم تقنية أو محاولة اختبار لذاكرة القراء والنقاد الذين يتابعون تجربة هوشنك أوسي الروائية؟
في "مبني للمجهول" البطل الأول الكاتب يان يوقع روايته في معرض للكتاب، بطل هذه الرواية صحفيٌ شاب فكر بكتابة تحقيقات صحفية عن دارٍ لرعاية المسنين، وتحولت هذه الرغبة إلى فكرة كتابة رواية، فيقوم بإجراء حوارات مع نزلاء إحدى الدور في مدينة أوستند البلجيكية، حيث يستمع لقصصهم وتفاصيل حيواتهم ومغامراتهم، لتكون مواداً شيقةً لروايته. بالتالي نحن فعلياً أمام ثلاثة رواة في رواية واحدة، هوشنك أوسي مؤلف العمل - يان دو سخيير الكاتب البلجيكي المفترض - توم فان ليندين الصحفي الشاب الذي يكتب روايةً عن دار المسنين ضمن هذه الرواية.
كما ذكرت أعلاه؛ قرأت للكاتب والشاعر هوشنك أوسي "وطأة اليقين" و"حفلة أوهام مفتوحة" والأفغاني سماوات قلقة" و"كأني لم أكن"، وسبق أن ناقشتُ الكاتب مرتين، الأولى في هولير ضمن فعاليات "نادي المدى للقراءة"، والثانية ضمن ندوةٍ لمناقشة أحد أعماله عبر تطبيق الزووم، وجرى الحديث حول التفافةٍ وفكرةٍ بارزةٍ توحد أعماله الروائية، وموضوع الثورات وإفرازاتها الحاضرة في كل رواياته التي قرأتُها، تلك الحرب التي وصفها في إحدى رواياته بأنها "عمياء مهما حاولت الايديولوجية تجميل قباحتها وقذارتها" ولم أقصد هنا أن الكاتب يكرر نفسه أو يعيد صياغة ما أبدعه، بل هو على النقيض من ذلك، بوصفه كاتباً مجتهداً متجدداً، يجدِّد في أفكار رواياته ويحمَّلها طاقة إبداعية ملفتة، وأشعر به يؤسس لنفسه منحىً خاصاً به، وهو الابتعاد عن السهل التقليدي وعن الرواية التي يمكن تسميتها أحادية الوجهة والتي تمضي أحداثها في خط أفقي ممتد، فهوشنك أوسي يمسك بيد القارئ وليس أي قارئٍ، بل العنيد المثابر ليقول له: هذا عملي الذي أتعبني فلا ضير أن تتعب بدورك في القراءة، ما دامت العملية الإبداعية تشاركية بين المبدع والمتلقي.
في رواياته التي قرأتها سابقاً وفي "مبني للمجهول - نقطة من أول السطر" التي انتهيت من قراءتها مؤخراً، كمٌ كبيرٌ من الأسماء والشخصيات والتواريخ والأحداث السياسية والبلاد المتباعدة مسافةً، المتقاربة في ربط المصائر والأحداث وتشابك الشخصيات، والموقف الذي يأخذه من الحرب باعتبارها الكارثة الإنسانية التي جردت الإنسان من إنسانيته، من خلال التحدث عن ماضٍ مجبول بالحروب والنزاعات والتفاصيل المؤلمة والمغيبة، ولا أنكر أن بعضها دفعني لإعادة النظر التاريخي في الكثير من المرويات والأحداث، كما تسردها الشخصية المسنة الأولى التي يلتقيها توم في دار المسنين، هذه الشخصية التي اعتبرتها مفصليةً في الرواية كغيرها من نزلاء الدار، فكلُ نزيلٍ سلك خطاً مغايراً جغرافياً ومعرفياً، ولكن المؤلف أجاد تشبيك الأحداث وربط مصائر الشخصيات ليحمل القارئ حمولةً تاريخية وسياسية كبيرة. وبرأيي الرواية الناجحة، هي التي تخلق الأسئلة في رأس القارئ، وتجعله مسكوناً بالشك والبحث الموازي لعملية القراءة، ليلمَ بتلك الحمولة المعرفية جيداً التي حصل عليها من الرواية. وأعني الرواية التي تدفع القارئ إلى المزيد من التحري والبحث والاستقصاء... عبر القراءة مرة أخرى. وهذا يدل على سعة ثقافة هوشنك أوسي وعمق فهمه السياسي، ومحاولة البحث عن الثغرات في السرديات التاريخية، وإذا لم يجدها يختلقها، وربط كل ذلك بالحاضر، فكل حرب تترك رواسبَ ويلاتها التي تتوارثها الأجيال وتبقى تسمم المجتمعات والأفراد.
العجوز ماريكه بيترس التي غيرت حشرةٌ حياتها فصارت معاقةً مقعدة، سردت أحداثاً حقيقةً مطعمةً بخيال هوشنك أوسي. فتتحدث عن الضابط البلجيكي المشرف على عملية إعدام الرئيس الكونغولي لومومبا وبعض الحقائق التاريخية وإن تدخل بها الخيال الأدبي، لكن تبقى الأفواه فاغرةً أمام هول بعض التفاصيل، حيث أن الكونغو التي مساحتها عشرات أضعاف بلجيكا، كانت من الممتلكات الشخصية للملك البلجيكي، وذلك في ظل صمت الكنيسة. بالإضافة إلى إستجلاب الكونغوليبن سنة ١٨٨٥ وعرضهم في حدائق الحيوان لإسعاد نظر البلجيكي، وصورة راهبة كاثوليكية وهي تركب عربة يجرها رجل كونغولي بدلاً من الحصان أو الحمار. تلك المآسي التي تركها البلجيكيون في الكونغو، خالفت ما حملتُهُ من تصوراتٍ، إن البلجيك ربما كانوا يوماً حملة الحضارة والنور إلى الكونغو.
هوشنك أوسي يدرك تمامًا قذارة الحروب ويمقت ما تفرزه من رؤى مضللة، ولذلك يجتهد في إبراز هذا الجانب التفصيلي في رواياته، بل يجتهد في نفض الغبار عن حوادث وحكايا حتى لا ينساها أو يتناساها التاريخ.
المسن الثاني والذي يسلط الضوء على بقعةٍ مختلفة وينحو بالأحداث لوجهةٍ مغايرة، هو العم هيوا محمود هماوندي الذي ينتظر صديقه آرام، وما رافق حكاية هذا المسن من خلفيات سياسية واجتماعية، حيث إعلان الشيخ محمود الحفيد استقلال كردستان وتنصيب نفسه ملكاً، وأبناء عشيرة هماوند الذين تحالفوا مع الإنكليز ضد محمود الحفيد، وترك العم هيوا للسليمانية إلى كركوك في رحلةٍ مبنية للمجهول "أن تكون حياتك وموتك مبنين للمجهول، المعلوم الوحيد فيهما أنت ورحيلك الذي لا ينتهي" (62). ولكن من هو آرام الذي كان ينتظره هيوا؟ أرام هو ابن فرهاد، وفرهاد الأب منحدرٌ من قرية "بعدينو" التابعة لـ"عفرين"، والذي تغيرتْ كل حياته بعد إحساسه بالظلم على يدِ أخيه الكبير منان الذي سلبه حقه، فقرر قتله. ومن "بعدينو" إلى "كتخ" إلى حلب إلى تعلم القراءة والكتابة إلى التطوع في الجيش العثماني للحصول على حصان وبندقية، ومن ثم التوجه لحلب مع الجيش ثم السويداء وجبل الشوف وبيروت، وربما لعبت الصدفة دورها كثيراً ليصبح فرهاد الحارس الشخصي للحاكم العثماني في بيروت، ثم تقوده الصدفة وتسلسل الأحداث معاً، ليذود عن شرف فتاة درزية من عائلة جنبلاط، لينقذها ويقتل الضابط العثماني الذي حاول خطفها والاعتداء عليها.
أحداثٌ مشوقةٌ ومتشابكة ومؤلمة، ومشاهد إعدام وأجسادٌ تتأرجح في الهواء يتأملها جمال باشا في شرفة الفندق، ممثلاً للاحتلال العثماني الذي بقي 400 سنة وترك خلفه الجهل والدمار، ومن ثم دخول الفرنسي، ولكن الحروب والانتدابات لا تمنع قصص الحب من أن تنمو وتكبر وتدفع بفرهاد وشيرين للزواج والهرب بعد هدر دمها لأنها أحبت من خارج ملتها، والعيش في حلب. فتاةٌ ارستقراطية درزية تتزوج فقيراً من عفرين، ويُعقَدُ القران في كنيسةٍ، وتتخلل ذلك حكايا بعض الرهبان والمرور على مجازر الأرمن، و تطعيم الرواية بالأغاني الكردية والعربية و السريانية التي يغنيها الراهب، ودعونا لا ننسى دور الأغاني الشعبية في ربط الشخصيات أكثر بالوجود الذي تنتمي إليه.
أرام يولدُ في حلب ويكبر ويصبح من الضباط الفرنسيين. وهيوا يدرس في الكلية الجوية - طيران حربي ، وكلاهما آرام وهيوا يخدمان في الجيش الذي يحتل بلادهما، هيوا يقرأ كتاب "الحياة بوصفها ورطة" لكاتب بلجيكي يبتدعه هوشنك ويعطيه من ذاته ويطلق عليه اسم ساوير أوسي. يتغير أرام أيضاً ويفتح هذا الكاتب أمامه أفاق حياة وقناعات جديدة، ويقدم استقالته من الجيش ويعمل في مجالات أخرى،
أرام توفي عام ٢٠١٤ قبل هيوا الذي عاش حياة الوحدة في دار المسنين. وفي رحلة بحث توم وتحقيقاته يلتقي المسن ماتياس الشخصية المثيرة للغموض والتشويق معاً، قصته التي رواها لتوم كانت حُبلى بالكثير من الأحداث التاريخية الجسام والتغييرات السياسية الكثيرة، فقد زعم أنه عمل مراسلاً حربياً ورصد حرب ڤيتنام ويوغسلافيا والتقى عبد الكريم قاسم قائد الانقلاب في المملكة العراقية والتقى البرزاني بعد رحلة جبلية شاقة، وتابع انقلاب العسكر في تركيا، وغطى معارك الفلسطينيين في الأردن. الغريب في الأمر إن هذا المراسل الحربي الذي جاب فيتنام والعراق والأردن ولبنان وتركيا ويوغسلافيا وزار معسكر حزب pkk في سهل البقاع اللبناني وأجرى حوارات مع المقاتلين والمقاتلات، شخصٌ لم يسافر خارج بلجيكا، لأنه ليس سوى مزارع لا يحب حتى مشاهدة التلفاز ولا الاستماع للراديو، وعالمه الوحيد مزرعته وحيواناته فقط. كيف تحدث بدقةٍ عن هذه الأحداث وكأنه عايشها بالفعل وربط بينها، ووصف هذه الأمكنة التي لم يرها، وحفظ هذه التواريخ، والأغرب عندما يعود توم إلى أرشيف موظفي مجلة "اليوم الثامن" ومراسليها يندهش بوجود اسم صحفي اسمه ماتياس، عمل في الفترات الزمنية نفسها التي تحدث عنها المسن، كيف وصلت هذه المعلومات إلى رأس العجوز بيرت فإن كووي؟
والأجمل عندما ينجز توم روايته يصله طلب صداقة وتهنئة على الرواية من شخص اسمه ماتياس كاستيلمان وصورة البروفايل للعجوز المزارع الثري بيرت فان كووي! راقت لي هالة الغموض المحيطة بشخصية هذا المزارع (المراسل المحربي – الصحفي) لأنني أحب الفضاءات المفتوحة التي يتركها الروائي مساحةً حرةً لاجتهاد القارئ، أو متروكة هكذا دون وضوح وأجوبة بغموضها المغري، لأن الحياة نفسها لغزٌ كبيرٌ نجتهد في فكه وحله ما دمنا أحياء ولا نملك الوسيلة، وقد نتعثر أكثر في طريق البحث عن الحقيقة، وربما لذلك العجوز الأخير بول دو آردينمانس القس أو الفيلسوف الملحد ينصح توم بترك هذه الحوارات: "هناك شيء اسمه الغيب، مبني للمجهول إذا توقفت عن محاولات اكتشافه ضللت، وإذا واصلتَ اكتشافه ضللت" (331).
نعم، سيبقى هناك شيءٌ مبني للمجهول نسعى لمعرفته وقد يزداد غموضاً في عملية بحثنا عنه.
يغلب على أسلوب الروائي هوشنك أوسي في الكتابة الروائية التحرر من الحبكة التقليدية وكسر رتابة السرد وشد انتباه القارئ الذي يفترضه حاذقًا ذكياً ليضع في طريقه رواية متشعبة الملامح متشابكة الأزمنة والشخصيات والأحداث. وبالتالي، نجح المؤلف برأيي في تكوين لمسةٍ خاصةٍ به وطريقة خاصة في الكتابة، بعيدة عن التوجه الأحادي أو معالجة قضية يتيمة، بل التشعب والتكثيف والتشابك، ولكن بنفس الوقت فرز الخيوط الروائية ليهتدي بها القارئ، ولا أظنه سيخرجُ صفر اليدين بعد قراءة هذه الرواية بتمعن، بل سيفوز بحصيلةٍ معرفية تاريخية واجتماعية ونفسية جديدة، بالإضافة إلى الكثير من الأسئلة المحفزة على البحث. لأن هذا البناء الروائي المحكم والمركب أثثه هوشنك بإتقان وفق أفكار متعددة ومواقف مختلفة تعكس اختلاف وجهات النظر وتباين المنظورات الايديولوجية، والكتابة التي تشترط الوعي والمعرفة والثقافة والإلمام، مع لفت الانتباه إلى تأثير المكان المتعدد في أعماق التكوين النفسي للشخصيات، وكأنّها والأمكنة متعادلةً في الأهمية والخصوصية في تناغم ملحوظ، وخاصةً في خلق شخصيةٍ متخيلة في مكان حقيقي.
العنوان الذي هو عتبة النص، على حد تعبير رولان بارت، ويُعلم عن النص ويؤطره جمالياً وفكرياً، لا أدري أن كان الكاتب قد اختار العنوان وكتب روايته، أم أنه اخضع العنوان لسطوة الرواية؟ ولكن أشهد لهوشنك أوسي بالعناوين الفارقة وخاصة المتبوعة بعنوان فرعي جاذب للاهتمام ومحرض على توجيه القارئ إلى المحتوى. بهذا العنوان الملفت والفعل الذي فاعله غير معروف وبلغةٍ متميزةٍ بالعمق وجرأة بالطرح، يقدم لنا الكاتب هذه المعزوفة المتكاملة والتي تتبع المايسترو الحقيقي وهو مؤلف "مبني للمجهول.. نقطة من أول السطر" هوشنك أوسي الذي وجّه اهتماما خاصاً لكبار السن في روايته، هذه الفئة العمرية المفعمة بالحكمة والتجربة والتاريخ، وبنفس الوقت الحساسة جداً، بوقوفها على مفترق الطرق وإحساسها بلا جدوى مسيرة طويلة اسمها الحياة.
0 تعليقات