من طبائع الأمور أن يحظى أيّ عمل أدبي؛ روائي أو شعري، بالكثير من التّرحيب والاحتفاء، إذا ما عَثَرَ النقّاد والقرَّاء فيه على شتلة الموهبة الواعدة. ذلك الاحتفاء، يفترض به أن يضع الكاتب الشّاب تحت طائلة المسؤوليّة والمحاسبة الذاتية، لجهة بذل المزيد من الجهد والمثابرة بغرض المحافظة على النجاح المحقق، ومحاولة تجاوز الهفوات والأخطاء في العمل الأوّل. وبالتقادم والتكرار، المراس والخبرة، يشتدّ عضد الإبداع لدى الكاتب، ويفترض أن تصبح العين النّاقدة له، أكثر حزمًا وصرامة ودقّة، وتزنُ خطأهُ اللاحق، بعشرةِ أمثال ما اقترفه في عملهِ الأدبي الأوّل. ذلك أن الكاتب المحترف المحقق المكرّس، كلّما ارتفع رصيدهُ من الرّوايات، وزادت أسهم شهرته وصيته، تزداد أعباء المسؤوليّة عليه، لجهة عدم تساهلهِ مع نفسهِ، وعدم تساهل النقّاد معهُ أيضًا.

مناسبةُ ما سلفَ ذكرهُ، الحديثُ عن رواية "ماكيت القاهرة" (منشورات المتوسّط ــ2021) للرّوائي المصري طارق إمام. وآثرتُ أن تظهر هذه الأسطر للنّور بعد الإعلان عن الفائز بجائزة البوكر العربيّة، لأن هذه الرواية كانت مرشّحة لحصدها، باعتبارها وصلت القائمة القصيرة للجائزة. ذلك أن الأعين مفتوحة عليها، وشلالات المديح تحاصرها، وأيّ ملمح نقدي، سيتمّ تفسيره على أنه من قماشة الكيد، الحسد، الحقد، إلى آخر هذه الاتهامات المتهافتة.

الحقُّ أن المرءَ لَيحارُ من أين يبدأ في تناول هذه الرّواية التي حظيت بمديح عارم مثير للدهشة والاستغراب والرهبة أيضًا، قلَّ نظيره في مصر، ربّما لم يحظَ به نجيب محفوظ في أوج مجده، قبل وبعد نيله، نوبل للآداب! و"ماكيت القاهرة" في تسلسلها هي السابعة بعد "طعم النوم" (2019)، "ضريح أبي" (2013)، "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" (2012)، "الأرملة تكتب الخطابات سرًّا" (2009)، "هدوء القتلة" (2007)، و"شريعة القطّة" (2003). وبحسب تصريح لإمام أن كتابتها "استغرقت عامًا كاملاً من الكتابة المتّصلة هو 2020" (حوار لموقع جائزة البوكر 21/03/2022). وفي تصريح آخر قال: "قطعت مساحة زمنية واسعة منذ راودتني فكرتها لأول مرة في أعقاب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 وحتى انتهيت من مسودتها الأخيرة مع الأيام الأخيرة من سنة 2020، نحو عشر سنوات من الكتابة والتوقف لإعادة النظر والتأمل، من الأمل واليأس" (حوار مع جمال الشرقاوي - موقع صدى البلد 04/04/2022)، وفي تصريح ثالث أكّد ذلك الوقت المستغرق في كتابتها، وزاد بالقول: "كتبت نحو 12 مسودة لها، حتى شعرت في 2021 أن عليّ الانتهاء منها" (موقع رؤية 28/03/2022). وسواء أكانت المدّة المستغرقة سنة أم عشر سنوات، الحال أن النصّ الذي وصلنا، وطبقًا لتصريحات صاحبه، جاء حصيلة 12 مسودّة، خلال تلك المدّة، حذفًا وإضافةً، جرحًا وتعديلاً ومراجعة! وتجب الإشارة إلى أن الملاحظات الموجودة أدناه، تستند على نسخة (PDF) لـ"ماكيت القاهرة" المتداولة على شبكة الانترنت، ويبلغ عدد صفحاتها 602، وليس النسخة الورقيّة التي عدد صفحاتها 408. وستتجنّب هذه القراءة الحديث عن "حدوتة" الرواية، لأنها باتت معروفة، لفرط الحديث عنها، وستحاول التركيز على الجوانب الفنيّة، والمشاكل التقنيّة التي شابتها.


العنوان:

أتى العنوان مقتصدًا، غامزًا من قاموس الهندسة المعماريّة، من دون أن يشير إلى المقصد من الماكيت؛ أهو القاهرة الحاليّة؟ أم للعاصمة الإداريّة الجديدة؟ وفي هذا الإيحاء، اجتهاد واضح، عزَّزهُ وعاضدهُ، تصميم الغلاف الذي جاء أشبه بخرائط غوغل، بصورة ملتقطة من الجوّ، لزاوية من زوايا مدينة، لا تفصح على التفاصيل الدقيقة. من دون السهو عن أن مفردة القاهرة وحدها، فيها ما فيها من طاقة الجذب ولفت الانتباه. ذلك أن إضافتها إلى مفردة "ماكيت" تُشعِر القارئ أنه بصدد تصوّر مصغّر لمدينة عريقة، موغلة في القِدَم والصخب. مدينة اشتغل على نقل حيواتها الكثير من الأدباء العرب والأجانب؛ ربّما في طليعتهم نجيب محفوظ الذي وظّف أيضًا اسم القاهرة في إحدى رواياته "القاهرة الجديدة/ فضيحة في القاهرة" (ط1 - 1945)، ومرورًا بعمرو سامي الذي كتب "القاهرة 1030" (بيوند – 2020)، وهذه الأخيرة، شأنها شأن "ماكيت القاهرة" هي أيضًا تتناول مستقبل العاصمة المصريّة، وتبدأ أحداثها في 1 اغسطس 2070، وتستمرّ لغاية 2243 في القاهرة الحديثة. وعليه، عنوان "ماكيت القاهرة" معطوفًا عليه، تصميم الغلاف، حقق وظيفته ــ هدفه لجهة الجذب وشهد الانتباه إلى الكتاب.


تكرار الأسلوبيّة:

في روايته "طعم النوم" حاول طارق إمام، تقديم ما يشبه "المطارحة السرديّة" لرواية "الجميلات النائمات" للياباني ياسوناري كواباتا، و"ذاكرة عاهراتي الحزينات" للكولومبي جابريل غاريسا مركيز. تلك المطارحة (المنازلة/المعارضة) أو التحرّش الرّوائي، إن جاز التعبير، كانت معلنة وصريحة في "طعم النوم"، لكنها في "ماكيت القاهرة" كانت متوارية خلف السُّطور، اجتهد ونجح إمام في إخفائها. بدليل، لم يلتفت إليها أحد. وتلك المطارحة، (بحسب ما أسعفتني ذائقتي) كانت مع عملين روائيين آخرين؛ الأوّل "مئة عام من العزلة" لماركيز، و"كائن لا تحتمل خفّته" لميلان كونديرا. واتكأ إمام على الرواية الثانيّة أكثر من اتكائه على الأولى. وفي ما يتعلّق بمحاولة التماهي والاتكاء على "مئة عام من العزلة"، يمكنني ذكر التالي:

مدخل رواية ماركيز: "كان على الكولونيل أورليانو بوينديا أن يتذكّر بعد طول السنين وهو يواجه فريق الرماة بالرصاص، عصر ذلك اليوم البعيد عندما صحبه أبوه لاكتشاف الثلج... في ذلك العهد كانت ماكوندو قرية..." (ص11). مدخل رواية إمام: "يتذكّر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعه بجبهته، متخيّلاً أنه مسدّس وأطلق من فمه دويًّا؛ بوم" (ص2). وعليه، يشترك المدخلان بـ: 1- "جريمة قتل أو الشروع فيها"، 2- "رجل يتذكّر طفولته"، 3- "حضور ثنائيّة الطفل والأب"، 4- "مواجهة الموت"، 5- "أوريليانوــ أوريجا". فضلاً عن ذلك، المكان: القاهرة (2011-2045) و"... لتنهض قصة آسرة واحدة في علاقتها بجاليري شغل كايرو عبر ثلاثة أزمنة" (ماكيت القاهرة/ ص585)، وماكوندو (100 عام) وتعاقب سبعة أجيال عليها. ماكوندو القرية التي تكبر، القاهرة المدينة التي تصغر وتصبح ماكيتًا! كذلك جرى الحديث عن العزلة في الزمن الخاص للمرء: "الآن، في اللحظة ذاتها، يطلُّ أوريجا على نود، وتطلُّ نود على بلياردو، مثل قاطني بناية واحدة، يحيى كل واحد منهم عزلة زمنه" (ص471).

أمّا بخصوص التماهي والمطارحة الروائيّة مع "كائن لا تحتمل خفّته"، فأتت على شكل تبنّي طارق إمام فكرة "العود الأبدي" الواردة في الفلسفات والأديان القديمة، القائمة على تكرر الحيوات، ونَظَّر لهاَ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وتبنَّاها، فعارضها كونديرا في روايته تلك. وهذا ما يفسّر تكرار الحوادث والقصص في "ماكيت القاهرة" إلى درجة مرهقة ومتعبة. زد على هذا وذاك، جرى التلميح إلى فكرة "العود الأبدي" في عدَّة أمكان من الرواية: الصفحة 424: "لا أحد يملك حياة واحدة (...) الحياة لو تسنّى لها أن تتكرر، فلن تعاش أبدًا مرّتين بالطريقة نفسها..."، وفي الصفحات 432، 467، و511 "لماذا تكرر نسخة منه، قصّةٌ تمّت وصارت من الماضي بدلاً من أن تواصل تقدّمها لتبحث عن قصّة في المستقبل؟ ولأيّ مغزى؟ أيّ نوع من العود ولحساب أيّ شخص أو زمن أو مدينة أو ماكيت؟"، وفي الصفحة 522 "لو استمرّت الأحداث، برتيب وقوعها السابق، لو أن الحكاية تكرر نفسها للنهاية هنا، فإن هذا الشخص المصغّر سيهرب بعد قليل (...) سيفقد عينه...، سيهربان...، سيصير زوجًا لها...، سينشأ بينهما طفل". ولئن كونديرا تحدّث في روايته عن الخفّة والثقل، كذلك فعلَ إمام في الصفحة 395: "... كأنّه استعار شيئًا من ثِقَلِ الواقع الذي لا يلائم خفّته".

اللافت والغريب، أن إمام، تجنّب الحديث عن فكرة "العودة الأبدي" واشتغاله عليها، في أغلب أحاديثه الصحافيّة التي أطلعت عليها. بخاصّة الحوار الهام الذي أجراه معه الكاتب والإعلامي المصري خالد منصور (15/09/2021).


تكرار مريع:

ربّما يبرر الكاتب لنفسه كميّة التكرار الموجودة في الرواية، على صعيد القصص، بما تضمّنه من تهويمات، خيالات، شطحات، على أن ثيمة الرواية قائمة على تبنّي فكرة "العود الأبدي"، كما أسلفنا، تلك الفكرة التي لم يفصح عنها صاحب "هدوء القتلة"، لكن التكرار المهول في "ماكيت القاهرة" يمتدّ إلى خارجها أيضًا، بحيث يتشابه مدخل هذه الرواية مع مدخل وراية سابقة لطارق إمام: "تدسُّ الإبرة القاتلة في وريد العجوز، وتشعرُ براحة الاقتراب من الموت، كأنّ السائل المميت بدأ يجري في عروقها هي" (رواية "طعم النوم" - ص9)، و"يتذكّر أوريجا أنه كان طفلاً حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصق إصبعًا بجبهته، متخيّلاً أنه مسدّس، وأطلق دويًّا من فمه؛ بوم" (ماكيت القاهرة- ص2). ذلك أن الروايتين بدأتا بمشهد القتل. وحتّى أن بعض الأفكار والأقوال الواردة في "طعم النوم" نجد ما يعادلها أو ينسجم معها، أو تعيد إنتاج وتدوير نفسها في "ماكيت القاهرة"! وتلك قصّة أخرى، يلزمها دراسة نقديّة مقارنة مستقلّة، ليس هنا مقامها.

"كان يفكّر حتّى في الفاصلة (....) الجمل القصيرة الحادّة التامّة المعاني". هذه الجملة ــ الفقرة المؤلّفة من 28 كلمة، والفقرة الموالية لها، الواردتان في الصفحة 418، تكررتا بالنصّ والحرف في الصفحة الموالية 419. إن لم يكن الأمر سهوًا، فما الغاية الفنيّة من تكرار فقرتين في نص؟

كذلك، يحتوي النصّ على أفكار كـ "فيلم داخل فيلم، رواية داخل رواية، فيلم داخل رواية، لعبة المرآة، والصور التي تظهر فيها، جدل الوجه والقناع، الفنّ للفنّ...، استُنفِدَت طَرقًا ومعالجةً، فضلاً عن تكرار مشاهد مقابلات الأبطال الثلاث؛ "أوريجا"، "نود" و"بلياردو" مع "المسز"، مديرة الجاليري، وتكرار مشهد قتل أوريجا لوالده، وتكرار مشاهد الاستمناء، ومشهد هروب بلياردو، واقتحامه غرفة نود، وتكرار مشهد قتل بلياردو للمسز...، كل هذا في كفّة، وتكرار الحديث عن كتاب منسي عجرم في كفّةٍ أخرى. هذا الكم المرهق والمرعب من التكرار، مع إضافات طفيفة هنا وهناك. معطوفًا عليه، حشر تنظيرات في الرواية، النقد، السينما، المسرح، الصحافة، الفلسفة...، سواء داخل الحوارات مع "المسز" أو على لسان الراوي العليم، كل ذلك؛ أرهق الرواية، إن لم يهتك عِرضها.


البناء:

تبدو العمارة الروائيّة في "ماكيت القاهرة" واضحة الترتيب والتنظيم، بعكس المحتوى، الذي يميل إلى العبث، بداعي التجريب، والقائم على التكرار، وتناسل التهويمات، وتداخلها. وزَّع إمام روايته على ثلاثة فصول، كل فصل مؤلّف من مقاطع، كلّ مقطع يحمل اسم أحد إبطاله الثلاث؛ أوريجا، نود، بلياردو، بنفس الترتيب. الفصل الأول: "طبق الأصل" (9 مقطع)، الفصل الثاني "منطقة عمل" (15 مقطع)، والفصل الثالث "نهاية القاهرة" (20 مقطع). إذن، نحن إزاء 45 مقطع، موزّعة على ثلاثة أبطال رئيسيين؛ الابن أوريجا، الأم نود، الأب بلياردو. أمّا "المسز" البطلة الرئيسة، فتكاد أن تكون حاضرة في أغلب الفصول، عبر الحوارات.

تجب الإشارة إلى أن المقطع العشرين من الفصل الثالث وحده كان بعنوان "أوريجا، نود، بلياردو" الثلاثة معًا. وأرفق إمام فصوله الثلاث، بفصل رابع ملحق يبدأ من الصفحة 566 وينتهي بكلمة "لا" في الصفحة 602، هذا الفصل ــ الملحق حمل عنوان "تعقيب"، بطلته اسمها "مانجا"، يعيد نفس المقابلة مع "المسز". هذا (التعقيب) كان لزوم ما لا يلزم، إذ أنه لم يضف جديدًا إلى النصّ، بل زاده إرهاقًا وحشوًا.

طبعًا، هذه الطريقة في بناء الرواية وهيكلتها، فور قراءتي "ماكيت القاهرة"، تذكّرت رواية "جنة لم تسقط تفّاحتها" (2017)، للفلسطينيّة ثورة حوامدة (يمكن العودة إلى مقالي عن هذه الرواية https://daraj.com/89667/ ). وإذا تمّ تجميع مقاطع أوريجا، ومقاطع نود، ومقاطع بلياردو، على حدى، سنحصل على ما يشبه المجموعة القصصيّة التي جرى تقطيعها، وخلطها، تشبيكها وتوزيعها، لتخرج في صورة رواية. وفي الصفحة 239، ما يشير إلى فهم؛ على أن الرواية عبارة عن مجموعة قصصية مقطعة الأوصال!


اللغة:

أعتقد أنه في أيّ عمل روائي؛ سلامة اللغة نحوًا وصرفًا، وخلوّها من أخطاء إملائيّة أو مطبعيّة، في أفضل أحوالها، لا يمكنها التغطية، على الرّداءة الفنيّة. صحيح أن الرّواية ليس مطلوبًا منها الغلو في البلاغة، والجنوح أكثر نحو لغة التراث، والاقتصاد الشديد في اللغة، إلى درجة التقشّف، لكن الصحيح أيضًا أن الرّواية في نهاية المطاف، عمل أدبي، والبلاغة ملح الأدب وسكَّرهُ. وعليه، زيادة البلاغة تفسد السّرد في الرواية، كذلك ازدياد نسبة المطاط في اللغة، والحشو والثرثرة، والجمل الطويلة المركّبة، والجمل الاعتراضيّة، كل ذلك يكون على حساب فنيّة النصّ وجودة لغته الأدبيّة. وأقلّ ما يقال في لغة "ماكيت القاهرة" أنها لم تكن مريحة بالنسبة لي، كقارئ. وسأحاول هنا إيراد بعض النماذج على الجمل الطويلة المركّبة، التي لم يخلُ بعضها من جمل اعتراضيّة:

"أشرق ثقب في جبين الرجل، ثقب حقيقي، عميق وغائر، انفجرت منه على الفور الدماء، الدماء الحقيقية، الداكنة الثقيلة واللزجة" (ص2). ماذا لو أصبحت الجملة هكذا: "أشرق ثقب في جبين الرجل، عميق وغائر، انفجرت منه الدماء الداكنة، الثقيلة واللزجة"، كيف أصبحت، بعد فقدانها ست كلمات؟

"إنها الغرفة نفسها التي نزلت بها من قبل، إلاّ لو كانت غرفة مطابقة لها بالضبط. بل هي، لا يمكن إلاّ أن تكون هي" (ص359). هاتان جملتان تتألّفان من 23 كلمة. هل اختصارهما على هذا النحو: "إنها الغرفة التي نزلت فيها سابقًا، أو أخرى مطابقة لها. بل هي نفسها" هل تأثّرت الفكرة، بعد تخلّصنا من عشر كلمات زائدة؟

"نغّصته فكرة أنه حتى في مدينة بحجم غرفة، حتى في مدينة ليست مدينة بعد، حتى في مدينة ستصنعها يداه، يمكن أن يضيع" (ص228). كذلك، هذه الجملة المؤلّفة من 22 كلمة، هل ستًصاب الفكرة بأذى، إذا اختصرها إلى: "نغّصته إمكانيّة الضياع حتّى في مدينة بحجم غرفة، ليست بمدينة، ستصنعها يداه"، بعد تخلّصها من عشر كلمات.

"... وأن الخوف، الخوف الحقيقي، الخوف القاتل، مختبئ في كل ما تراه..." (ص16)، "...وأن الخوف الحقيقي القاتل، مختبئ في كل ما تراه".

"كانت عينًا إنسانيّة، عينًا حقيقيّة، مكتملة وحيّة، ولا تزال قادرة على النظر" (ص30)، "كانت عينًا إنسانيّة، حيّة، قادرة على النظر". في الصفحة 520 تكررت كلمة "حكاية" عشر مرّات، وكلمة "حكايات" تكررت ثلاث مرّات. كما تكرر كلمة "حكاية" سبع مرّات في الصفحة 522. وتاليًا؛ في فنّ السرد، هل الجملة الطويلة المركّبة التي تزيد عن عشرين أو خمس وعشرين كلمة، دليلٌ على المقدرة اللغويّة والمهارات الكتابيّة؟ أيعني ذلك، في ما يعينه، أريحيّة في الكلام، وكفاءة عالية في طرائق التعبير عن الفكرة المُراد طرحها؟ لماذا يلجأ الكاتب/ة إلى هكذا طرائق في الكتابة، ومتى؟ لماذا يحاول الكاتب/ة قطع نفس قارئه حتّى يوصله إلى النقطة التي تعلن اختتام الجملة واكتمال فكرتها؟

"لقد دخلت هذا الجاليري مرارًا من قبل، لكنها تكتشف الآن أنها في الجانب الأكثر غموضًا وعتمة فيه، محتجزةً في غرفةٍ شحيحةِ الضوء بدت فها كمَن يتخبّط في صندوق أسرارٍ أسود لطائرة، تغمرهُ عتمة رعبٍ قوطي." (ص65). نحن هنا، إزاء جملة مركّبة تتألّف من 35 كلمة. وليس هنا، مربط الإشكال، بل السؤال عن "الرعب القوطي" ولماذا اختار إمام عتمته كي يغلّف الصندوق الأسود للطائرة؟ وبماذا يتميّز "الرعب القوطي" عن "الرعب الفرعوني" أو "الرعب الإغريقي" أو "الرعب السومري" أو "الرعب الهندي"؟ ما يجعل الكاتب يختار عتمته، دونًا عن كل أنواع وأصناف الرعب؟ هل هناك سبب فنّي، أو نفسي، أو ثقافي، أو شيء مقنع، يجعله يوظّف "القوط" كجماعة بشريّة أوروبيّة ــ جرمانيّة، بشكل مفاجئ في الرواية، ما يدفع القارئ إلى البحث عن تاريخ القوط، ومن هم، كي يعرف المعنى الذي قصده إمام بتعبير "رعب قوطي"؟! مؤكّد، هناك سبب فنّي هام، أجهله، يقف وراء استخدام وصف "رعب قوطي"، وأن الأمر، ليس كلامًا، كيفما اتفق، خبط عشواء.

"شفعت المادّة بملحوظة حصوله على الجائزة، متمنّية أن تكون مزيّة إضافيّة، لكن المسز – وهي بالتأكيد تعرف حتّى ما أغفلته نود من معلومات لأن تبعات عرض ذلك الفيلم في حينها تحوّلت إلى قضيّة رأي عام – لم تلتفت إلى كل ذلك في المقابلة ولم توجّه ولو ملحوظة تخصّ هذه المسألة" (ص70). وهنا جملة مركّبة، مؤلّفة من 48 كلمة، داخلها جملة اعتراضيّة لوحدها تتألّف من 21 كلمة. ماذا يعني ذلك؟ 13 كلمة (الجزء الأوّل من الجملة) + 21 كلمة (الجملة الاعتراضيّة) + 14 كلمة (الجزء الثاني من الجملة) = 48 كلمة، حجم جملة واحدة من "ماكيت القاهرة". جملة اعتراضية مؤلّفة 21 كلمة، وسط كلمة مؤلّفة من 27 كلمة، ماذا يعني ذلك، فنيًّا ولغويًّا؟

كذلك هناك جملة مؤلفة من 44 كلمة في الصفحة 89، وفي الصفحة 101، جملة مؤلّفة من 53 كلمة، تكررت فيها كلمة "أحيانًا" ست مرّت. وهناك جملة عدد كلماتها 58 كلمة (ص145) وأخرى تتألّف من 56 كلمة في الصفحة 146. وهناك جملة مؤلّفة من 47 كلمة، تكرر فيها "حيث" خمس مرات (ص512). الرقم القياسي سجّلته؛ جملة مركّبة من 65 كلمة في الصفحة 340، تكررت فيها "حتّى" 3 مرّات، و"في" 3 مرّات،! وقس على ذلك. السؤال هنا: أيّة عبقريّة لغويّة سرديّة أو نقديّة يمكنها أن تحتمل أو تجيز ذلك؟! هذه الطريقة في الكتابة، قولاً واحدًا، لا أميلُ إليها، ولا يمكنني تبريرها. بينما الكاتب نفسه، صرّح لصحيفة "الأهرام" يوم 08/05/2022 قائلاً: "لا يجب أن يتعالى الأدب على أي لغة، ولا وجود للغة أكثر نقاء أو جودة، فأحياناً ما تكون الركاكة نفسها احتياجا فنيا". ويفترض بالنقّاد، تفسير هذا القول، وكيف يمكن أن تكون الركاكة ضرورة فنيّة في الرواية؟ وهل كل تلك الجمل المركّبة والاعتراضيّة، وكل ذلك الحشو، والشحوم والدهون اللغويّة الفائضّة، ضرورة فنيّة؟ وهل حقًّا ".. لا وجود للغة أكثر نقاء أو جودة"؟

في رأيي؛ حتّى لو فازت "ماكيت القاهرة" بنوبل للآداب، فهي بحاجة إلى إعادة تحرير "وتخسيس" يزيل عنها قرابة نصف وزنها من الكلام.


أخطاء تقنيّة

1ــ ولأن إحدى ثيمات "ماكيت القاهرة" هي الاشتغال على الزّمن، (2011-2020-2045)، من المفترض أن الخطّ البياني للأزمنة، يكون مضبوطًا للحدود القصوى. يذكر إمام في الصفحة 174 أن أوريجا ذهب إلى المدرسة سنة 2019، وذكر في أماكن أخرى أنه مواليد 2015. هذا يعني أن دخل المدرسة في سن الرابعة! فهل هذا جائز في مصر؟!

كذلك يقول الكاتب: "صاحب المقهى الخمسيني، الذي كان مراهقًا في سنوات الثمانينات، ثم شابًّا في التسعينات" (ص90) بحسب زمن الرواية، نحن في سنة 2011. وإذا اعتبرنا عمر صاحب المقهى في أدنى حدّ 50 سنة، هذا يعني أنه من مواليد 1961. وإذا أضفنا سنوات مراهقته الـ18، في أقصى حد أيضًا، سنصل إلى سنة 1979. يعني أن مراهقة الرجل لم تدخل عقد الثمانينات. وهذا على أبعد تقدير. ثم يقول في الصفحة 93 "كان يضحك وهو يستدعي أوّل أسم أطلقه على مقهاه عندما افتتحه سنة 1986"، هذا يعني أنه وقتذاك كان عمره 2011 – 1986 = 25 سنة، ويفترض أنه وقتذاك، كان مراهقًا!

2ــ الصوت الذي يخرج من فمّ الطفل، مهما كان عاليًا، لن يكون دويًّا. ثم أنه عادةً ما يستخدم لفط "الدوّي" للقنابل وليس لإطلاق الرصاص.

3ــ "سيتم توزيع من سيقع عليهم الاختيار لإتمام ماكيت مكتمل" (ص10)، المكتمل، لا يتمم، لأنه أصلاً مكتمل!

4ــ "عجزهُ هذا وارتباكهُ، كانا صادقين ومربكين له" (ص11). من الجائز أن يكون عجزه وارتباكهُ صادقين. لكن من الغريب أن يكون ارتباكه مربكاً له. كأنّ يقول أحدهم: كان صدقه صادقًا، أو كان رقصه راقصًا!

5ــ "نسخة عملاقة، طبق الأصل، من توقيعه" (ص42). لا يمكن ذلك، إلاّ إذا كان التوقيع نفسه عملاقًا. ذلك أن طبق الأصل تعني المطابقة في الشكل والحجم. عدا ذلك، إمّا نسخة مصغّرة، أو مكبّرة للتوقيع أو لأيّ شيء يتم استنساخه. نفس الأمر ينسحب على؛ "مجسّم صغير طبق الأصل من برج القاهرة" (ص69). كيف يكون مصغّرًا، ومطابقًا الأصل؟

6ــ "تخيّل بلياردو عينه التي اقتلعتها رصاصة القنّاص" (ص99). الرصاصة هنا، تفقأ، ولا تقتلع.

7ــ "كانت نود تشعر بالخجل، كونها تخرج أفلامًا واقعيّة بعدسة ملوّنة بوجودٍ فوق واقعي" (ص149). والسؤال: كيف يكون الوجود وجودًا، وفوق واقعي في الآن عينه؟! وهل الوجود اللاوقعي ــ المتخيّل، وجود؟

8ــ استخدم إمام أسماء أعجمية لأبطال روايته. وتبريره في ذلك؛ الاسم الحركي، الذي يلجأ إليه المعارضون السياسيون، تفاديًا الملاحقة والاعتقال. وعلى الرغم أنه غير مضطر على إعطاء تفسير ذلك، إلاّ أنه اجتهد وأعطى تبريرهُ. ومع ذلك، حاول استخدام بعض المفردات القاموسيّة الشديدة الفصاحة، على سبيل الذكر لا الحصر× "الإلية"، بالرغم من وجود مفردات "المؤخّرة" أو "الأرداف" متداولة وشائعة، وتفيد الفصاحة أيضًا. ومع هذا السعي نحو التفاصح، لماذا أكثر من استخدام المفردات الأجنبيّة على لسان الراوي، كـ"الميتينج"، "الإنترفيو"، "البروجيكت"...، مع وجود ما يعادلها في اللغة العربيّة؟ الغريب أنه في الصفحة 255، قام بما يشبه تعريب كلمة "كتالوك" وجعلها الكتالوكات، بينما قام بتعريف "بروشور" لكنه أبقى على صيغة الجمع الانجليزيّة "البورشورز"، وعطفها على "الكتالوكات"، ولم يقل: "البورشورات". أعتقد أنه يجوز معاملة جمع الأسماء الأعجمية وفق صيغة جمع المؤنث السالم: تلفزيونات، سيناريوهات، ديمقراطيات، سكيتشات...الخ، لكنه فضّل "البروشورز"!

9ــ شرود الراوي العليم؛ في اجتماع بين نود والمسز، يبدأ في الصّفحة 129، يدخل الرّاوي العليم في شرح العلاقة الخفيّة والحميمة بين نود ورجل مرآتها، ولغاية الصفحة 137، ثم يعود إلى الاجتماع بينها وبين المسز. عدا المبالغة في الحوارات الثقافيّة بين "المسز" والأبطال الآخرين، أثناء مقابلات يفترض أنها رسميّة تتعلّق بالعمل، وليست بين أصدقاء أنداد.

10ــ تواقيع، أوريجا، نود، بلياردو، ومانجا، ولوغو "جاليري شغل كايرو" التي أرفق الكاتب صورها بالنصّ، لم تكن احترافيّة، وفيها تلك اللمسة الفنيّة العالية. بخاصّة لوغو الجاليري. وكان في إمكان طارق إمام الاستعانة بصديق مختصّ، خطّاط، أو مصمم لوغوهات محترف، حتّى تخرج التصاميم أكثر إقناعًا واحترافيّة مما ظهرت عليه في "ماكيت القاهرة".

11ــ تكررت في الرواية عبارات "طبق الأصل"، "إجرائي/ إجرائيّة"، عدا عن تكرار ذكر كتاب "منسي عجرم" في الرواية، بالنسبة لأبطالها، لأنه المرجع الرئيس الذي يحتوي على قصص الماضي والغيب وما بينهما. والحقُّ أن إمام كرر اسم الكتاب المتخيّل وصاحبه، في روايته، أكثر مما يكرر أهل السنّة والجماعة اسم كتاب "صحيح البخاري" في أحاديثهم. ثم انتهينا من منسي عجرم، لندخل إلى كتاب زيد الدين زيدان وعنوانه "غدر الكادر"، في الفصل الملحق (تعقيب)!


القاهرة:

طالما عنوان الرواية "ماكيت القاهرة"، كيف قدّم طارق إمام هذه المدينة في روايته؟ سؤالٌ مدرسي وبسيط، لا مناص من طرحه. بدا لي أنه قدّمها مدينة حزينة كئيبة، سكّانها حزانى: "في ليل القاهرة، الجميع يبكون" (ص37)، ولا طموح فيها: "في مدينة القاهرة، لن تعثر على شيء مهما تطلّعت لأعلى" (ص37). مدينة كارهة وطاردة لسكّانها: "مدينة يقطن أرصفتها شعب كاملٌ من الأشخاص الذين لفظتهم بيوتها" (ص39). باعثة على الضجر، السأم والملل: "لا أحد يندهش في القاهرة، والإسفلت يتشرّب بالتساوي الدماء والمطر والبول، ثم ينشفّها جميعًا بالطريقة نفسها، لتعود المدينة إلى جفافها ورطوبتها وسخونة هوائها، كأنّها ظهيرة أبديّة على تبدّل الفصول والمواقيت" (ص98). كما انتقد العاصمة الإداريّة الجديدة لمصر (107)، وأشار إلى زحف الريف على القاهرة (ص 110 - 111). "لم يتغير شيء في القاهرة. أبنية انهارت، وأخرى ارتفعت، والحاكم باق في مكانه لم يتغيّر.القاهرة فقدت تصميمها، وانسحبت خطوة للوراء، لتصبح العاصمة الثانية" (347).

أختار الكاتب لبطله بلياردو، أن يكون بعين واحدة، وكذلك حال صاحب المقهى، والقط الشارد، وزبائن المقهى... الكل من ذوي العين الواحدة (ص158)، "شارع، من يسيرون فيه جميعهم بعين واحدة" (ص160). وانتقد الصحافة المصريّة، بخاصّة الرسميّة "التقطتها نافضًا بصمة حذائه عن الأهرامات الثلاثة" (ص461)، في إشارة إلى لوغو مؤسسة الأهرام.

عمومًا، يحدث أن نجد في رواية ما، شخصيّة روائيّة تعاني من مشكل أو مرض نفسي، أو نجد شخصيّتين مريضتين. وربّما نجد شخصًا يعاني من فصام أو وسواس قهري. لكن أن يكون كلّ أبطال الرواية، تصفح أحوالهم عن أنهم مرضى نفسيين، غارقين في التهويمات المتناسلة، المتداخلة، هذا يعني في ما يعينه، أن تلك الرواية قدّمت المدينة وكأنّها مستشفى مفتوح، بلا جدران، للأمراض العقليّة. وعليه، قدّم لنا إمام ثلاثة نماذج من الشباب المصري، شابان وصبيّة، في أعمار متقاربة، يشتغلون في حقول فنيّة متنوّعة، جمعهم الشغل في مكان مشترك، كل واحد منهم، له تهويماته، هلاوسه، واضطراباته النفسيّة، نتيجة طفولة مشوّهة أو معذّبة. بينما قدّم إمام شخصيّة "المسز" على أنها السلطة المتحكّمة في حيوات ومصائر وأقدار المدينة وشخصيّات الرواية، "لا يمثّل جسدها، صَغُرَ أم كَبُر، سوى غلاف رقيق هشّ لتوحّشها العميق القادر على ابتلاع العالم في قدرته على الخلق والبناء والتدمير والمحو" (ص 557). وطالما أن شباب المدينة، مضروب ومعطوب، يعاني من كل هذه التشوّهات النفسيّة، فأيّ مستقبل ينتظر القاهرة ومصر! إذن، في "ماكيت القاهرة" نحن إزاء مدينةٍ نسبةُ البؤس والسلبيّة فيها عالية، بلا أمل، بلا مستقبل، تختفي في الصفحة 509/533، هذه هي القاهرة التي قدّمها لنا طارق إمام. والقاهرة التي زرتها، وأحببتها وكتبت عنها، هي ليست أبداً ما قرأته في "ماكيت القاهرة" التي حاولت أن تكون رواية نفسيّة، فقدّمت المدينة وكأنّها مستشفى مفتوح للأمراض النفسيّة والعقليّة، كما أسفلت.


فتاوى:

هناك الكثير من الأفكار والمشاهد والصور التي سبق لي رؤيتها أو قراءتها، قرأتُها مجددًا في "ماكيت القاهرة". على سبيل الذكر، لا الحصر:

1ــ "إصبع أوريجا الذي لا يكبر ويبقى طفلاً في "ماكيت القاهرة"، ذكّرني بوجه حسّون الذي لا يشيخ" في رواية "الدم والحليب" (2020)، عدا عن كون الروايتين تشتغلان على الزمن؛ مستقبل القاهرة، ومستقبل العالم في "الدم والحليب".

2ــ في الصفحة 389، وعلى لسان الراوي، أشار الكاتب إلى أن بطله بلياردو، سرق مقولة من رسّام الشارع الإنجليزي بانكسي (Banksy) وقام بتحويرها، "ليمحو أثر سرقته لها". اللافت أن إمام نفسه، في الصفحة 388 من روايته، حوّر اسم الفنان الإنجليزي من بانكسي (Banksy) إلى بَنكي (Banky) وحذف حرف s. وبالعودة إلى سيرة هذا الفنان في ويكيبيديا (https://en.wikipedia.org/wiki/Banksy ) نجد العديد من التقاطعات بين شخصيّة بلياردو؛ رسّام شارع، ناقد، ساخر، سياسي، الملاحقة، الاعتقال...الخ!

3ــ يقول إمام على لسان الراوي: "فوجئ أن الجانب الآخر من جسده كان ظهره أيضًا" (ص518)، وبدا المشهد كأنه ترجمة لغويّة للوحة "Not to be Reproduced" التي رسمها الفنان السيريالي البلجيكي رينيه ماخريت (René Magritte) سنة 1937، قبل اندلاع الحرب. وهي من أعماله المشهورة. وفي إمكان الكاتب الاستفادة من تراكمه من القراءات والمشاهدات، ولا أعتقد أنه كان سيضيره لو كتب: ""فوجئ أن الجانب الآخر من جسده كان ظهره أيضًا، كأنَّه الشخص التي تظهر في لوحة René Magritte".

4ــ من جانب آخر، غزارة الحديث عن الأفلام، سواء أكان من باب التشبه أم المقارنة، أو التنظير، ليس مرّده فقط؛ أن إحدى الشخصيّات الرئيسة في الرواية (نود) هي مخرجة أفلام تسجيليّة ووثائقيّة، وأنها بصدد تصوير فيلم عن "جاليري شغل كايرو"، بل تعكس تلك الغزارة مدى شغف الكاتب بمشاهدة الأفلام السينمائيّة، وتأثّره بها، وربّما اتكائه عليها، أحيانًا. وعلى سبيل الذكر لا الحصر قوله: "مثلما يحدث في فيلم، يقرر فيه قاتل يائس تعديل هدفه في اللحظة الأخيرة" (ص45)، ويقول أيضًا: "لم يكن سوى مشهد محذوف من فيلم طويل" (ص46). و"... ثورة يناير، والتي ما لبثت أن ابتُسرت مثل فيلم عوقب جميع أبطاله" (ص68). و"كانت مأخوذة بالمطاردة، كأنّها تطلّ على فيلم" (ص501).

اللافت أن إمام، وعلى لسان بطلته؛ نود، يبرر السرقة، بالقول: "ما الفنّان إن لم يكن لصًّا؟ وما الفنُّ إن لم يكن نشلاً لشيءٍ ما من محفظة العالم، حكاية أو صورة، يعتقد أصحابها أنها ملكيّة شخصيّة" (ص186). وعلى لسان بطله بلياردو، يحاول الكاتب التنظير، بهدف تأصيل التهجين، لكأنّه يعي أنه مهما بلغ من الاجتهاد والاحتراف واقترف التهجين الروائي، من دون ترك دليل، إلاّ أنه سيبقى شيء يدلّ على شبهة اختلاس. لذا نراه يقول: "أليس التهجين فنًّا أصيلاً؟ (...) بإعادة ترتيب عناصر جميعها موجودة، وفق بنية جديدة، ألا يمثّل ذلك فعلاً فنيًّا أصيلاً؟" (ص333). وعليه، في "ماكيت القاهرة" يمكن العثور على ما يشبه الفتاوى التي تجير الاختلاس، وتقلب الهجين أصيلاً.


المشهد البورنوغرافي:

شخصيًّا، أنا مع توظيف المشاهد الجنسيّة في الرّواية، وفق مقتضيّات فنيّة النصّ. القاهرة، كأيّة مدينة في العالم، فيها العديد من المظاهر الاجتماعيّة السلبيّة والمشينة؛ تحرّش، اغتصاب، دعارة، زنا محارم...، تجري خلف الجدران أو خارجها. وعليه، يمكن لأحدهم تبرير مشهد الجهر بالاستمناء في شوارع القاهرة من قبل بلياردو، على أن هذا المشهد المتخيّل، له ما يعادله ويماثله في واقع القاهرة! وربّما يشتط الخيال النقدي الذرائعي أكثر، ويبرر لمخرجة أفلام تسجيليّة ووثائقيّة، تصويرها مشهد الاستمناء بالموبايل، وعدم اكتراثها بتحرشّ الناس بها، وتركيزها عدسة كاميرا الموبايل على قضيب بلياردو المنتصب وهو يقذف! لكن، أيّ خيال هذا، يمكنه أن يلتمس مبررًا لحصول هذا الفيلم البورنوغرافي على جائزة أفضل فيلم لـ"جاليري شغل كايرو"، كما قدّمه لنا طارق إمام في "ماكيت القاهرة"؟ "... وكان شعورها بالأمان حررها هي الأخرى، لتصوّب الموبايل الذي يرصد انتصابه العاري، منحنية عليهِ في أقرب نقطة" (ص189). من دون السهو عن أن مشهد استمناء بلياردو أمام فاترينة محل بيع الملابس النسائيّة، كرره إمام في الصفحة 217 أيضًا. ناهيكم عن مشاهد استمناء نود، وممارستها الجنس مع الرجل الذي تتخيّله في المرآة، ومشاهد أخرى تنضح بالمني: "على سريره، سيجدون امرأة منفرجة الساقين، تجمَّد منيهُ بلون جسدها، على وجهها، شفتيها، صدرها، بطنها، وداخل رحمها الجبسي" (ص544).

إذن، والحال تلك، كيف تتم نمذجة "ماكيت القاهرة"، باعتبارها تمثلّ الجيل الجديد من المبدعين والمبدعات في مصر، بتلك الطريقة التي قدّم فيها القاهرة في "ماكيت القاهرة"؟!


حاصل القول: لقد قدّم لنا طارق إمام نسيجًا روائيًّا في ظاهره منظّم، مضبوط، مشكوم، شديد الترتيب، لكن في باطنه، فوضوي، عشوائي، عبر مشاهد مكررة، متداخلة، أقرب إلى لعبة المتاهة الحلزونيّة. رواية تتكئ على جهد وأفكار الآخرين، (مع أو ضدّ)، وبل تفتي لذلك النمط والنسق الطفيلي في الأدب، الذي يشرعن لنفسه التطفّل على جهد الآخرين. كل ذلك، ضمن نسيج من الغرائبيّة الفجّة، أحدثت إبهارًا وتفاعلاً، أشبه بما جرى في قصّة الكاتب الدانماركي هانس أدنرسن (Hans Christian Andersen) "الملك عاريًا".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم