"كريستال إفريقي" لهيثم حسين.. رحلة غريبة موضوعها يندر أن نرى مثله في السرديات العربية
رحلة إلى قلب إفريقيا السوداء، يصحبنا فيها الروائي السوري هيثم حسين، عبر روايته الأحدث «كريستال إفريقي» الصادرة عن دار عرب للنشر والترجمة 2025م. رحلة غريبة تتناول موضوعًا يندر أن نرى مثله في السرديات العربية. عبر 230 صفحة، ننتقل رفقة البطل، إلى دول إفريقية عدة: مدغشقر، رواندا، مالي، بنين، مصر، توغو.. في مسار مثير يخوضه البطل بحثًا عن فرصته الخرافية في الثراء.
ربما لا يوجد بيننا من لم يتلق تلك الرسالة النصية على بريده الإلكتروني أو هاتفه الجوال، التي تدعوك إلى خوض مغامرة لاستخراج ثروة هائلة عالقة في إحدى الدول الإفريقية. رسالة تفوح منها رائحة الاحتيال واللامعقولية. ولكن، وعلى الرغم من ذلك. سيبدي بطل «كريستال إفريقي» حماسًا متقدًا للذهاب إلى إفريقيا، لمساعدة أشخاص من النظام العراقي السابق، نظام البعث وصدام حسين، على تحريك ثرواتهم التي هربوها من العراق إلى إفريقيا.
سيسعى بطل هيثم حسين، الصحفي الحر المقيم في لندن، لأنْ يكون جزءًا من تلك المعادلة، وأن يكون شريكًا في عملية إخراج المبلغ الهائل (مليار دولار أميركي) من مطار مالي، إلى أوربا، عبر البحر. وهناك في القارة العجوز سيتمكن كل شخص منخرط في تلك العملية، من أن يأخذ نصيبه من المبلغ المغري. وسيحصل بطلنا على مبلغ ضخم يجعله مليونيرًا ويغنيه عن مزاولة الصحافة الحرة ويضمن له مستقبلًا مريحًا. لكن، لماذا وقع اختيار أصحاب المبلغ الهائل، على بطلنا الكردي، ليكون «المخلص الجمركي» لذلك المبلغ الهائل وليتولى تهريبه إلى أوربا؟ هذا ما يكشفه السرد، الذي جاء بالضمير الأول (الأنا)، إذ يبدو أن رصيدًا من الخبرات الإفريقية، جعلت بطل هيثم حسين، المرشح المفضل لخوض مغامرة استخراج الكنز من بطن الحوت.
إبان الحرب الأهلية في رواندا، ذهب بطلنا الكردي، وزميلاه الصحفيان، آلِن، وميديت، في مغامرة صحفية –غير محسوبة على الأرجح– إلى دولة رواندا، وهناك، جرى ما لم يكن في الحسبان، عندما وقعت مواجهة بين المسلحين والقوات الحكومية، أسفرت عن إحراق كنيسة التجأ لها العشرات من الناس للاحتماء من رصاص المتحاربين.
إلا أن غالبية من كانوا في الكنيسة لقوا مصرعهم حين اقتحم الكنيسة مسلحون أضرموا النيران فيها، وراحوا يتسلون بقتل كل من في الكنيسة، ولم يفلت بطلنا من هذا المصير القاتم لو لم تكن جثة سيدة إفريقية قد غطته وحجبته عن المهاجمين. فظنوه ميتًا.
تلك الفاجعة التي ماتت على إثرها ميديت، ستكون الحادثة التأسيسية لعلاقة البطل بقارة إفريقيا. إنها موطن الصراعات والحروب والانقلابات. موطن نفوذ الجنرالات في المركز، وزعماء القبائل على الهامش. وعلى الرغم من هذا الماضي الدامي، فإن البطل الكردي، لن يتردد في العودة إلى القارة السوداء، من فور تلقيه عرضًا من أصحاب الثروة الطائلة العالقة في مالي، يفيد بجعله شريكًا بحصة النصف، حال تمكنه من استخدام خبراته الإفريقية في تحرير المليار دولار وإخراجها من البلاد.
بلاد الجنرالات
بحاسة صحافية وبوعي كبير، يقدم هيثم حسين، سردًا، يحكي كيف تدار الأمور في الخفاء في إفريقيا، لا شيء يخضع للقانون إلا بالقدر الذي يسمح به الجنرالات المسيطرون على مقاليد الأمور في غالبية الدولة الإفريقية، ولا سيما في منطقة غرب إفريقيا والساحل. شبكة هائلة من الصلات الخفية بين مراكز القوى يرصدها هيثم حسين في «كريستال إفريقي» إنها لعبة الدول العميقة، والعصابات المقننة والنقاط الحدودية ومجاميع الجنود والعساكر. سلاسل من المستفيدين. ملوك الظل الذين يديرون كل شيء يجري في الظل أو تحت أشعة الشمس. إنها لعبة كبيرة تدور في الكواليس.
يرد في صفحة 192 من الرواية: «الجنرالات هم القانون، وهم فوق القانون، هم من يسنون القوانين، ونفوذهم وشبكات مصالحهم عابرة للحدود، يمكنهم فرض الإتاوات باسم الدولة والشعب معًا، هم الدولة والشعب، فوّضوا أنفسهم بكل شيء وأصبحوا كل شيء في تلك البقاع».
خاض بطل الرواية هذا الميدان، ذهب إلى الجنرالات في أوكارهم، قدم الرشى وتذلل وقبل الأيادي والأقدام، لم يكن يعلم أنه إنما ذهب إلى الذئاب في وِجارها، ذئاب جائعة، تسعى خلف صفقة المليار التي فاحت رائحتها في جُلّ دول غرب إفريقيا، وباتت هدفًا لكل من يرى في نفسه القوة والقدرة على انتزاعها.
الكردي.. والإفريقي
ومن المدهش، رصد هذا التشابه بين الإفريقي، البسيط المظلوم، والكردي، الذي عاش ظلمًا تاريخيًّا أينما وُجِد: العراق – سوريا – تركيا – إيران. ومن خلال هذه اللمحة الذكية، والرصد المتعمق، ينتقد حسين بعض السلوكيات الكردية: «نحن الكرد، نوجه عدوانيتنا تجاه بني جلدتنا، ولا نترك شيئًا منها لأعدائنا» صـ 99.
وربما، لهذا السبب، لا يفوت الكاتب أن ينوه إلى الرمز الشعبي لدى الشعب الكردي، طائر الحجل، الذي يُعرف أحيانًا بـ»الحجل الخائن»، ذلك أنه الطائر الوحيد الذي يجري اصطياده ووضعه في قفص، ليقوم بإصدار تغاريد، يستدعي بها بني جنسه، ليكونوا بدورهم فريسة جديدة.
فإذا ما أضفنا إلى هذا، حقيقة أن بطل العمل، رغم كونه صحفيًّا، فهو في الواقع، ليس سوى مهرب صغير، فإن زاوية النظر هذه، ضمنت لحسين، أن ينجو من السقوط في فخ المظلومية الكردية، وألا يقدم سرديته كبكائية تخلط السياسي والتاريخي بالحاضر.
التعاطف مع اللص
ينجح هيثم حسين، في جعل قارئ «كريستال إفريقي»، يتعاطف مع البطل المهرب. يجد القارئ نفسه في موقف ملتبس، عندما يجد أنه يلهث مع البطل في مغامراته العابرة للحدود، من بنين إلى توغو، ومن توغو إلى مصر، ومن مصر إلى لبنان، ثم إلى كردستان العراق.
المهرب الذي يستنزف كل موارده ومدخراته في محاولة منه لتهيئة الظروف وتقديم الرشى للمسؤولين الأفارقة لتسهيل إخراج الكنز من مالي، يتحول بمرور الصفحات إلى ضحية، ضحية ضئيلة وهامشية وضعيفة، وضائعة في خضم الفوضى العارمة في الدول الإفريقية التي يحكمها الجنرالات الذين لا يكفون عن صناعة الانقلابات.
هذا الضعف، الذي يكتنف شخصية البطل، ويتكشف بمرور الوقت، وكل تلك المحاولات المضنية التي يخوضها لتحقيق حلمه بالظفر بحصته من العملية، التي تقدر بعشرات الملايين من الدولارات؛ يجعل من المهرب المهزوم، جديرًا بالتعاطف.
كما يأتي التاريخ الكردي الذي يكاد يكون سلسلة طويلة من الهزائم والخيبات والانكسارات، والذي نثره هيثم حسين بحرفية على امتداد الرواية، ليكون شفيعًا للمهرب الذي عانى مثل غيره من الكرد، التهميشَ والإقصاءَ في بلدانهم الحالية.
مزج هيثم حسين مظلومية الكردي، بطمع المهرب المهزوم، في سردية رشيقة ومتناغمة، جعلت من التعاطف مع البطل، إجباريًّا أمام القارئ. يقول حسين على لسان بطله في صـ 221 بعدما فشلت محاولته الأخيرة في إقناع جنرالة أميركية من أصل كردي في مساعدته على تحريك الكنز من مالي: «أردت أن أقهقه بصوت عالٍ وأنا أودعها وأقول: إنه ليس لنا أصدقاء سوى الجبال، إما كردستان أو الفناء.. المقاومة حياة.. سنقاوم حتى آخر دولار، لن نقبل الضيم من جديد، وأردت أن أمشي مشية عسكرية وأنا أدندن بأغنيات ثورية».
في المجمل، قدم هيثم حسين عبر روايته «كريستال إفريقي» سردية مشوقة، إنها رواية «الرحلة»، صحيح أن تلك الرحلة لا تنتهي بالكنز؛ لأنه في الواقع، وفي مثل هذا النوع من الروايات، فإن الكنز الحقيقي، يكمن في الرحلة نفسها.
هيثم حسين: هو روائي سوري كردي من مواليد 1978م، يقيم في لندن، وأصدر العديد من الروايات، منها: «عشبة ضارة في الفردوس»، و»العنصري في غربته» و»رهائن الخطيئة»، وله إصدارات في النقد الأدبي منها: «الرواية بين التلغيم والتلغيز» و»الروائي يقرع طبول الحرب»، كما ترجم من اللغة الكردية إلى اللغة العربية مجموعة مسرحيات «من يقتل ممو؟».
*المصدر: مجلة الفيصل الثقافية
0 تعليقات