قراءة نقدية في رواية "تل" للكاتبة آمنة بوخمسين
مفتتح
للوهلة الأولى سيظن من يشاهد غلاف الرواية بأنها رواية تاريخية فاللون البني للصور على الغلاف يوحي بأنها صور قديمة، لكن عندما يلتفت الناظر للصور ويتفحصها سيجد أنه قد وقع في حيرة حقيقية زمانياً ومكانياً، ولعله سيحاول مثلي إيجاد رابط وتفسير بين هذه الصور الأربع التي توجت الغلاف.
وهذا في الحقيقة ما جعلني أتصفح الرواية، التي وجدت أنها احتوت على عناوين جعلتني أكثر شغفاً لمعرفة ما تدور عليه أحداثها، فالعناوين بعضها عبارة عن تاريخ ينطلق من: "أكتوبر عام 2016" حتى "فبراير 2021"، كما تخللت هذه العناوين عناوين أخرى متقاربة المعنى مثل: "من ماض سحيق، انسل من عجلة الزمن" أو "من زمن سحيق، انسل من عجلة الزمن".
ولقد اختزلت هذه الرواية شخصيات عديدة مرتبطة بالشخصيات الرئيسية في الرواية، كما اختزلت أزمان مختلفة من خلال التداعيات ومن خلال إشارات الراوي، وقد فتحت أمام المتلقي عالماً واسعاً من الأحداث والشخصيات، كما فتحت عالماً واسعاً من الصراعات الفكرية والدينية، وفتحت كذلك نافذة على الصراعات والحروب بين مختلف القوى السياسية بريطانيا، تركيا، فرنسا، أو الصراعات الداخلية في إيران وتركيا وأذربيجان والعراق، كما فتحت الرواية جانباً آخر من الصراع على الثروات ممثلة في الآثار العراقية التي تنافست عليها بريطانيا وفرنسا.
لقد فتحت الرواية فعلاً عالماً واسعاً من الصراعات والقت بمجموعة من الشخصيات التي عاشت إبان القرن التاسع عشر وقد أشارت لمجموعة من الأحداث المعاصرة.
الغلاف والعنوان
حملت الرواية عنوان "تل" ويبدوا أنها إشارة لما يرتفع ويعلوا من الأرض، ولعل القصد ارتفاع شأن وعلو مكانة، وإذا قمنا بربطه بالصور الأربع على الغلاف فإننا سنقف أمام شخصيات كانت لها من الرفعة والمكانة الكثير، وقد تم إدراجها على الغلاف بشكل متتالي من الأعلى للأسفل كما يأتي:
1- أوستن هنري لايارد (Austen Henry Layard)، عاش خلال الفترة (1817- 1894م)، وهو رحالة ومستكشف، وعالم آشوريات، وكاتب مسماريات، ومؤرخ فني، ورسام، وسياسي ودبلوماسي بريطاني، يعود له الفضل في اكتشافات آشورية هامة، وفي اكتشاف نسبة كبيرة من نقوش القصر الآشوري، ومكتبة آشور بانيبال، التي تعد من أهم الاكتشافات، ويعد كتابيه (نينوى وآثارها) و(الاكتشافات في أنقاض نينوى وبابل) من الكتب الأكثر انتشاراً وأفضل ما كتب عن الرحلات باللغة الإنجليزية.
2- آشور بانيبال، آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية، ورابع ملوك السلالة السرجونية، حكم مدة 38 سنة خلال الفترة من (669-631 ق.م)، أشتهر ببناء مكتبة ضخمة، تعد أول مكتبة منظمة بشكل منهجي في العالم، تضم أكثر من 30 ألف لوح طيني تحتوي على نصوص مختلفة، من بينها نصوص دينية وكتيبات وقصص تقليدية عن بلاد ما بين النهرين، وقد عدت من أعظم إنجازات آشور بانيبال، باعتبارها السبب الرئيس لبقاء نصوص مهمه مثل ملحمة جلجامش، وغيرها من الوثائق والنصوص.
3- زرين تاج، أو قرة العين، أو الطاهرة، أو أم سلمة، أو بانو فاطمة، عاشت خلال الفترة (1815-1853) وتوفيت عن 35 عاماً، اسمها الحقيقي فاطمة بنت ملا صالح الباراغاني القزويني نسبة إلى قزوين، وهي أديبة وشاعرة إيرانية، تكتب الشعر باللغتين العربية والفارسية وتزاوج بينهما.
مالت للتيار الديني الذي كان يتزعمه الشيخ الشيعي أحمد بن زين الدين الأحسائي، وهو تيار ظهر أواخر النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي.
وكان الشيخ (السيد) كاظم الرشتي وهو أحد تلاميذ الشيح الأحسائي الأبرز، قد لقب زرين تاج باسم "قرة العين"، وذلك على خلفية مراسلة كانت بينهما، حيث كان يقوم بالتبشير بظهور المهدي المنتظر عام 1260 بناء على رأي أستاذه الأحسائي، الذي قال بأن المهدي يظهر بعد غيبته بألف سنة، وعندما مات الرشتي عام 1259 هجرية، وجد تلميذه علي الشيرازي الفرصة سانحة والأجواء مهيئة ليعلن نفسه باباً للمهدي والممهد لظهوره ثم أعلن أن المهدي تجسد فيه وبعد ذلك أعلن أن كل النبوءات تجسدت فيه وأن دينه الجديد ينسخ الدين الإسلامي.
تعد زرين تاج المرأة الوحيدة بين 18 شخص آمنوا بدعوة علي الشيرازي الملقب بالباب، الذي أطلق على زرين تاج والآخرين لقب "حروف الحي"، ورغم أن زرين تاج لم تلتقي بالشيرازي، إلا أنها كانت محرك أساسي في الحركة البابية والبهائية، وقد اشتركت في مؤامرة لقتل الشاه ناصر الدين القاجاري بعد إعدام علي الشيرازي فقبض عليها وتم قتلها فيما بعد.
قيل بأن زرين تاج أول امرأة مسلمة خلعت الحجاب، وقد أدى ظهورها سافرة في مؤتمر البابين الأوائل لإثارة الجدل والتنبيه أن البابية ما هي إلا دين جديد وليس حركة إصلاح إسلامي.
اعتبرها البعض أيقونة المطالبة بحقوق المرأة والتحرر النسوي، وقد صرحت قبل موتها قائلة: يُمكنك قتلي كما متى تريد، لكن لا يُمكنك إيقاف تحرر النساء.
4- هرمز رسام، عاش خلال الفترة (1826 - 1910) وهو عالم آشوريات وسياسي ودبلوماسي، من أصل عراقي، عمل مساعداً لأوستن لايارد، ويعزى إليه اكتشاف آثار ملحمة جلجامش، وكشف النقاب عن العديد من الآثار العراقية، عرف في بريطانيا باسم الرجل الذي كلف الحكومة مليون ليرة انجليزية بعد انتدابه من قبل بريطانيا في أعمال دبلوماسية، ويعد أحد عُظماء بريطانيا خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
بهذا أجد أننا أمام غلاف يحمل أربع صور، ثلاث منها - أوستن لايارد، آشور بانيبال، هرمز رسام- أصبح الرابط بينها واضحاً، حيث منقب الآثار ومساعده وما تم العثور عليه وشحنه للمملكة المتحدة.
إلا أننا لا نجد رابطاً للصورة الرابعة "زرين تاج" مع الثلاث الأخريات إلا من خلال المزامنة والمعاصرة والمجايلة التاريخية بين زرين تاج وبين أوستن لايارد وهرمز رسام، فهم جميعاً عاشوا خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
وبالعودة لعنوان الرواية فهي مكونة من كلمة واحدة صغيرة جداً مؤلفة من صرفين فقط "تل" ولعلها تشير بالدرجة الأولى لما يرتفع من الأرض، ويمكن الرمز لها بالرفعة وعلو الشأن للشخصيات التي وضعت صورها على الغلاف، إلا أن "تل" في جانب آخر تشير أيضا للمقابر والمدافن الاثارية التي تستر الكنوز الغائرة، وتمثل تل ركامي سواء بفعل التزامن والقدم أو بفعل عمليات الدفن الخاضعة لطقوس معينة، وبهذا يمكن أن يرتبط المعنى أيضاً بصورة آشور التي توجت الغلاف، كما يمكن أن تربط بما ارتفع من الدول واحكام سيطرتها على دول أخرى، إننا إذن أمام مفردة متعددة الدلالات والإشارات والأوجه رغم أنها كلمة بسيطة مكونة من حرفين فقط.
ونجد "التل" يظهر تقريباً في منتصف الرواية حيث نجد الراوية تتحدث عن بطل الرواية د. عماد فتقول: "وانكشفت له الرؤية عن تل تقف عليه امرأة حسناء تصلي"، "وهناك رجل يحمل معولاً في أسفل التل يبحث عن شيء آخر" (بوخمسين. 2018. ص 147).
أهدت الراوية عملها قائلة: إلى كل الأبطال الذين آمنا بهم.. لا نزال نؤمن بكم (بوخمسين. 2018. ص 5)، وكأنها تشير إلى أبطال روايتها، وهم في الحقيقة أبطال في حقولهم المعرفية وأبطال كذلك في توجهاتهم العملية والفلسفية، وأبطال أيضا في واقعهم الذي عاشوا فيه بكل ما يمكن قبوله أو رفضه سواء الذي كانوا فعليا عليه أو مما قيل فيهم أو حولهم، ولا يمكن بأي حال أن تكون البطولة فضيلة، لكنها بالضرورة تتوج الشخصية التي تتصدر المشهد وتحرك الشخصيات والأحداث في الزمان والمكان.
متن الرواية
تضعنا هذه الرواية أمام 4 حكايات، حكاية الدكتور عماد، الرجل العراقي المغترب في لندن، ثم حكاية زرين تاج التي اعتبرت أيقونة نسوية في الحركة البابية والديانة البهائية، ثم حكاية الباب وهو علي الشيرازي المؤسس للديانة البابية، ثم هرمز رسام الذي يعد المكتشف الحقيقي لآثار العراق ومكتبة آشور بانيبال، ومن خلال هذه القصص نجد أنفسنا أمام قصص أخرى لعل أهمها قصة نشوء البابية والبهائية، وقصة البحث عن الآثار في العراق واكتشاف مكتبة آشور بانيبال.
تتحدث الراوية عن الصراع الفكري والصراع الديني وكذلك الصراع من أجل الغنائم والكنوز، ومن جانب آخر تتحدث عن الإرهاب الفكري والإرهاب الديني، كما تتحدث عن طبيعة الناس وجبلتهم الخيرة اجملاً.
بدأت الكاتبة روايتها بعنوان (أكتوبر 2016)، لكننا في أوج التفاصيل التي رسمها الراوي وجدنا عالم يبدأ من القرن العشرين، حيث سطح كتاب عتيق، وبروز للأحرف التي تعكس الضرب على الآلة الكاتبة، ثم نجد الكتابة بطبشور (بوخمسين. 2018. ص 9)، مما يجعلنا نتساءل تلقائياً عمن لا يزال يكتب بطبشور في عام 2016م؟
ثم نجد الراوي يسترسل في استدعاء الماضي من خلال استدعاء أدواته واستدعاء الأسماء التي عاشت فيه، وبهذه الطريقة يأتي اسم (زرين تاج) تبريراً لكون زوجة بطل الرواية الدكتور عماد "تحب (زرين تاج)، وتدمن قراءة تاريخها" (بوخمسين. 2018. ص 9).
وأظن أن هذه كانت توطئة ذكية من الكاتبة التي طلبت من المتلقي في مستهل الرواية بأن لا يحاول البحث عن أسماء أبطال الرواية، لكنها قذفت بالمتلقي في الماضي بشكل سلس وأدخلته في عالم تتضارب فيه قوى سياسية ودينية شرقاً وغرباً، وتتقاذف فيه اللعنات على القاصي والداني في القرب أو البعد عن الأصالة والمعاصرة والحداثة، في عالم صاخب بالسياسة والفكر والأدب والفلسفة، عصر اتسم بنهضة كبيرة جداً في مختلف نواحي الكوكب، كما اتسم بالحروب والصراعات المختلفة.
تمثلت هذه الكتابة في أن كل فقرة توطئ فيها الكاتبة للفقرة التي تليها، وكل باب يفتح على أبواب ونوافذ أخرى لعوالم مختلفة، تبتعد زمنيا وتقترب فكرياً.
كانت نقطة الانطلاق لندن التي تمثل اليوم عاصمة التاريخ الإنساني بشكل عام، والتاريخ الحديث لمختلف دول العالم التي خضعت ذات يوم للتاج البريطاني، مما جعل هذه الدول تتعرف على ذاتها من خلال الوثائق البريطانية.
الجانب الآخر كان الولوج في التاريخ من خلال استحضار اسم زرين تاج، والتحليق من خلالها بفكرة ظهور المهدي المنتظر والانتقال من خلالها للديانة البهائية، والعروج بالمتلقي في استعراض جانباً من حياة زرين تاج، وكلما جاء على عنوان "من ماض سحيق، انسل من عجلة الزمن" أو "من زمن سحيق، انسل من عجلة الزمن" ولج للقرن التاسع عشر على حين غرة.
ومن خلال أحداث ودلالات بسيطة تلامس القرن التاسع عشر يعرض الراوي أحداثاً مختلفة شرقاً وغرباً، للصراعات الفكرية والحروب الصاخبة، ونهب ثروات الشعوب المغلوبة والمقهورة، ثم وبنفس التوطئة ندخل على هرمز رسام من خلال الكتاب المخطوط الذي أخرجه عماد من جيب معطفه وأخذ الراوي دوره قائلا: "ابتدأ المخطوط على أرض العراق، أبوان ملتزمان بالتعاليم الدينية للكنيسة الآشورية المشرقية"، "تبدأ حكاية هرمز رسام بأسقف الكنيسة المشرقية الآشورية الرسولية المقدسة" (بوخمسين. 2018. ص 80).
ثم بعد ذلك يدخلنا الراوي على أشخاص ماتوا في أتون البحث عن الاثار في حفريات التنقيب، ونجد أنفسنا وجه لوجه مع هرمز رسام وأوستن هنري لايارد، فتتوالى الأحداث الواحدة تلو الأخرى في قصص مختلفة ومتفاوتة في الطول والقصر.
الشخصيات
وردت في النص مجموعة كبيرة من الأسماء والشخصيات من بينها: زرين تاج وزوجها وابنيها ووالديها وأختها وأبن خالتها وعمها الأصغر، وخادمتها وخادمها، وهؤلاء كلهم وردت أسمائهم.
باتي وبناتها وزوج ابنتها وحفيدها، سومر وأبنها وزوجها، د. عماد، وأبنه وزوجته وأخوته ووالديه وعمته وأخ زوجته، ومصطفى، والمعلم، والشيخ المجدد، والشابين الذين ماتا في الحفرية، وأبنة خالة أحد الشباب الذي مات في الحفرية.
النساخ محمود ووالده، القابلة أم صابر، سامي، الشيخ أحمد، الشيخ عبد الله، الباب، تلميذ معلمها المحبب، تلميذ زرين تاج، عبد العظيم، هرمز رسام، لايارد، إسحاق بائع الكباب ووالده، وهناك أسماء أخرى كثيرة أيضاً لملالي وشيوخ.
ولا شك أن القصص الأربع في هذه الرواية تفرض أسماء وشخصيات لكل قصة تتحرك في مكان وزمان كل قصة، ولعل وجود هذا السرد الكبير بهذه الصورة يبرر وجود الكم الهائل من الأسماء والشخصيات سواء كانت هامشية جداً أو كان لها محل يكمل المشهد، ولكن الواضح أن الشخصيات الرئيسية في الرواية تتطور وفقاً للأحداث، وإن بقي بعضها في الظل مثل علي الشيرزي.
عماد
ظهر عماد في النص كرجل تنتابه الهواجس، ذو شخصية مضطربة نوعاً ما، مسجون في ذكريات قديمة لم يستطع مغادرتها، مسكون بالتاريخ القديم والحديث على حد سواء، فهو مهتم بالتاريخ رغم أنه مدرس رياضيات لطلبة الجامعة، يعيش حالة الاغتراب المكاني والاغتراب الاجتماعي، ورغم أنه عربي ومغترب إلا أننا لم نلحظ أي ارتباط له بأي عربي ضمن دائرة علاقاته في لندن، بل ولا حتى أي شخص عرقي يمكن أن يتواصل معه أو يعود إليه في خضم المشاكل والضغوط التي عاشها في لندن رغم مكوثه فيها سنة ونصف السنة.
قدم لنا الراوي من خلال هذه الشخصية التي كانت نقطة الارتكاز في الرواية، إطلالة على أحداث كثيرة، سواء بشكل صريح، أو بشكل ضمني، حيث نجد مأساة العراق، بارزة منذ العهد العثماني، كما برز عدم الاستقرار السياسي والأمني، إلى جانب سرقة التراث والآثار العراقية من قبل قوى كبرى ممثلة في بريطانيا وفرنسا، فضلاً عن الحروب، والقتل بالمجان التي عاشها العراق إبان فترة داعش والنصرة، مما جعل العراق جرحاً نازفاً يراه في كل صورة.
يقول الراوي وهو يحكي عن خواطر عماد: "ألوان تغوي ذاكرته لتسيل ألوانها الدامية، لتصب في نهر من الدم، ينتمي إلى بلاده، تعيده سومر من عالمه.." (بوخمسين. 2018. ص 19).
ويقول أيضا: "اعتصرته رغبة شديدة في العودة ذاك المساء، في ترك كل هذا الهراء، والعودة للعراق، لكن يعود من أجل من؟ أُسر من أُسر واختفى من على وجه الأرض أكثر منهم والقنابل التي لا يعترف بها لا تستشعر إلا بعدد المتوفين.." (بوخمسين. 2018. ص 23).
وأثناء حديث عماد عن والده وكيف يقحم كعكة العيد أثناء شواء الكباب يقول: "يحمل الكعكة ويغني على عجل، ويعود إلى تقليب أسياخ الكباب، ولم يكن يعتد بتاريخه الحقيقي إنما بالفترة التي تهدأ في الحرب" (بوخمسين. 2018. ص 71).
ويصف الراوي حال عماد قائلاً: "غرس شوكته في الفراولة التي بدت في عينيه لوناً مجرداً من الشكل، فكل ما يصطبغ بالأحمر يغدو قابلاً للسيلان في عينيه، مُعداً للانفجار، يحوي أرواحاً تصرخ في داخله" (بوخمسين. 2018. ص 88).
شخصية عماد أيضاً فيها شيء من الجلافة، وشيء من اللا مبالاة، وشيء من تبلد المشاعر، وعدم الاهتمام بمن يهتم به، وعدم تبادل المشاعر الإيجابية مع الآخرين، فنراه مثلاً يترك المرأة التي تسانده وتساعده لمجرد أنه اجترع دفعة كبيرة من كوب القهوة الذي أحضرته له وقد وجد أن كوب القهوة حاراً، وقد صاح مشتكياً من شدة الحرارة رغم أن هذه طبيعة القهوة، ورغم أن المرأة اعتذرت له إلا أنه تركها وغادر يقول الراوي: " حمل الكتاب والتفت ناحيتها طالباً منها ألا تتبعه، وألا تحاول الاتصال به" (بوخمسين. 2018. ص 87)، ثم ذهب لمطعم قريب وطلب كوب قهوة سوداء وطبق فطائر محلاة وبعض الفراولة، ثم لمجرد أن شاهد المرأة قادمة للمطعم قال لها" هل تتجسسين علي؟ (بوخمسين. 2018. ص 89)، هكذا نرى التوجس والريبة التي كانت تسكنه وكان يعيش بها على الدوام، ولعل هذا الارتياب له ما يبرره نسبياً بسبب ما يصله من مكالمات من شخص يهدده، ثم نجده يتعرض لمحاولة القتل على يد نفس الشخص الذي يكلمه هاتفياً.
عندما يلتقي عماد بسامي الذي حاول قتله سابقاً وبعد هروبه من المستشفى يكون بينهما حوار (بوخمسين. 2018. ص 155)، حيث يصفه سامي بأنه بهائي وهي صفة يستغرب منها عماد ولا يبدوا أنه يقبلها، لكن سامي أيضاً يفاجئ عماد بأن زرين تاج جدته التي يصفها بالملعونة (بوخمسين. 2018. ص 157) وهو أمر يستغرب له عماد أيضاً أشد الاستغراب.
هذا الجانب من الرواية يستدعي في ذاكرتي شخصية صوفي في رواية شفرة دافنشي، التي أجد تفاصيل الأحداث التي تدور حولها تتشابه نسبياً مع شخصية عماد في هذا النص، دون المقارنة بين العملين فهما حتما مختلفين تماما، لكن وجود الرموز والألغاز في النص، ووجود شيء كوثيقة معينة يتم البحث عنها، ووجود شخصية لديها اهتمام بشخصية تفاجأ بوجود صلة قرابة بها، وهي صلة الجد بالحفيدة مثل صوفي وصله الحفيد بالجدة مثل عماد.
سومر
أمينة المكتبة في الجامعة التي يعمل فيها د. عماد استاذاً، وهي بحسب النص شخصية طيبة ومرحة، تحب الحياة وتتحلى بشخصية إيجابية، باسمة على الدوام، خلوقة واجتماعية، لديها قدرة على التأقلم والاندماج مع الآخرين، ودودة مع الجميع، تتصف بالكرم، لكنها أيضاً بدت في النص فضولية وثرثارة نوعا ما، وقد تعرضت هي وعائلتها للقتل بسبب عماد.
تقول الراوية عنها: "أعادت عرضها الذي كانت لتعرضه على أي عابر تصادفه، ويسمح لها القدر بأن تحادثه للحد الذي تكتشف فيه حاجته للمساعدة، ولأنها ترى جميع الناس في حاجة للمساعدة لأمر أو لأخر لم يقص عماد من دور أمومتها الذي تصبه على الجميع" (بوخمسين. 2018. ص 14).
زرين تاج
بدت زرين تاج في النص وفقاً لتقريرية الراوي امرأة باحثة عن الحقيقة، تتلمس النور الإلهي، وتحمل رسالة تقودها إلى الله، وتسعى في الطريق إليه، كما بدت شخصية قوية لديها طاقة لا تقبل التوقف وإصرار لا يقبل التنازل وعناد لا يقبل المساومة على بلوغ ما تؤمن به، وقد وصفها الراوي بتقريرية عالية وأسبل عليها أحكاماً قطعية قائلاً:
1- "خرجت إلى كوكب الأرض حاملة رسالة تقودها إلى الله" (بوخمسين. 2018. ص 25).
2- "أطبقت أجفانها على مشهد وقوفها تطلب مدداً من الله، تسأل علماً وسكينة ويقين" (بوخمسين. 2018. ص 124).
3- "قادها الصوت الدفين في أعماقها، صوت الله، همس الوحي" (بوخمسين. 2018. ص 137).
4- "تغرف من ضياء التباشير" (بوخمسين. 2018. ص 138).
5- "استيقظت تحمل قلباً جديداً أشد قوة، ينبض بالحياة والرجاء والأمل المتدلي من السماء" (بوخمسين. 2018. ص 142).
كما بدت من جانب آخر وفقاً للراوي بأنها اضاعت "روحها في أزقة الطريق للنور الإلهي" (بوخمسين. 2018. ص 53)، و"لم يقبل المجتمع تجديدها"، و"لم ير في دينها أي يقين، بل ضلالة تفتن قلوب الضعفاء وتبعدهم عن الطريق القويم" (بوخمسين. 2018. ص 226).
وأما وفقاً لحوار الشخصيات وآرائهم فهي فتاة قتلت "لأنها أتت بدين جديد" (بوخمسين. 2018. ص 169)، فهي "الملعونة زرين"، وقد أصبحت تمثل عار على عائلتها، "والدك لم يشأ الحديث في الأمر لأنه ربما أحس بالعار" (بوخمسين. 2018. ص 157)، ومهما كانت أسمائها "زرين.. قرة العين.. أم سلمة.. فاطمة.. يجب عليك أن تذهب إليها في الجحيم" (بوخمسين. 2018. ص 191).
شخصيات لم يتم التصريح بها
وردت في النص شخصيات لم يتم التصريح بها، لكن تمت الإشارة لها ضمناً مثل الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، الذي لم ترغب الكاتبة التصريح باسمه علانية كما يبدوا، كما لم ترغب أيضاً بالتصريح باسم تلميذه الشيخ (السيد) كاظم الرشتي، الذي يلقب بالسيد نظراً لانتهاء نسبه برسولنا الكريم (ص).
كما توارت شخصيات أخرى تحت مسميات مثل تمليذها الذي غادرها بعد ليلة ماطرة، ومثل الشيخ عبد الله، والشيخ أحمد، والفتى المدعو علياً.
الإشارات للشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي
1- "الشيخ الذي يدعونه المعلم" (بوخمسين. 2018. ص 17)
2- "الشيخ المجدد" (بوخمسين. 2018. ص 25)
3- "مخطوطات الشيخ الذي يمقته أشد المقت بين يديها" (بوخمسين. 2018. ص 47)
4- "الشيخ الأعظم" (بوخمسين. 2018. ص 85)
الإشارات للسيد كاظم الرشتي
1- "شيخها المحبب" (بوخمسين. 2018. ص 47)
2- "أحد كبار الشيوخ المجددين في بغداد" (بوخمسين. 2018. ص 106).
3- "معلمها المحبب" (بوخمسين. 2018. ص 138).
4- "أهداها لما قرأه في رسائلها لقب (قرة العين)" (بوخمسين. 2018. ص 138).
5- "اقترب موعد ظهور النبوءة الموعودة. مرض حاملها الذي لم يسعفه عمره ليراها بعينيه" (بوخمسين. 2018. ص 138).
إشارات لعلي الشيرازي
عمدت الراوية لتقديم إشارات مختلفة لرجل الدين علي محمد رضا الشيرازي المعروف بالباب، المؤسس الفعلي للبابية والبهائية، وقد أشارت له بما يلي:
1- "تلميذ معلمها المحبب" (بوخمسين. 2018. ص 138).
2- "فتى من شيراز" (بوخمسين. 2018. ص 139).
3- "الفتى المدعو علياً" (بوخمسين. 2018. ص 140).
4- "زرين تسقي علياً من مخطوطاته" (بوخمسين. 2018. ص 140).
5- "اليد التي تطرق باب السماء ولا ترد" (بوخمسين. 2018. ص 142).
6- "الرجل الذي شاهدته زرين تاج في المنام واقفاً في الهواء" (بوخمسين. 2018. ص 142).
المنتظر الموعود
يمثل المنتظر الموعود رمزاً أساسياً من رموز آخر الزمان وعلامات الساعة في الفكر الديني لدى الغالبية العظمى من المسلمين، وقد برز الحديث عنه في هذه الرواية بشكل كبير ذلك أن الشيخ علي محمد الشيرازي أدعى أنه بوابة المهدي والممهد لظهوره، ثم أدعى أن المهدي تجسد فيه، وحيث ارتكزت حياة زرين تاج والدعوة البابية في بدايتها على ظهور المهدي المنتظر، نجد أن النقاش بين زرين تاج وبين زوجها ينطلق من هذا الجانب بشكل منساب وسلس في حوار على خلفية مغازلة بينهما ثم يعقب الراوي بعد ذلك:
"أنصت، إنني أنصت، وأحاول اختلاس السمع علي أسمع خطوات الموعود، لا يعاتب عاشق في الهوى، على انتظاره، ولا بد من طريق، وسأكون في انتظاره".
"للموعود علامات يازرين، وأنت تعلمين بأن علامات ظهوره مثبته، ونحن نترقبها، أم تظنيننا دون منزلة المنتظرين؟".
"كلاهما منتظر للموعود، متلهف لرؤيته، كما يزعم هو بقوله، أليست الطرق لله بعدد الخلق؟ أليس المخلص للجميع؟ ألن ينير العالم كله؟" (بوخمسين. 2018. ص 52).
كما نجد حواراً آخر بين النساخ محمود وبين محمد زوج زرين تاج يقول:
"ما قولك في أن المخلص الموعود قريب الظهور؟"
" للموعود علامات لم تظهر بعد"
"لكنهم يقولون إن العالم في أمس الحاجة إلى المخلص، وبأن المخلص بيننا"
"كيف لك أن تقول بأنه بيننا والعلامات لم تكشف بعد؟!" (بوخمسين. 2018. ص 85)
الراوي
يقود الرواية راوي عليم، يتدخل في النص ويقوده ويسيره حيثما يريد، فنجده يطلق الأحكام على الأشياء والشخصيات ويقرر حولها ما يريد وما يحلوا له، فالتقريرية طاغية بشكل كبير، كما يوجد خلط واضح بين ما تقوله الشخصية وبين ما يقوله الراوي، كما يوجد لبس كبير أيضاً بين ما يجب أن يتحدث به الراوي وبين ما يجب أن تتحدث به الشخصية.
نحن بالفعل أمام تداخل كبير في النص، وحيث أن هذه الرواية تعتمد على الراوي العليم، فهذا أمر لا بد من حدوثه وبالأخص مع كمية السرد الكبيرة في النص الذي أظن أنه اعتمد على مجموعة من المنقولات السردية وعلى بعض التحليلات، وشيء من الخيال لنسج خيوط هذه الرواية، لكن يفترض في الكاتبة أن تتنبه لهذا الأمر.
ولقد أتضح أن هذا الراوي ليس فقط يتحدث عن الشخصيات ويقدم لنا ما في خواطرها وكيف تفكر، وإنما أخذ يتدخل في كل شيء وأصبح يوجه النص في اتجاه محدد، وفوق ذلك قام بإطلاق الأحكام على الأشياء وعلى الشخصيات وحاصر المتلقي بهذه الأحكام ولم يجعل له مساحة للتفكير، أو التعبير عن رأيه الشخصي حول شخصيات الرواية.
التقريرية
برزت تقريرية الراوي في النص حول الشخصيات وحركتها، وكأن الراوي يمعن في تقريريته بشكل متعمد، يقول:
1- "من يعبأ بماضٍ يحمل ذكريات من عاشوا فيه؟ من يبحث عن أسباب ما يجري في الحاضر؟ من يتبع الخيوط الممتدة من ماضٍ سحيق؟ كما لو أنه انسل من عجلة الزمن، العجلة لا تحمل إلا من يحيون اليوم، تدوخهم حتى ترمي بهم في غياهب النسيان" (بوخمسين. 2018. ص 13).
وإذا كان الراوي هنا يسرد جملة من التساؤلات ثم يجيب عليها بأحكام قطعية، فإن تقريرية الراوي وإلقاء الأحكام القطعية تغلب على الرواية وهي حاضرة بشكل واضح.
2- "أمينة المكتبة تتصفح إحدى الروايات، حكاية حب على أقرب تقدير" (بوخمسين. 2018. ص 13).
فهو هنا يقرر بأن ما تقرأه أمينة المكتبة رواية، ثم يوغل في إطلاق حكمه بشكل أكثر خصوصية بأن ما تقرأه حكاية حب على أقرب تقدير، وبهذا لم يترك خياراً للمتلقي، وأصبح يوجه النص حيثما يشاء، فنراه يقرر ويعلن عن نوايا الشباب ورغبتهم في الاقتران بزرين تاج قبل بلوغها سن الزواج، يقول:
3- " حمل الشباب نياتهم بالاقتران بها قبل أن تصل إلى عمر الزواج المعلوم" (بوخمسين. 2018. ص 15).
4- "وعلى أعتابه خرجت إلى كوكب الأرض حاملة رسالة تقودها إلى الله" (بوخمسين. 2018. ص 25).
وهنا تحديداً نجده يطلق حكماً على بطلة الرواية بأنها حاملة لرسالة تقودها إلى الله، ولم يترك للمتلقي المجال ليقرر بنفسه عن هذه الشخصية، وما إذا كانت تحمل فعلا رسالة تقود إلى الله أو إلى غيره؟
هذه التقريرات والأحكام القطعية يفترض أن يطلقها القارئ بعد قراءة النص والتعرف على الأحداث والشخصيات التي يراها تتحرك أمامه في المشهد، ولا يفترض بالراوي أن يقدم أحكاماً قطعية كهذه فيصادر حكم المتلقي، خصوصاً وأن بعض الشخصيات التي وردت في النص حقيقية وهناك أراء مختلفة حولها، وإن حاول الراوي أن يفرض واقعاً آخر من خلال الرواية فهذا من حقه، لكن لا يفترض به أن يطلق الأحكام ويقرر نيابة عن القارئ، ثم يقول في رسالته للقارئ في نهاية الرواية أن كل الشخصيات والأحداث متخيلة.
وإذا أراد أن يقدم رأياً قاطعاً حول الأشياء يمكن أن يجعله على لسان الشخصيات، بحيث يكون ذلك رأي الشخصية في النص وليس رأي الكاتب أو الراوي، فالجملة التالية لو قالتها شخصية في النص أو قررتها لكان ذلك مقبولاً.
5- "تتبعت خارطة تُرى بالبصيرة لا بالبصر لرجل ينير الطرق، ويشفي القلوب" (بوخمسين. 2018. ص 108).
مثل هذه الأحكام والتقريرات يفترض أن تقررها الشخصية ذاتها في النص، سواء من خلال الحوار أو التفكير أو التداعي، لأن مهمة الحوار هي كشف الشخصية وآرائها وتوجهاتها، وكذلك تفكير الشخصية بصوت عالي، أو من خلال التداعي الذين يعدا نوعاً من الحوار الذاتي، ومن خلالها يتم إطلاق الأحكام والتصورات بعد تحليل الأحداث والمواقف وربطها ببعضها البعض.
6- "المخلص الموعود، الذي يؤمن به المسلمون بكل طوائفهم" (بوخمسين. 2018. ص 46).
هذه واحدة من التقريرات والأحكام التي تفتقد للدقة والموضوعية، ذلك أن ليس كل المسلمين يؤمنون بالمخلص الموعود كما يقول الراوي، فالمهدي الذي يظهر في آخر الزمان الذي سبقت له الإشارة، لا يؤمن به جميع المسلمين، فالطائفة الإباضية لا تؤمن بالمهدي المنتظر كمخلص موعود، بل هي لا تؤمن بجميع ما يعرف بأحاديث ومرويات الفتن والملاحم في آخر الزمان، ومن بينها خروج المهدي والدجال وغيرها مما يعرف بعلامات آخر الزمان، المرهونة بقيام الساعة.
7- "اقترب موعد ظهور النبوءة الموعودة" (بوخمسين. 2018. ص 137- 138).
8- "كانت النبوءة دقيقة إلى الحد الذي أهدت فيه للناس توقيتاً يتحدى الزمن الذي اختلقه الناس في رؤسهم" (بوخمسين. 2018. ص 138).
هذه تقريرية الراوي باقتراب موعد ظهور النبوءة الموعودة، التي تشير لظهور المهدي الموعود، ولو كان هذا رأي إحدى الشخصيات لكان ذلك مقبولاً.
وفيما يخص موعد ظهور النبوءة الموعودة فهي ليست أكثر من مجرد رأي قاله الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، الذي قرر موعداً لظهور المهدي بعد ألف سنة من اختفاءه وغيبته - وفقاً للمعتقد الشيعي الجعفري الذين يقول بأن المهدي غاب بعد ولادته عام 255 هجرية - حيث قرر الأحسائي أن المهدي سيظهر بعد ألف سنة من اختفائه وأعلن أن ظهوره سيكون في العام 1260 هجرية، وهذا جعل الغالبية العظمى من رجالات الدين الشيعة يرفضون دعوة الأحسائي، نظراً لوجود أحاديث ومرويات تكذب من يقول بتوقيت الظهور.
وكان كثير من علماء الدين الشيعة لا يثقون بالأحسائي لاشتغاله بالفلسفة، وتوقيته لظهور المهدي جعله أكثر إقصاءً، لكنه اعتبر أن تكليفه الشرعي التبشير بخروج المهدي وأن يطلب من الناس الاستعداد لهذا الظهور، ثم طلب من تلاميذه أن يقوموا بمهمة التبشير بظهور المهدي في التاريخ الموعود، وبعد موته حمل راية التبشير من بعده الشيخ كاظم الرشتي الذي يعد من أبرز تلاميذه.
وبعد موت الرشتي نهاية العام 1259 هجرية وجد الشيخ علي الشيرازي الذي كان تلميذاً عنده الفرصة سانحة والأرضية مهيئة فأعلن نفسه باباً للمهدي والممهد لظهوره، وقد لاقت فريته في بادئ الأمر استحساناً لدى البعض، ثم ما لبث أن أعلن أن روح المهدي تجسدت فيه، وبعد ذلك أعلن أن كل النبوءات تجلت فيه وحده وقام بإعلان دينه الجديد الناسخ للأديان التوحيدية الثلاثة، وهذه الحقيقة قالت بها زرين تاج عندما "أعلنت نسخ رسالة محمد، وبأن الوحي لم ينقطع، وبأن الباب بابهم إلى النور" (بوخمسين. 2018. ص 184). وقالت "إن أحكام الشريعة الإسلامية قد نسخت الآن بظهور الباب" وأن الانشغال اليوم "بالصوم والصلاة وسائر ما أتى به محمد عمل لغو وفعل باطل" (بوخمسين. 2018. ص 185).
9- "ترسم أمامها جسر عبور يمكنها من الإمساك بأيادي بنات حواء لتريهم أن الزمان ماضي وأن التضحيات لا بد أن تقدم في سبيل التجديد"، "تبدأ رحلتها الأزلية، محاولة فتح باب الله" (بوخمسين. 2018. ص 28). ولم يكتفي الراوي بهذه التقريرات والأحكام القطعية بل جعل النص مشحون بهذه الأحكام.
10- "عربة قضى صانعها سبعة وعشرين يوماً لاتمام زينة هودجها" (بوخمسين. 2018. ص 26). هذه التقريرية تجعل القارئ يتساءل عن أهمية هذا التزيين الذي يستغرق كل هذه المدة في تزيين هودج بسيط، لأشخاص لا نظن أنهم يمكن أن يشغلوا أنفسهم بتزيين هودج كل هذا الوقت، ويجعلنا نتساءل عن نوعية هذه الزينة وعن هذه المدة الطويلة في التزيين؟
11- "يبحث عن المرأة التي ودها، ليجدها تجلياً نيراً لصنيع الخالق، يحوي بعد الأفق وعمق البحار" (بوخمسين. 2018. ص 28). كان حريا بالراوي أن يصف ملامح الشخصية ليقرر المتلقي مستوى جمالها، لكن رغم ذلك هذا التدخل مقبولاً نسبياً.
12- "بقي شاب في السادسة عشرة من عمره يجلس بجوار أبيه في دكان عتيق يبيع كباباً يقوم بشيه أمام المارة ليستحث جوعهم، يلفه في ورق أصفر بعد انضاجه، لمشتر لا يملك إلا يسيراً من المال يطعم به صغاره" (بوخمسين. 2018. ص 38).
هل من يبيع أكلا أمام المارة يستحث جوعهم؟ هو بائع ولا بد أن يكون في الشارع أمام الناس وليس قابعاً في بيته، والسؤال الأخر هو لماذا التأكيد على أنه يلفه في ورق أصفر، ما الذي سيضيفه تحديد لون الورق؟ وهل هناك ألوان أخرى للورق في ذلك الزمان غير الورق الأصفر؟ ثم لماذا الإمعان في التقريرية وإطلاق الاحكام القطعية بأن المشتري لا يملك إلا يسيراً من المال؟
13- "فتح باب المكتبة الموصد على غير عادته، فالمكتبة ترحب بالجميع كما تقول اللافتة على الباب الذي يسمح برؤية الداخل خلال الجزء الزجاجي السميك المضاد للرصاص أعلاه" (بوخمسين. 2018. ص 42). لا أجد أهمية لذكر الجزء المضاد للرصاص فهذا الأمر لا يهم القارئ، سوى أنه يمكن أن يفتح جانباً من التساؤلات حول وجود باب مكتبة مضاد للرصاص؟
14- "تتبعت خارطة تُرى بالبصيرة لا بالبصر لرجل ينير الطرق، ويشفي القلوب" (بوخمسين. 2018. ص 108).
15- "الطوفان الذي جرف معه أرواحاً ضعيفة كما اعتقد" (بوخمسين. 2018. ص 184).
من الذي يعتقد ذلك؟ إنه الراوي!
16- "بلغوا بيتاً في شيراز يأوي نوراً من فيض إلهي" (بوخمسين. 2018. ص 150-151).
17- "تعطرت للقاء المحبوب، علمت بأنها تقتل اليوم، فاستعدت بزينتها للوقوف في حضرة الله" (بوخمسين. 2018. ص 226).
18- في حديث الراوي بعد إطلاق النار على الباب يقول" لتسقي الأرض بدم تاق للخلاص، وآمن بقدرته على نشر النور" (بوخمسين. 2018. ص 208)، بالرغم من أن بين ايدينا كتاباً لعبد القادر شيبة الحمد بعنوان "البهائية إحدى مطايا الاستعمار والصهيونية" يذكر فيها نقلاً عن مجلة الشرق السوفيتية المنشورة سنة 1924/1925 مذكرات الجاسوس الروسي كيناز دالكوركي الذي ذكر أنه جند علي الشيرازي وآخرين وكان يتعاطى مع الشيرازي الحشيش، وإنه دفعه ليعلن دعوته، إلا أننا نجد الراوي يمعن في الإسباغ على الباب بأنه ينشر النور، وأن زرين تاج تتبع هذا النور وأنها تقف في حضرة الله.
هكذا كان الراوي يطلق الأحكام القطعية على الشخصيات والأشياء، وفي الجملة التالية نراه يقرر بأن فلان لص وآخر تاجر، رغم أن القارئ لم يجد اللص ولم يجد التجار إلا من خلال التقريرية والحكم المسبق الذي أطلقه الراوي وألصقه بالشخصيات يقول:
19- "وقف هرمز خلف لص جلس القرفصاء" (بوخمسين. 2018. ص 169)، "اقترب لص آخر غطى إحدى عينية بقطعة جلد" (بوخمسين. 2018. ص 170)، "علا صوت أحد التجار في وجه الريح، مخاطباً الموصلي" (بوخمسين. 2018. ص 170)، "اشتبك اللص مع أحد التجار في عراك" (بوخمسين. 2018. ص 171).
ولا أظن أن كون فلان لص أو تاجر قد أضاف شيئاً للقارئ، أو كانت له أهمية في تعريف القارئ بأن السفينة حملت اللص والتاجر لأرض العراق، خصوصاً وإن هؤلاء ما هم إلا شخصيات عابرة لم يكن لهم أي أدوار في النص سوى توصيل معلومة قتل زرين تاج، وهذا ينطبق على بعض أسماء الشخصيات الأخرى في النص والتي كانت شخصيات عابرة مثل بائع اللحم وبائع الحلوى والنساخ وغيرهم.
فلو قال الراوي: "قال أحد ركاب السفينة"، أو "قال راكب آخر"، أو " تحدث راكب ثالث"، أو "أحد ركاب السفينة الذي بدت ملامحه كلص بسبب ملابسه الرثة وقطعة الجلد التي غطي بها إحدى عينيه"، أو "أحد ركاب السفينة الذي بدى ثرياً نظراً لملابسه الأنيقة وطريقته في الحديث" وبهذه الطريقة يمكنه تعريف المتحدثين دون أن يطلق الأحكام ويقرر بنفسه.
ولقد وظفت الرواية آراء مختلفة حول شخصية زرين تاج، من خلال الحوار الذي دار بين هرمز رسام وأحد التجار على ظهر السفينة العائدة من لندن إلى العراق، ووجدنا في الحوار أراء وأحكام تم إطلاقها بكل تلقائية خلال الحوار (بوخمسين. 2018. ص 171 - 173)، وهذا الذي يفترض أن نجده في الرواية، بحيث نسمع حديث الشخصيات وأحكامها وتقريراتها عن الأحداث والشخصيات والأشياء التي تتحرك حولها، لا أن يقرر الرواي ما يشاء ويطلق أحكامه على الأشياء والأشخاص، فالحوار بين الشخصيات مهمته أن يفتح مجال واسع لتمرير الآراء والأفكار دون أن تكون فجة أو قطعية فنحن من خلال الحوار نستمع للرأي والرأي الآخر حول الأشياء والأشخاص والأحداث، ولنا نتفق مع رأي ونختلف مع آخر، أو نكون صورة معينة عن شيء أو شخص أو حدث، وذلك من خلال الحوارات التي يمكن من خلالها أيضا تمرير مجموعة من المعلومات والآراء والأفكار، وقد تضمنت الراوية حوار آخر (بوخمسين. 2018. ص 212-216) حول الكون والتاريخ والخلق والمادة والروح وزرين تاج وهرمز رسام.
الصور الجمالية
اتسم هذا العمل بوجود صور جمالية في السرد الروائي، بعض تلك الصور جاء بشكل سلس، وبعضها الآخر ليس كذلك بسبب تزاحم الصور، ذلك أن النص قدم الصورة خلف الصورة وبهذا لم يترك مجالاً للقارئ ليستوعب ويتابع بشكل سلس، فنجد على سبيل المثال:
1- "ذلك المساء لم يستضف الضباب، ودعا الثلج بصدر المضياف الرحب. أكرمته الشوارع باحتضانه" (بوخمسين. 2018. ص 161).
2- "وضع عماد كل ومضات ذاكرته في صندوق، وأغلقه بمفتاح المحاولة من جديد" (بوخمسين. 2018. ص 163).
3- "انني جزء من سرب الأرواح السابحة في هذا العالم" (بوخمسين. 2018. ص 164).
4- "استيقظ بغبار ذاكرته، ما حل بها يشبه عاصفة رملية مما اعتاد عليه" (بوخمسين. 2018. ص 9).
5- "مضت عجلة الزمن، حطمت فيها عروش، أنزلت من قدر أناس علواً وأعلت من لم يكن تاريخ ميلادهم يعني أي دليل في سجل النبوءات التي توارثتها المعابد والمآذن" (بوخمسين. 2018. ص 137).
6- " غرزت قدماها كما لوكانت شجرة دقت جذورها بثبات خشية أن يقتلعها الريح"، "تسمرت باتي كمسمار صدئ تشبث بلوح خشب لم يعرف عداه ولم يرد التخلي عنه" (بوخمسين. 2018. ص 240).
7- "تسربت خيوط النور المتأخرة، وتسلط ذراتها عليها، وتشير إليها بأصابع من نور، تحيلها عدسة عينه إلى صور تجتمع في سرداب ماضيه الموصد والمقفل بالسلاسل، تتفكك أقفالها الصدئة بدفعة ضغط خفيفة، وتنتشر رائحة التكديس المثير للدموع" (بوخمسين. 2018. ص 30).
8- "مسح الطاولات بفوطة رطبة، تكتل الطين عليها، وتمنى لو أن يديه تطال ذاكرته، تتملص ذاكرته من المهمة، وتنصاع أصابعه، فتبعد ذرات الغبار من على سطح كتاب عتيق بحذر، تحسس الأحرف، بروزها السافر، انحناءاتها المغرية، عنجهيتها على الصفحة تعكس اتقاد شخص استنزف وقته عليها، تمايل مع الحروف وضرب الأرض بخطواته، خطواته كانت طقطقة أصابع ذلك العاشق على الآلة الكاتبة، ايقاعها التاريخ وترانيمها خياله الذي نسج التفاصيل، من بين السطور كان حقيقتها، ومن كان ظلال خيالات الكاتب" (بوخمسين. 2018. ص 9).
هكذا تتزاحم بعض الصور الجمالية، سواء جاءت في جملة أو في عبارة، لكن رغم ما فيها من جمالية إلا أنها تجعل القارئ يتشتت أحيانا، كما تجعله يعيد قراءة النص ليفهم المغزى من جانب ويفهم الصورة من جانب آخر.
لذا أظن أن الموازنة في النص بين الصور الجمالية وبين مسار السرد الروائي والمزاوجة بين الاثنين بصور أقل، أو جعل الجماليات لا توغل في التفاصيل الصغيرة الهامشية، من شأنه أن يجعل النص أكثر سلاسة، فالعبارات الوصفية والتشبيهات والإحالات تجعل القارئ مثقل بالهوامش في النص، وبزخرف القول الذي يشتت القارئ بشكل كبير.
المكان
جاء في الرواية أسماء أماكن كثيرة فقد ظهرت بريطانيا والعرق وفارس وتركيا وأذربيجان، ويتضح أن الكاتبة منذ أن بدأت روايتها قامت بتأطير المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، الذي كان من قسمين.
القسم الأول يبدأ في بريطانيا، بينما القسم الثاني يبدأ في فارس ثم تنتقل الأحداث بين فارس والعراق وبريطانيا، وقد برزت في بريطانيا منطقة كنزنغتون وهي منطقة صغيرة وسط لندن لكنها أيضاً رغم صغرها تضم ثلاث متاحف كبرى هي متحف التاريخ الطبيعي، ومتحف فكتوريا وألبرت، ومتحف العلوم، كما تضم أيضا معالم بارزة مثل قاعة ألبرت الملكية، والكلية الإمبراطورية في لندن، وجمعية الجغرافيين الملكية، وكلية الموسيقى الملكية.
إذن نحن أمام منطقة هامة فيها جزء يسكنه التاريخ، وجزء تسكنه الحداثة والمعاصرة، بينما جزء آخر مسكون بالمستقبل نظرا لما فيه من طابع مميز ومقومات خاصة.
في العراق ظهرت في الرواية مجموعة من المدن مثل بابل وبغداد والموصل وكربلاء ونينوى والخيمكاه، وقد تميزت كل واحدة عن الأخرى بمزايا مختلفة، تمثل في بعضها التراث والآثار، بينما غلب على بعضها الرمزية الدينية، وأخرى كانت تمثل مركز الحكم والإدارة.
وأما في فارس فقد ظهرت مدن مختلفة مثل طهران وتبريز وشيراز وأصفهان وقزوين وخراسان وبدشت وماندان وأذربيجان وماكو، وكانت هذه المدن تظهر وفقا لحركة أبطال الرواية، ولا شك أن هذه المدن لها ما يميزها أيضاً.
العراق كان له حضور كبير ومميز وبارز في الرواية نظراً لكونه يشكل البؤرة الأساسية لمختلف الأحداث، فبطل الرواية عماد رغم أن الأحداث التي يعيشها في لندن إلا أن الجزء الصاخب من حياته والذي عرضه للموت كان بسبب اهتمامه بالعراق وبتاريخه وآثاره وبالأخص تاريخ وآثار بابل وآشور.
صاحب الدعوة البابية أيضا انطلق من بغداد، كما انطلقت زرين تاج من كربلاء وبغداد أيضا، بينما أنطلق هرمز رسام وأوستن لايارد من العراق، وتحديداً من بابل وآشور ونينوى والموصل وأماكن أخرى، للبحث والتنقيب عن الاثار من جانب ومن جانب آخر إرسال تلك الاثار بواسطة السفن إلى بريطانيا.
الزمن
في الرواية زمنين أساسيين يطل بهما الراوي على المتلقي، زمن حديث يبدأ من أكتوبر 2016، ويتحرك تصاعدياً في النص حتى يصل إلى عام 2021، وزمن آخر نجد حركة أبطاله في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد أثبت الراوي العام 1828 ضمن سرده عن الأحداث التي ترتبط بزرين تاج وزمنها، حيث نجد حركة الزمن القديم تتطور وتتحرك وتنمو بشكل تصاعدي، وكلا الزمنين تنتابهما بعض التشظيات، بسبب تداعي الشخصيات حيناً ولأسباب أخرى حيناً آخر.
وبينما يتشظى الزمن في قصة عماد فنراه بعد أن يصل للعام 2021، نجد أن الزمن في قصة هرمز رسام وأوستن لايارد ينفرط، فبينما كان هرمز رسام بجوار ركاب السفينة وهو عائد إلى العراق وقد سمع أحدهم يتحدث عن قتل زرين تاج بقوله: "فتاة من خراسان قتلت أتعلمون لم؟ لأنها أتت بدين جديد" (بوخمسين. 2018. ص 169).
وكنا نحسب أن خبر وفاة زرين تاج سيكون بمثابة اسدال الستار على قصتها في الرواية لكن نجد الراوي يباغتنا ليستمر في سرد قصة زرين تاج من جديد مستكملا من حيث انتهى في سرد قصتها سابقاً، ويقوم بتقديم تفاصيل أكثر.
وإلى جانب هذا الزمن الذي تعيشه الشخصيات هناك زمن ثالث أوجده الراوي العليم الذي يحيل الشخصيات على تلك الأزمنة عندما يقدم صور مجازية يحولها إلى تداعي أو خاطرة قد مرت على ذهن الشخصية كما نجده على سبيل المثال في العبارة التالية: "وضع حقيبته على طاولة خشبية مهترئة بقوائم شققها الزمن إحداها تبدو كجريح شُنت عليه غارة مباغتة ما جعله ينحني إلى الأمام لكن الانجليز هم من شنوا الغارات، وأرعبوا الخارطة، هذا ما يفكر به في كل مرة يضع حقيبته عليها منذ عام فتصدر أنه بصوت الأزيز يوجع أسنانه، أهي أنةُ الحرب أم مجرد صدى لرصاصة اخترقت صدراً عابراً" (بوخمسين. 2018. ص 11).
وهنا نجد الزمن يتداخل بين زمن تعيشه الشخصية ذاتها، وزمن آخر قد تم إحضاره من خلال الإشارة له على سبيل رسم صور مجازية أو على سبيل التداعي وما يخطر على بال الشخصية بشكل تلقائي، وهنا نجد أن الراوي العليم قد استحضر هيمنة بريطانيا على العالم والصقها كخاطرة مرت أو كانت تمر في رأس الشخصية كلما وضع حقيبته على تلك الطاولة، فنجده يستحضر غزو بريطانيا للعالم وهيمنتها عليه إبان القرن التاسع عشر الذي سمي بقرن الهيمنة البريطانية، وهي هيمنة شملت الأراضي والممتلكات وإقهار الشعوب و السيطرة التامة على التجارة العالمية.
ولا شك أن هذه الإشارة تفتح في ذهن كل متلقي نافذة كبيرة على أبرز تداعيات الهيمنة البريطانية، وسنجد أن الجرح الفلسطيني قد برز في مقدمتها أيضاً، مما يحيل المتلقي على أزمان مختلفة من خلال إشارات ودلالات وأحداث سواء كانت مباشرة في العمل أو غير مباشرة من خلال التداعي أو الصور المجازية أو من خلال دلالات العبارات في حوار الشخصيات.
الكوميديا السوداء
تجلت في النص بعض الصورة الساخرة التي مثلت كوميديا سوداء تقول الراوية:
1- "حُملت إحدى العربات بالكتب والمخطوطات التي وثقت وصححت وختم على اسنادها من الصحاح، وحارس بجانبها لا يفقه القراءة، يتساءل عن سرها يتنذر على حاله.. حارس لما لا يملك قدرة على رؤيته" (بوخمسين. 2018. ص 26).
2- "حيث اشتغل الشرق بروحانياته، وصراعات تفشي المعتقدات الجديدة، وتأويل أحاديث السابقين، أشتغل الغرب في جمع أحجية الشرق، بين بابل وآشور، وبينما تتجاذبه هتافات الشيوخ، انقسمت البيوت بين مجدد ومعارض، على المساحة التي لم توطأ قبلاً، من الإمكانات التي يباح للخلق التمتع بها، وانشقت الصفوف، تقسمت المساجد، ولم يصل الذين لا يؤمنون بما أتى به المجددون خلفهم، وانسل الشيوخ من صفوف معاديهم رداً على صنيعهم" (بوخمسين. 2018. ص 106).
3- "الله أكبر.. يتذكر الجيراني، يردد ذات التكبير ويقحم السكين في كفه" (بوخمسين. 2018. ص 196) هكذا يتقاتل المسلمين وهم يرددون نفس التكبيرات.
التنقيبات الأثرية
من خلال إقامة زرين تاج في العراق تطل بنا الرواية على عمليات التنقيبات الاثارية وكيف تبارت دول مثل بريطانيا وفرنسا على التنقيب عن هذه الآثار التي طالما نظرت هاتين الدولتين لهذه الآثار على أنها كنوز بينما كانت الدولة العثمانية والمسلمين لا يرون فيها أي جانب من الأهمية.
ولهذا كانت آثار ما بين النهرين تحمل كغنائم لبريطانيا وفرنسا بعد دفع الأتاوات للحاكم العثماني، تقول الراوية: "شُغلت الحكومة العثمانية في تلك الفترة بالحملات الإنجليزية والفرنسية التي تفتش أراضيها بحثا عن الحكايا، منقبة عن تاريخ يوصلها إلى حقيقة ما آلت إليه البشرية" (بوخمسين. 2018. ص 63).
وتستمر تروي عن هذا الواقع فتثير الغبار من خلال معاول المنقبين من الانجليز والفرنسيين، ثم تستحضر لنا حوادث موت العاملين في التنقيبات بين وقت وآخر، وكان أحد هؤلاء ابن جيران زرين تاج، حيث انهارت فوقه الحفرية ولم يتم انتشاله إلا بعد أن فاضت روحه يقول الراوي: حُملت جنازة من الموصل إلى كربلاء في دار قريبة من دار زرين تاج لفتى سالت دماؤه وسط عرقه أثناء حفّره الأرض التي تهاوت على رأسه" (بوخمسين. 2018. ص 64).
كما تستحضر لنا الرواية المنافسة الصاخبة بين بريطانيا وفرنسا للفوز بهذه الكنوز، حيث خاض الفريقين صراعاً كبيراً للاستحواذ على الكنوز العراقية، يقول الراوي: "أراد الحصول على السبق في استكشاف مناطق شمال نينوى ليتفوق على غريمه الفرنسي" (بوخمسين. 2018. ص 181).
وتبين الرواية من جانب آخر التزام المنقبين بأدبيات وأخلاقيات خاصة تحكم هذه المنافسة وهذا الصراع، يقول الراوي: "استشرى العرف بين المنقبين، من يستخرج آثار المنطقة أولاً، يملك أحقية استمرار البحث فيها" (بوخمسين. 2018. ص 66).
لقاء زرين تاج بهرمز رسام
تخبرنا الرواية من خلال قصة عماد بأن زرين تاج التقت بمنقب الآثار هرمز رسام، وذلك أثناء قراءته لمخطوط في مكتبة الجامعة التي يعمل فيها يقول الراوي: "المخطوط الذي شرع في قراءته مؤخراً. وجد فيه لقاءات المنقب هرمز رسام بزرين" (بوخمسين. 2018. ص 78).
كما نجد أيضاً خلال سرد الراوي لقصة زرين تاج لقائها بالمنقب هرمز رسام، حيث تم التمهيد إلى لقاء زرين تاج بهرمز رسام من خلال الفتى بائع الحلوى الذي كان والده يعمل مع لايارد وكانت المصادفة أن جاء هرمز برسالة للفتى من والده الذي قال إنه لا يجيد القراءة في الوقت الذي كانت زرين تاج حاضرة وقد أعلنت أنها قادرة على قراءتها له، ثم دخلت بعد ذلك في حوار طويل مع هرمز، وقامت خلال حديثها معه بكشف وجهها يقول الراوي: "كانت زرين قد رفعت غطاء وجهها بالكامل في أثناء حديثها مع هرمز" (بوخمسين. 2018. ص 112).
مناقشة عامة
تعرضت الرواية لجوانب تاريخية والقت الضوء على شخصيات لها حضور تاريخي معروف، لكنها اتبعت أسلوب معين في تقديم الرواية التاريخية وأحداثها معتمدة على أسلوب السرد وإن سايرت ما كان معروفاً ومشهوراً عن الشخصيات إلا أنها حاولت إبراز جوانب معينة مغايرة من بينها لقاء هرمز رسام بزرين تاج ودخولها معه في محاورة أشبه ما تكون بالعمومية فيما يخص توجه الشخصيتين.
كما حاولت الرواية أن توصل لنا إشارة معينة بأن هناك علاقة ما، بين زرين تاج وبين تلميذ يصغرها بثلاث سنوات اسمه علي، داوم على حضور درسها الذي أخذت تقدمه في منزل كاظم الرشتي بعد وفاته، وكانت ترى في هذا الشاب شيء ما، كما دار بينها وبين هذا الشاب حديثاً ضبابياً، وكانت حيثيات السرد والحوار تشير بطريقة ما إلى أن هذا الشاب هو علي محمد الشيرازي الذي كان طالبا لدى الرشتي، ثم أعلن بعد وفاة الرشتي أنه باب المهدي والممهد لظهوره، مستغلاً الأرضية التي تهيأت لهذا الحدث في العام المقرر لظهور المهدي 1260 هجرية، وقد توسلت الرواية دلالات لتشير لنا بأن هذا الشاب هو الباب ذاته فقد ذكرت أن اسمه علياً، وإنه من شيراز، وإنه كان تلميذاً لدى كاظم الرشتي.
ويبدوا أن الكاتبة حاولت معالجة بعض جوانب القصور في السرد الروائي من خلال توظيف أحداث ظلت متضاربة في أصل النص التاريخي الذي يرتبط بالشخصيات، ولتقديم مثل في هذا الجانب يمكن أن نستشهد بلقاء زرين تاج بهرمز رسام، كما يمكن أن نستشهد بأمر في غاية الأهمية وهو حينما جعلت الكاتبة زرين تاج تلتقي بعلي الشيرازي الذي أصبح من خلال النص تلميذاً لها أثناء تقديمها للدروس في بيت الرشتي، ثم وفرت الكاتبة حديثاً دار بين علي الشيرازي وبين زرين تاج، حيث قامت بشد وثاقه وتشجيعه على الانطلاق من شيراز، ثم ما لبثت أن جعلت زرين تاج ترتحل إليه وتلقي به بعد ذلك في شيراز، والمعروف بحسب الروايات الواردة تاريخياً أن زرين تاج لم تلتقي أبداً بعلي الشيرازي.
وهذا على العكس تماماً، مما عمل عليه كاتب روايات تاريخ الإسلام جورجي زيدان، وكذلك ما عمل عليه كاتب تاريخ العرب والإسلام اميل حبشي الأشقر، من خلال تناولهما المرويات التاريخية واستخدام النص التاريخي للأبطال دون تغير أو تبديل أو أي ممارسة عليه، والاعتماد على تقنية تتمثل في إضافة شخصيات أخرى ليتم من خلالها تقديم الرواية بشكل تشويقي وبشكل سلس والعمل على الربط بين الأحداث، حيث يمكن التحرك من خلال هذه الشخصيات الهامشية تماماً والاحتفاظ بالوقائع والشخصيات والاحداث والمقولات كما هي دون تغيير ودون نقصان أو زيادة على النص التاريخي، إلا من خلال تحويله نص أدبي يستدعي إضافات وتحسينات ومنمنمات لغوية لإظهار النص بشكل سردي سلس ومقبول لدى القارئ.
أخطاء وردت في الرواية
1- أشارت الراوية لأسم علاء وهي تريد اسم عماد وذلك عندما كانت تصف حالته أثناء محاورة، تقول: "ظهرت ابتسامة خبث على شفتي المتسول، أربكت علاء"، "انزلقت قدم علاء على الأرضية الرطبة"، "اختلس علاء نظرة ليدي المتسول" (بوخمسين. 2018. ص 33).
2- جاء اسم عماد أيضاً عن طريق الخطأ وكان الراوي يريد به هرمز فقال: "تلكأ عماد فاعتذر منه التاجر وتركه يذهب إلى مقصورته" (بوخمسين. 2018. ص 174).
3- ظهر اسم أحمد الجيراوي أولا ص 156 ثم ظهر الجيراني في ص 190 وفي ص 250 وفي ص 253 وفي ص 254، ما الصحيح في نظر الراوي؟
4- كان العنوان تاريخ "فبراير 2021" ص 259، ثم أصبح العنوان عن طريق الخطأ "فبراير 2020" ص 266 وهو عبارة عن تكملة للأحداث السابقة.. أيهما أصح في نظر الراوي؟
0 تعليقات