قراءة في رواية "ابنة ليليت".. للروائي أحمد السماري
كل سرد يقوم على فعل غياب، به يتشكل معنى معين، لا سرد في الحضور( حين نقرأ نصاً أدبياً، أو نسمعه قراءة )، لأنه يحيل على حدث يشغلنا بنوعه. السرد وإن كان يقوم على علامة تجميع، جهة الربط بين واقعة وأخرى، حالة وأخرى، في زمان ومكان مقدَّرين، إلا أنه يراهن على علامة تفريق، ليسمح لنفسه بالاستمرار، بقولة أن هناك ما كان، ولن يكون لهذا الـ" ما كان " إلا يما يشد إليه رغبة تحرّ أو تنقيب في محتواه، جهة المعنى، فيكون المستقبل. بالطريقة هذه، يسمّي السرد نفسه، كما يشير إلى كائنه، وهو مركَّب، جهة ما كان وراء ظهوره، وجِهة من يُعرَف به ضمناً. إنها مجموعة متباينة من العلاقات المتداخلة، والمتقابلة، والمتقاطعة، لا تحل أزمة، أو تجلوها بغية حلها، إنما تطرحها فنياً، لتجد صدى لها، في من يقبل على معرفتها، أو بنيتها.
ولأن السرد يتميز بلاتناهي أصنافه، أجناسه، ألوانه، أساليب قوله، سلالات إحالاته التاريخية، وأطياف وجوهه وأشباحها، يظل محتفظاً بهيبته، وفتنة الانشغال به، فليس فينا من ليس ينطوي على مأثورات سردية، ورأسمال رمزي من السرد، باسمه يحدث هذا الاهتمام المشترك.
وفي الرواية يحضر السرد بالكثير من صداه، ولكنه، في الوقت نفسه، يتكتم كثيراً على مداه، وذلك يتوقف في مهارة المعايشة والمكاشفة، على المعني به، دون زعم الإحاطة به، فبوصفه لغة، يكون العصي على المعلوم الحرْفي قائماً، ليكون التأويل هو قياف الأثر، بأكثر من معنى .
في رواية الكاتب السعودي أحمد السماري، الأحدث صدوراً" ابنة ليليت- منشورات رامينا - لندن، 2024، 158 صفحة " يعبّر مجهول السرد عن بنية القول لديه، وما لها من طيات في الدلالات، ولكنها بنية تتكتم على بداية مسماة، ذلك منطلق الخيال في السؤال عن ذلك، كما أنه بنية تمتد إلى الآتي، آت غير معلوم، كما هو مفهوم السرد أساساً، كما لو أن للقارئ رصيداً في مجهوله، فينشد دعماً، على قدر تفهّم النص في قراءة المكتوب رواية. تلك حيلة مشرَّعة، متفق عليها ضمناً، بين أي كان وسواه، على صعيد ما يقال أو ينتشر أدباً يمضي بالمعلوم إلى المجهول ويتهجاهما.
هوذا الأدب: رهان على المجهول، على المخالف بنسبة. هي ذي الرواية، احتفاء بالمجهول المفعّل نصاً بنسبة. ليكون مجهول السرد، ما يصح به اسمه في مسماه بنسبة كذلك.
يأتي السؤال ذو المحوَّل السردي: بناء على أي سردية كانت ولادة " ابنة ليليت "؟
في البداية تطرح " ليليت " الاسم الغابر في التاريخ اللاتاريخ الميثولوجي- الديني، نفسها: مَن تكون حقاً، أين تكون بالفعل، كيف تكون واقعاً؟
ما أكثر ما قيل فيها وهي تجمع ما بين الديني والتأريخي، وفي كل منهما، ما يحرّك الخيال أكثر من إرادة المعرفة الأركيولوجية، وفي " ويكيبيديا " بالعربية أو الفرنسية وغيرهما، ثمة الكثير مما تقدم. اختصاراً،هي شخصية ريادية أولى في تاريخ مفترَض، في بلاد ما بين النهرين، الزوجة الأولى لآدم" والخارجة عن طاعته، لأنها قوية. وهذه النقطة تبقيها محرّرة مما هو ديني، وللديني أن ينتظر الكثير، ليكون شاغل المؤرخ والآثاري وفقيه اللغة بالذات...إلخ "، كانت تمتلك شخصية نافذة معتدة بنفسها، وتعني لغوياً في أصلها السامي " ليل: من ليليت، ليليث، ليليتو" ولا يزال حضور الليل ككلمة قائماً فيها" بعد شطب: يـت ، من ليليت " والليل يحيل على الغامض، على المفاجىء، على اللامرئي كما يجب، وعلى المهدد والمخيف، والمخاض، واللامتوقع، وخاصية الصراع والشهوة" لنتذكر مدى صلة شهرزاد ذات المكانة الليلية في حكاياتها الألف وحكاية! " وثمة ما هو مترياركي، في مواجهة الأبوي: البطرياركي: أمومي في الموضوع، حيث السيطرة الأمومية معبّرة عن نفسها وسلطتها...
هنا يمثُل رأس الخيط بالنسبة للسماري، ليكون محرّكه في توليف مادته الأدبية: الروائية، ولا يفارقه من البداية، من الاستهلال الثالث إلى آخر كلمة في نصه .
وفي هذا الإجراء السردي، يحاول التحرك بين ما هو حكائي" الحكاية لا تفارق روايته ذات الـ 160 صفحة تقريباً " في طيفها، وحتى شبحها، إن عهدنا الكلمة الثانية إلى ما هو ليلي وثقل ظلها، أكثر من الأولى " طيف " وخفة المعنى وإمكانية التفاعل دون توتر يُذكر " وما هو قابل للتاريخ، إنما يكون لتدخل الرواية السياق الفني الحامل لاسمه، ما ينحّي الحكاية كاسم جانباً.
إنما إلى أي حد؟ وما حدود الصوت في نصه الأدبي، بخاصيته الجمالية وكثافة المتوخى منه، حيث الحكاية التي تمضي بنا نصياً، ودون وجود راع ٍ أو مالِك، أو نسَب تحال عليه اسماً، لتتحرك في اللامؤطر تمثيل دلالات، وقابلية عجْن بأكثر من خميرة رؤية تخيلية، ويبقى للصمت حيّز له فعله في تلوين المعنى، وحين تكون الكتابة لافتة نظر القارئ إلى أن هناك شيئاً قيل، ولكن هنا ما يمكن أن يقال، حيث لا تعود الحكاية رهن ماض غير معلوم، إلى مستقبل لا نعلَم كيف يكون، وعلى أي برّ تفاهمات اعتبارية، اجتماعية، وحتى قانونية ترسي. لأن في كل ما يُكتب وازعاً قانونياً، والسماري حين سطّر " ابنة ليليت" وأشهَر خياله الأدبي، لم يغادر واقعاً قائماً بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والقضائية والقيمية حتى بمؤثّرها الديني في بلده.
في المسافة الفاصلة بين صوت الحكاية الذي يتصادى بغير لسان معلوم، وصوت الرواية الذي يتردد نصياً، بلسان معلوم، هو صوت سارده الروائي الذي لا يكون غريباً على قارئه، وفي مجتمعه بالذات، تكون المسافة القابلة للنظر في بنيتها، وأي سياق فني اعتمده لسرده هنا .
سردية مفتوحة على مجهول، لأن مسار الرواية يتحرك صوبه، وربما ينبني عليه، ولكن دون اختفاء أثره، فالأسماء تمارس دورها في إبقاء الحكاية أسيرة " كان يا ما كان " نزيلة تصرف الرواية أثيرة ما يشغل الزمان والمكان بتلك المقدرة التخيلية لدى كاتبها، وصهرها في نصه.
السرد، كما هو المعهود فيه، ينبني، ويتلون على المفارقات، على نوعية الحركة، وهذه زمانية، والجغرافية، وهذه مكانية بداهةً، ولكن كيفية التحرك، وإحداثية المكان في جهاته، كما هو المقروء في العناوين الداخلية للرواية، تقلّم خيال القارىء بمقدار سؤاله عما يشغل أمكنته الموزعة بين " الرياض 1980 " الفصل الأول، و" الرياض 2011 " الفصل الرابع للرواية، وفي بداية الأول، حيث يكون المكان القابل للتحري في بنيانه الاجتماعي القائم على صوغ أدبي: روائي، تكون المتكلمة هذه المسماة" ابنة ليليت: جواهر "، وهي في بدء قوتها الشخصية، إلى الكلمة ما قبل الأخيرة وبلسان ابنتها" ميلا " وهي في أميركا، في اتصال، مقروء من خلال صوت السارد الذي يستدعي الروائي نفسه، وقد أصبحت في عالم آخر" شبه منتحرة "..
وبين حضورها قوية وفي أوان تفتح قوتها الشخصية وصعود نجمها الاجتماعي والنفسي والشخصي في جغرافيا واسعة قارية تسمّي ثلاث قارات، إن جاز التعبير: السعودية أفريقية، وصومالية، والآسيوية: هندية، نسَب أم جواهر، أي باميلا، والأميركية، حيث عاشت حياة متلونة في أبعادها الاجتماعية، السياسية، والعملية" الطبية " والثقافية...إلخ .
مساحة هائلة، اعتمد الكاتب على تلك المشاهد التي تفي نصه كما قدَّر له . ورهانه سعودي منطلقاً ومختتماً، رغم وجود مساحات جغرافية خارجة، ولكنها استدعاء بغية تعمق المكان الجغرافي الاجتماعي والقيمي في الصميم، وفي الوقت الذي يأتي الفصلان: الثاني" نيويورك " والثالث" لوس أنجلوس " غفلين من التأريخ، خلاف الأول والرابع إشهاراً بواقعة بيانية معلَّمة، سعودياً، وهو ما يستحق النظر فيه، لأن بؤرة الحدث وومضتها مأخوذتان سعودياً...
ليطرح سؤالٌ نفسه: أين هو معلوم نصه، مقابل مجهوله؟ ما التابع" المفكَّر فيه والسائد فيه " وما المتبوع خارج معلومه؟" اللامفكر فيه حيث يتطوع له خيال الكاتب، وما فيه وعليه من رهان تحويل المحكي غفلاً من اسمه، إلى المحتفى به مختوماً بالاسم والممكن تأطيره زمانياً ومكانياً "..
هذا السرد الذي تتبناه لغة الأدب روائياً، يعيش مخاض هويته، أو تجنيس اسمه، ومدى تعرضه للتنحي صوتاً لا وجه له، إلى صوت موزع بين أصوات، بحكم الكتابة بوجهتها المحددة، وما يمكن للكتابة أن تقول ما يمنحها قيمة جمالية، حيث الرواية تبدأ كأثر مع قارئها ..
ربما السماري حدد ما يعنيه كموقف من هذه الـ" ليليت " في استهلالاته الثلاثة، وهي تتفاعل مع بعضها بعضاً، رغم التباعد في المحتوى، ولكن وجودها متسلسلة في مبتدأ الرواية، يوحّدها:
الإهداء، حيث يستدعي اسم أستاذه الذي ينتمي لديه إلى الآتي" وهو راحل" كما الحال مع ليليت ذات الحضور الغائب، في شخص ابنتها المسماة"الراحلة " وذا الأثر الممتد إلى الآتي"، ومن خلال خاصية " الهجرة " وتمثّل في من" جهة القوة " الهجرة وليس التهجير، وما في الحالة هذه من رغبة واعية بالتحول، ومن قابلية رفض للمكان بأهليه، جهة المعمول به كعلاقات اجتماعية، وما يكونه الخارج من تفضية وتعرية ما للداخل، وتعيينه محكوماً بالانغلاق. السرد يخلص لهذا الاتجاه، جهة مغادِرة المكان وهي عالمة بمحدوديته وتأطيره، إلى المكان الواسع الذي يفيض بالمغامرة وبناء الشخصية المتنامي، والمواجه للأول والمعرّض له لأسئلة تترى، وتبايناتهما.
الشكر، وهو موجه إلى الذين كانوا وراء – ربما- فكرة نص كهذا في مجتمعه طبعاً، وما فيها من مفارقة للواقع، أو معاينة لخلل اعتباري، دونه ما كان لهذا النص أن يشهد ولادة أو تسمية تاريخ بالذات، وما في كل ذلك من رأسمال رمزي، يضيء شخصية الكاتب نفسه وموقعه فيه . هذا الشكر أكثر من كونه مجرد عرفان بجميل الآخر، وفي وضع كهذا، إنما ما ينتظر التحول قيمياً.
الإشارة، وهي تمثل تعريفاً تأريخياً لليليت، بصفتها اسماً أنثوياً متمرداً على النظام الذكوري، وإضاءة لشخصيتها وكيل مديح لها، لولا ذلك لما كان هذا الموسوم بـ " ابنة ليليت ". الإشارة مد بالنظر إلى جهة ما، وتحديد لنقطة شاهدة على إخلال بواقع لا يعود ضامناً للمأمول آتياً.
مع العنوان ، عن العنوان
العنوان أكثر من كونه إشارة. إنه نسب مكاني يمضي بنا إليه وتلمسه، ولكنه يتنكر لوظيفته، من موقع الحرَفية الخاصة، بمقدار ما يخون هذه الوظيفة بطابعها المدرسي أو المؤسساتي، قلباً للمكان، ورغبة في اللامكان الذي يُتشوَّق إليه، أو تكون الرغبة النفسية إليه مغايراً لمعلومه.
والعنوان فصل زماني ومكاني بين ما كان وما يكون قُدماً إلى ما سيكون. إنه" المكان" يفرض نصه المسمى داخلاً، ويهز شباك معلومه، فعبره يتم ضبط تاريخ، وتمرير مؤثرات قائمة.
تلك لعبة الكتابة في أنها تنزع عن نفسها ما هو أدائي، معلوم بمقاساته المؤسساتية، كتابة تنتسب إلى شخص لم يتعهد بقول ما هو منتظر منه، بالعكس، بقول ما يُخشى جانبه، أو يُتحفَّظ عليه، كما هو الممكن النظر فيه، جهة النسيج النصي للرواية، وتلك الصراعات التي تحرك السرد.
إذا كانت ليليت نفسها غير مستقرة إلى الآن، بين أن تكون اسماً من لحم ودم، وللتاريخ أن يتكفل بالكشف عن سجله ومتطلباته، وهي تنوس بين ما هو ديني: رمزي، وعِبرة الأثر بالتأكيد، وما هو تاريخي: اعتباري، ودلالة المأثور وما يُستوفى منه فنياً، وأن تكون افتراض اسم، بما فيه من دسم المعهود جنسانياً، ومواقعياً، ومقابلته بالجاري في مجتمع رافض له، وما يمكن للأسئلة أن تحتشد بأكثر من صيغة، تجاه واقعة قائمة، هي مشكل، والرواية تقوم- أساساً- على تسمية مشكل بطريقتها، دون أن تمارس دور المحلل أو القاضي أو المشرع، لأن المشكل أبعد مما هو مؤطَّر فيه، أي ليس على طريقة " توته توته خلصت الحدوته " الرواية محررة من هذا التوقيع الحدّي.
وفي الوقت الذي يدفع بنا السماري إلى مكاشفة هذه العلاقة بين تسميتين: الحكاية: في نهاية الإشارة " ص 9 " بقول سارده أو هو نفسه" إنها حكاية جواهر ابنة ليليت "، والنص معلوم به كونه " رواية " فماالذي حدث أو جرى؟ أن تكون حكاية، فهذا يعني أن ليس من مسئولية قانونية تستدعي الكاتب لمواجهته بما جاء به. الحكاية تخرج عن سياق الزمان والمكان، تتنفس دون جسد معلوم باسمه ونسبه وناسه ومجتمعه حرْفياً، منزوعة المكان، وتستقر في أكثر من مكان، وأن تصبح رواية، وما تتطلبه الرواية، في بنيتها من اسم، لتمارس حضورها، ويُلتَفت إليها، وفي القراءة يكون الكاتب حاضراً باسمها، لأن أي حديث فيها أو عنها، يمثل حواراً معه، وفي الحكاية يكون الحوار مع نصها المتحول دون تأطير، وليس مع قائل، هو مجهول أصلاً.
ثمة مغامرة بأسية في هذا المحوَّل الاسمي دون التخلي عن أي منهما: في الحكاية ما يجعلنا ننشغل بحقيقتها، وكيف تكون، حيث تُرفَع المسئولية الشخصية كثيراً، عند استدعائها، إنها برّية، لتصبح أهلية، وقد استوطنت مجتمعاً، وأنيطت بها مهمة أخرى، على أرضية الكتابة الإبداعية، ومدى قدرة الكاتب على منحها استقلالية قيمة فنية، يكون منشود الاسم المختلف هو المتوخى.
الكاتب لا يخفي قلقه مما كتبه، أو أفصح عنه بذائقته الأدبية: هناك ما هو قائم كمشكل اجتماعي، وبأبعاده المختلفة، جهة استقدام عمالة من بلاد أخرى، وتبعاتها القيمية أساساً، و" باميلا " أم أو والدة " جواهر " الهندية، والتي تم استقدامها، لتكون خادمة في بيت سعودي ثري، وتصبح زوجة لصاحب البيت بعد موت زوجته، ودون أن تكتسب تلك الصفة الاعتبارية: زوجة كما هي السعودية، إنما الخادمة بأكثر من معنى، وكيفية التعامل مع " جسد اجتماعي " كهذا سعودياً.
هذه النبتة الإنسانية والممتلئة حيوية، جواهر، وما يعنيه الاسم من قيمة فنية وأخلاقية، وهي ثمرة أبوين بينهما غاية الخلاف: الأب السعودي، الذي بقي في المحصّلة مخلصاً لموقعه الاجتماعي، وكما تقتضي الأعراف، وكما تحكم المؤسسة ومشغل قانونها بهذا الصدد، رغم إظهار حبه لابنته هذه، والأم الهندية التي تعيش ضعفها، بحكم المكانة، وقوتها، بحكم معرفة المكانة واحتجاجها، وفي ضوء إخلاصها الزوجي، والعائلي، وهي ترى في مسيرة ابنتها صوتها المكتوم وقد برز، هذه النبتة تمثّل تاريخاً من العلاقات المتحولة، ولكنه تاريخ ينزف وجعاً، وقلقاً، وأحكاماً تتميز الطقوس والتقاليد المجتمعية ذات البصمة الدينية وقِدَمها، لتكون ابنة ليليت، وما يعنيه النسب هذا في جنسانيته" أنثويته " من رفع سقف المعنى ودلالته، ضداً على السائر، أو إقلاقاً له، لأن هناك ما يستحق إعادة النظر فيه، في ضوء المنغصات والمشاكل العالقة، وكيف يُغض الطرف عنها.
أن تكون ابنة ليليت، والرواية تكشف عنها منذ إشارة الكاتب، وفي النص، هي حامل النص، وهي رهان النص، وهي مأساة النص أساساً. في رواية كهذه، وكل رواية يوجد نعي لما هو قائم، وحداد مفتوح لمن يعنى به أو ينظر في فحواه، لأن الرواية أساساً تراهن ديمومة، على الصادم والمقلق في الحياة، والموت هو الدرجة العليا في صيرورة المأساة ومخلفاتها الاجتماعية وسواها. الابنة مستدعية الأب والأم، ولكن العنوان لا يتطلب تأويلاً، إنما هو تقليص المسافة التي تكشف ما بين حدين: الأم دون الأب، وهذا التنسيب، في مجتمع يأخذ باسم الأب أو الذكر نسبة،يمثل انعطافة اجتماعية، لا يُسكت عليها بسهولة، إلا من جهة واحدة: تأثيمية، حيث لا تكون الرغبة قائمة في تسمية أب تكون علاقة الأبوة معترَفاً بها،والابنة لها مكانتها المعتبَرة كذلك. يا للصدع!
حركية الرواية
سرد السماري يقوم على المفارقات، وفي إطار الثنائيات من أول نصه إلى نهايته، ثنائيات تمثّل المعْلم الرئيس لروايته، وإنما خارج التصنيف الحسابي، الذي يجمّد المتخيل، ويهيكل الكلام نفسه.
بين والدي جواهر، بين جواهر وأخواتها، من الزوجة الأولى لوالدها، وبين أخواتها، وخاصة الكبير فيهم " دعيج " والممثل للأب في المكانة الثانية اجتماعياً في العائلة، وتحكمه بكل شيء في إدارة أمور العائلة داخلاً وخارجاً، وأمها، وكان سبباً لترحيلها، لتتعمق المأساة، وهناك يكون للسرد دون تعميق الأثر، بين كونها جواهر ابنة خليفة بن دعيج، وكمسلمة، وكونها د. جورجيت دافور، حين حلت في أميركا، ومقابلها، ذلك الأميركي والبروفيسور الطاعن في السن والذي أصبح مسلماً وصار له حضور في السعودية: عبدالله طالب...، وما يترتب على علاقة كهذه من توترات هي مطعّمات السرد وملونته، حيث الجنسانيات لا تخفي لعبتها، في تهديد الصامت، وتلغيم المواقع المتكتمة على نفسها، وإيقاظها تجاوباً مع آت معتبَر!
كما قلت/ صفة " الحدوته " قائمة في الرواية جهة حركية السرد، لكن المساحة المعطاة للأحداث والوقائع، تنحّي الحدوته، كاسم ودلالة، جانباً، دون التخلي عنه، في تحريك الرواية بالقدر الذي تستجيب لرغبة المتخيل في وهْب الاسم خاصيته التي تجعل النص محرَّراً باسم الروائي: إبداعه.
وجدتني إزاء قراءة هذه الرواية، في وضعية نفسية مغايرة لروايات كثيرة قرأتها: عربية وأجنبية، استناداً إلى طريقة تناول الكاتب لمفهوم السرد لديه، ورهانه على مجهوله، وما يبقي المجهول عالقاً يمتد به، وبقارئه إلى المستقبل، ليكون رصيده الرمزي معلوماً.
لهذا، لن أتدخل في التفاصيل، جهة الوقائع وهي موزعة بين مجرياتها في المجتمع السعودي، وفي مدن مختلفة: الخبْر، الرياض، الدمام..إلخ، وأميركا: نيويورك، لوس أنجلوس وغيرهما، وفي جهة نائية ذات توترات: موريتانيا بتنوع جغرافيتها وأسماء مدنها، وكون ابنة ليليت طبيبة بشرية فالحة، ومثقفة، ومهتمة بتحولات الأحداث في العالم، وهي مناقب وسمت فيها شخصيتها هكذا، أي لتكون ابنة ليليت، ترفض الطاعة لمن يريد أن ينال منها، وقد انتكست كثيراً، أو عانت كثيراً، في المجتمع الذي ولدت فيه، ولم يعترف بها، وفي أميركا بالذات، بدءاً من القضاء على عذريتها، ودافعها إلى الانتقام من الفاعل، وصخب المجتمع الأميركي وحساباته الدقيقة والصارمة والصادمة في آن مع الذين يقيمون فيه، وما أزَّم به وضعها وخساراتها فيه، وما أظهرته من وفاء تجاه أخوتها: دعيج الذي نرض فداوته هي في أميركا، ولم تقبل بالعودة، لحظة الطلب منها، لأن الأوان قد فات، ولأن النتيجة محسومة تجاه الاعتراف بأمها في مجتمع قائم على مفارقات محروسة بدقة، أي الاعتراف بأم هندية، لا مكانة اعتبارية لها ومثيلاتها في السعودية.
لهذا أكتفي ببعض الإشارات، وهي تفصح عن حضور الصوت السارد من قبل جواهر وتالياً من قبل ابنتها ميلا الأميركية، ومعنى تمثّل الصوت سردياً هكذا:
( شعرت بسعادة لا توصف حينما رأيت اسمي مسجلاً ضمن الدفعة الأولى من خريجات كلية الطب، في جامعة الرياض، والمؤرخة في العام 1980م " 1400 هـ "، ص 13 ).
وما يخص والدتها، حيث تأتي جواهر على ذكرها:
( اسمها باميلا، ويعني البريئة، وهي بالفعل إنسانية، مسالمة وخدوم وبريئة. ص 14 ).
استقدمها أبوها خليفة بن دعيج وكنبته أبو دعيج، رسمياً، لتصبح زوجة له بعد وفاة زوجته الأولى وهي سعودية، إنما ( العلاقة التي جمعت أمي بأبي لا تتجاوز علاقة السيد بخادمته، فهي تلبي جميع احتياجاته الشخصية. ص 15 ).
طبعاً بالنسبة لجواهر، أرادها أخوتها، والكبير في الواجهة، أن تدرس في فرع آخر( اقترح أخي الأكبر دعيج أبو خليفة أن ألتحق بكلية التربية للبنات في الدمام لأتخرج معلمة، وأدرّس في مراحل التعليم العام، وهو ما كنت أرفضه إلى درجة المقت، لأنه أقل كثيراً من طموحي وقدراتي وأحلامي. ص 17).
طبعاً كانت أمها تقف معها، وتسندها، لاعتقادها ( أنني مكسبها الأكبر من هذه الزيجة. ص 16).
وما يخص موتها، وهو مشكوك في كونه موتاً طبيعياً، وحين تتأسف عليها ابنتها، وقد بلغها خالها السعودي: عبدالرزاق، بما جرى لها، لأنها كانت تريد أن تراها( رحمها الله.. لقد عاشت حياة عظيمة.. كم تمنيت لو التقيتها، وهي على قيد الحياة..ص155 ).
تنتهي الرواية ولا تنتهي
يبقى سؤال السرد الرئيس عالقاً، ومطروحاً بقوة:ماذا حدث بعد ذلك؟ وماذا يمكن أن يحدث؟
السؤال في جمعه، وهو فرد، يخلص لمهمته في إقلاق كل جواب محكوم بتسمية قائمة، وحرصاً على موقعه، وحباً بالمختلف، خوفاً من نفاذ أثر صيده في ضوء التحديات المندلعة هنا وهناك!
الآخر هو الذي يتكلم، والآخر هو الذي يصوغ مأساته، ويسمي الفاعل بالذات ومآله بالمقابل.
لا مناص من الإصغاء إلى هذا الآخر، اللاحدودي، والداخل في حدود يستحيل تجاهله، حال ابنة ليليت وأمها، وابنتها: ثالوث أنثوي مترامي الأطراف، أي تجاهل له كارثي في مداه وصداه.
فهناك ما يمكن قوله: في المجتمع الذي شهد ولادة الرواية هذه، ثمة مشاكل عالقة، تجاه وضع كهذا، مشكال من لحم ودم ولغة معلومة بناطقيها وموجهيها والقيمين عليها. الأم، ماذا حصل معها، وابنتها، عاشت حياتها باقتدار، ولكنها تلقت صدمات كثيرة. وربما يكون موتها المؤسف له حصيلة الخطأ الأول وضحية أزمة قائمة جرّارة عنف، وهو عائلي، جهة عدم الاعتراف بها، في زواجها من مسيحي أميركي، وهذا الأميركي الذي أسلم، ماذا يمثّل من جهته؟ توازناً؟ لعل الإشكالية كبيرة، لأن استمرارية الأميركي وبقاءه حياً، وبالمقابل، موت ابنة السعودي، مأساة لا تجد لها حلاً، بالعكس، تتعمق، وتمثل شرخاً في مجتمع، مأخوذ بما هو ذكوري، وأن الرهان على ما هو ديني وجنساني، يبلبل المجتمع نفسه، كما تقول نتيجة الرواية.
رواية" ابنة ليليت " لا تخفي صرختها الجريحة على واقع يُنظَر فيه، وفي وضع تشهد فيه السعودية نفسها محاولات لا تخفي مساعيها في التحول إلى مجتمع أكثر انفتاحاً على الآخر، وأكثر قابلية للتكيف مع الحياة في ثرائها، وعدم الرهان على ما هو محكوم بما هو تقليدي، في زمن يتحدى رهاناً ضعفه الكينوني معلوم، والآخر هو زئبقه الحركي والشاهد على نوعية الحياة، وأفق المنتظر فيه، وهو أفق لا يخفي جانب المأسوف عليه، في كل تجاهل لحقيقته المؤكدة.
هل الرواية هذه، يا تُرى، جاءت بناء على تقديرات قرائية واجتماعية للسماري، لمجتمعه، وما يعيشه من مخاض تحولات، يوسّع به علاقاته، وبنيتها فيما يتعدى مجرد التجديد، أي ما يخص كيفية التحرر من ربقة ما يضيق الخناق على هذا المجتمع كمعنى، والتحول نوعياً إلى سواه، حيث تحديات الرهان لا تقبل التأجيل. أهي صرخة باسم امرأة مضحىً بها، وما لها من دلالة، للقيام بما هو مطلوب، أو في عهدة مطلوب، وفي سباق مع الزمن، قبل فوات الأوان ؟
0 تعليقات