حوافُ الحب الجارحة في رواية "كربون".. لمحفوظ بُشْرى
أنْ تعيش شبابَكَ في ظلّ حكم الإنقاذ في السودان، لهو أمرٌ قاسٍ، مؤلم ومقيت. دعك من أنْ يكون شبابك ذاك، متاخماً لحدود انتماء يسارىّ، أو يساريّاً كامل الدّسم.
تظلُّ فترة التسعينات، والألفينات الجحيم الذى لا يملكُ الشّابُ اليسارىُّ أنْ يتذكّره إلّا كمن يضطر إلى شرب الحنظل، دواءً. يُقبلُ الروائي السوداني محفوظ بشرى على إعادة بناء ذلك التشظّى، فى روايته "كربون"، الصّادرة حديثاً عن دار ويلوس هاوس 2023م.
الرواية التى وصفها الروائي منصور الصّويّم بأنها بناء هندسىٌّ، أو شيئ من هذا القبيل. وذلك لمعرفته بطريقة كتابة محفوظ بشرى، الدقيقة مثل جراحة المخ والأعصاب.
عالم الرّواية عالم التسعينات والألفينات. المشحون بكلّ شيئ. العالم الذى يضعكَ مباشرةً أمام العجز الكلّىّ. فالبطلُ – الذى لا يردُ اسمه، قطّ – نموذج لشباب تلك الفترة.
مضطربٌ، يحسُّ بالعجز الذى يلتصق بالرّوح، حتّى لتكادُ تنسلخ عن ذاتها. مثقفٌ يسارىّ، دقيق الملاحظة، منعزلٌ نوعاً ما، لا ينخرطُ فى مهنةٍ واضحة، يقع فى حبّ فتاة نموذجيّة، هى "خيرات".
وشخصية "خيرات" في الرواية يمكنُ تأويلها – كما درج النّقّاد في مقارباتهم للنصوص السردية.
لكنَّ التأويلات في نهاية الأمر قراءة أخرى على المتن في سياق قراءة نقدية Metacriticsim لما بعد النقد في تجاوزها التأويلي، ولا يمكنُ الجزم بأحدها، وهي – في الغالب الأعمّ – مخطئة.
حدثتْ حادثتان طريفتان فى التأويل. فقد جرى تأويل النّص الشّعرى الشهير لأغنية "بناديها"، للأستاذ الشاعر عمر الطيّب الدّوش، والذي تغنّى به الفنان السوداني الأشهر محمّد وردىّ، تأويلاتٍ عديدة باذخة. لكنَّ الدّوش فى حوار صحفىّ قال إنَّ كلّ ذلك اجتهاد. فقد " كنتُ أجرّبُ تطعيم القصيدة العاميّة بالفصيح".
مثل ذلك حدث حين قدّم النّاقد والمترجم السوري الشهير د. كمال أبو ديب، تفسيراته لـ "استراتيجيّة البياض"، محاولاً أنْ يجد تفسيراً إبداعيّاً للصفحات البيضاء فى رواية "بندرشاه" للطيّب صالح. غير أنَّ الطيّب صالح في حلقة لقناة أم.بى.سى، قال إنَّه كان يعود إلى الكتابة فى فترات متباعدة. وحين يستأنف ذلك، يقلب صفحة من "الدّفتر"، ويكتب.
حين أخذها الناشر، ظنَّ أنّه يريدُ أنْ تكون الصّفحات البيضاء جزء من النّص، فأبقى عليها.
لكنَّ ذلك – بالطّبع – لا يجعل تأويلات النّقّاد عملاً بلا جدوى. بل هو إضافة للنّص، تفسيرٌ للعالم الروائي، وزاوية نظر منفتحة على عوالم متعددة. إن شخصية "خيرات" في رواية محفوظ بشرى هي التكوين المثالىّ للجسد الأنثوىّ، بحسب معايير البطل، التى ذكرها. وروحيّاً، هى أقصى ما يمكنُ أنْ تمثّله الحريّة النسويّة، فى ذلك الزمان.
يمجّدُ البطل جسد "خيرات"، يعامله كتحفةٍ نادرة، تدهشه روح خيرات، طبعا. لكنّه مع افتتانه بجسدها، تعلّقه الرهيب به، تسلطن ذلك الجسد على عوالمه جميعا، يقف عاجزاً عن الوصول إليه، عن اختراقه، غزوه، الولوج إليه. ليس لإنَّ "خيرات" ترفض ذلك. ولا لأنَّ الأنظمة الأخلاقية والأعراف والدّين والتقاليد. بل لأنّه يعانى مشكلات جوهريّة فى الفحولة.
هى مشكلات نفسيّة، اجتماعيّة معقّدة. وهنا تكمنُ أزمته. لكنَّ "خيرات" تعاملتْ مع الموضوع بمنتهى الجديّة. أخذتْ على عاتقها أنْ تشفى البطل من "عجزه" هذا. سيكونُ نذر "خيرات" وعهدها له، أنْ تظلَّ معه إلى أنْ يتمكّن من ولوجها، ثمَّ سذهب فى حال سبيلها.
في الرّواية ستجدُ رائحة الأماكن المحبّبة إليك، إذا كنتَ شابّاً نشأ في ظلّ نظام الإنقاذ. ستجدُ رائحة وطعم في مقهى "أتينيه"، معارض الكتب، أشجار اللّبخ الظليلة فى نواحى الخرطوم وبائعات الشاى تحتها، النّقاشات التى لا تؤدّى إلى شيئ، البحث عن أماكن للأكل والشّرب فى نهارات رمضان، السجالات حول الهويّة:
عرب أم أفارقة، المجتمع المتناقض المريض الممتلئ نفاقاً، قد يلسعكَ مذاق "العرقى"، وبعض أنواع السّكر الفاخر المستورد، ستتقاسم سيجارةً حمراء وخضراء مع أناس معاتيه، تجازف جنساً ملعوناً فى "بيت عزّابة" أو فى مكتب...الخ.
تمثّلُ "خيرات" التحدّى الأصعب بالنّسبة للبطل. البطل مهووس بالكثير من الأشياء، لكنّه غارق فى هوسه الجنسىّ، الناتج عن "عجزه" عن الولوج. ليس إلى جسد "خيرات"، وحسب. وإنّما يعجز عن إىّ امرأة أخرى. تأسّستْ تصوّراته الجنسيّة من القراءة، من صورة امرأةٍ عارية في مجلّةٍ إباحية، وهو ما يزال صبيّاً. تسلطنتْ الصّورة، قصص الجنس على مخياله، والدافع الجنسىُّ، بعضه الخيال، كما يقول الفيلسوف الإنكليزي كولن ولسون، وكما يذهب أساطين مدرسة التحليل النّفسى. تتشكّل "العقدة"، إذن.
لا يعتري القارئ أو الناقد شكُّ فى أنَّ الجنس وشخصية "خيرات" في رواية "كربون" محفوظ بشرى تحتاج سبراً وتأويلات متقنة. ليس جنساً من أجل الجنس. يشبه الأمر – وهذه المرّة صحيح – تأويلات مدينة "أمدرمان" لدى الشاعر محمد الواثق، الشاعر الفريد. فهى ليست أمدرمان. تنفتح على دلالات متعدّدة، إلى ما لا ينحصر من التأويلات.
ولذلك فعجز البطل ههنا ليس عجزاً جنسيّاً. هو عجز عن الفعل التأريخىّ. عجزٌ عن (خلق الحياة)، بما أنَّ الجنس هو الوسيلة لاستمرار النّوع، وبما أنّه الفعل الذى يشير إلى القدرة على "إنتاج العالم وتجديده".
تتواطأ معه "خيرات". لم يقولا إنّهما قد وقعا فى الحّبّ بالطريقة المعروفة للوقوع فيه. هما ليسا حبيبان. لكنّها تأخذ على عاتقها تسوية مشكلات عجزه، بالذّهاب إلى طبيب نفسىّ، علاج أعشاب، تجريب كل ما من شأنه أنْ يعالج هذا العجز. ستنجح فى علاجه. سيقوم باختراقها. لكنْ متى وأين وكيف؟ هذا ما سيجعل التأويل ضروريّاً.
كان ثمّة مظاهرة، ضمن سلسلة مظاهرات شبابيّة ضدَّ النّظام السياسي. "كتمت فيهم هو وخيرات وآخرين".
الشرطة تعاملت بعنف مع الشباب، الغاز المسيل للدّموع، الهروات، الضرب، الجرى، الشباب يتعاملون بالطّوب، ردّاً على عنف الشرطة وبطش كتائب النّظام. وإذْ تتفرّق المظاهرة – التى خاضها البطل بالصّدفة، لأنَّ خيرات كانت فيها، ويريدُ حمايتها – يجدُ نفسه فى زقاق معها، والدّنيا معتمة، وعليهما غبار وعرق المظاهرة التى استطاع فيها أنْ يقذف حجراً ناحية سيّارة الشّرطة، بغضب جمّ، فى الظروف الاستثنائية تلك، يجدان نفسيهما وقد تجاوزا "عجزه"، وانخرطا فى "فعل الحياة".
0 تعليقات