بالحبر الطائر .. هويات مشردة بين الوطن والمنافى!
تبدو رواية عزة رشاد "بالحبر الطائر" الصادرة مؤخرًا عن دار الكتب خان (2025) وكأنها مرثية طويلة تنسجها باقتدار من خلال شخصيات روايتها الأربعة، لعالم اليوم وما تعاني فيه النساء خصوصًا والإنسانية بشكل عام من صراعات و ما تواجه من مشكلات سواء ما يتعلق بالهويّة، بين هنا وهناك، بين الإقامة في الوطن بشروطه وقسوته والهروب إلى مايمكن أن يكون متنفسًا للحرية والانطلاق هناك، ولكن المفاجأة التي ستجمع شخصيات الرواية في النهاية أنه لا مفر من القدر، وأن كل محاولات الهرب تنتهي حتمًا نهاية متشابهة!
تبدأ الرواية بشخصية نعيمة أو "نعومي" الوحيدة بينهم التي بقيت في مصر، ولكنها تعاني من الوحدة، وتسعى للم شمل صديقاتها الـ "فور إن"في الإسكندرية من جديد من خلال جروب واتساب، ومن خلال تقسيم الرواية على الشخصيات الأربع نتعرّف على ماضي وتفاصيل حياة كل واحدةٍ منهن، تجاربهن في الحب والزواج والعمل، محاولات التأقلم مع المجتمع الغربي، وتربية الأبناء هناك، بدءًا بنجوى (نوجا) وصراعها بين الماضي والحاضر والتقاليد التي تحاصرها من الإسكندرية إلى نيويورك، إلى نادين المطربة سيئة الحظ التي تجاهلت أحلامها وركزت في تربية أسرتها في باريس فإذا بهم يتفلتون منها، حتى نصل إلى نسمة المصابة بمتلازمة تيرنر التي تفشل في زواجها الأول حتى ترتبط بآخر تكتشف ميوله المثلية وتتغير حياتها.
تبدو حكاية كل واحدةٍ من السيدات الأربع شديدة الثراء، وما بين ماضي وحاضر كل واحدة منهم تلتقط عزة رشاد المواقف والتفاصيل المؤثرة في مسار الحياة لتعرفنا على كل واحدةٍ منهن، وما يجمع بينهم من أفكار وما يختلفن فيه من مواقف وتصرفات، وبذلك تقدم الرواية صورة شديدة الثراء والواقعية لأحوال المرأة الشرقية في المجتمعين العربي والغربي على حدٍ سواء، وتستحضر تلك الصورة التي ترسم للمرأة دومًا بين تحقيق ذاتها ودورها كأم ومسؤولة عن بيت وأسرة.
في كتابها الهام (رحم العالم) الصادر مؤخرًا تشير شيرين أبو النجا إلى ذلك "الدور" المرسوم والمحكوم به على المرأة فتقول:
❞ الأمومة هي أحد الأدوار الرئيسة التي صنعها المجتمع الذكوري -رجالًا ونساءً- للمرأة، ورسخ في وعي النساء أنها غريزة؛ وهو أمر لا تحتمل السلطة الأبوية طرحه للنقاش. ومع تغلغل هذه الفكرة في عقلية ونفسية النساء أصبحت الأمومة -سواء تحققت أم لا- هي المصدر الرئيس لتشكيل معرفة النساء عن أنفسهن ومعرفة الآخر عنهن. أي أن خبرات النساء مستمدة من هذا الفعل ومدى نجاحهن في القيام به ومدى توافقه مع الأنماط الأساسية للسلوك والمشاعر التي يحددها المجتمع والثقافة. ❝
على هذا النحو، ووفقًا لتلك الرؤية يمكن تتبع مسار حياة وأفكار وآلام وأمال بطلات الرواية الأربعة، وكيف رأت كل واحدةٍ منهن نفسها "ناقصة" أو موصومة لمجرد أنها لم تكمل ذلك الدور المجتمعي الرئيسي "الأم"، بل وكيف أثّر ذلك بالتالي على حياتها كلها فيما بعد!
يبدو ذلك الدور بشكل أساسي في حكاية نادين التي تركت أحلامها بالغناء بمجرد عثورها على الحب، وتحولت إلى تلك الزوجة والأم التي تفرغ حياتها لعائلتها وتصب كل اهتمامها عليهم، ولكنها تفاجئ بعد سنوات بأن ما اعتبرته اهتمامًا ورعاية يعتبره أحد أبنائها قيودًا وسجنًا، تعبّر الكاتبة عن تلك الصدمة ببساطة واقتدار في حوار بين الأم وابنها، وتبقى حيرتها قائمة هل تترك كل شيءٍ في فرنسا وتعود مرة أخرى للاسكندرية، أم تبقى في تلك المواجهة التي بدأت تحتدم بين أبنائها وزوجها!
حتى نعيمة التي يتم رواية حكايتها أثناء غيابها من خلال ابنها "ناجي" نتعرّف على ذلك الصراع الذي عاشته لي تكون الزوجة والأم المثالية، فيما يبدو الأمر لم يستقم لها حتى النهاية، فهاهي تعاني الوحدة ويبقى ابنها مجرد زائر لها على فترات فيما يغيب الزوج/ الأب الكاتب الكبير في عالم رواياته التي يراها الابن مملة، لم تتمكن نعيمة من لم أفراد عائلتها حولها في أصعب مراحل حياتها، وهاهي تبحث عن الونس من خلال صديقات الجامعة، أملاً في استعادة أيام الزمن الجميل وحكاياته الثرية.
على الجانب الآخر يحضر الرجال كظلال لحيوات هؤلاء النسوة، فهم باستثناء بسيط (ناجي الذي نتعرف من خلاله على سيرة والدته نعيمة) لايملكون أصواتهم الخاصة ولا نعرف الكثير عن حياتهم، ومع ذلك تبقى آثارهم وتصرفاتهم حاضرة في عالم شخصيات الرواية ومؤثرة إلى حدٍ كبير، والملاحظ أن أغلب تلك الآثار على اختلاف الشخصيات تبقى سلبية (سواء كان والدًا أو زوجًا أو صديقًا) لا يمكن تجاوز بعضها ويبقى حاضرًا رغم مرور السنوات، مثل الأثر الذي يتركه والد نجوى في حياتها، والذي يبدو بعد ذلك في علاقاتها بالرجال من جهة وبعلاقتها الملتبسة مع ابنتها نورا فيما بعد، أو حتى ذلك الأثر الذي يتركه شهاب على نفسية نادين بعد سنوات الحب والزواج، أو الآثار المختلفة لزيجات وتجارب متعددة تمر بها نسمة وتنتهي بها حكايتها.
(( تأسركِ البنايات العتيقة، بحجارتها التي وضع الزمن بصمته فوقها، والألوان التي تفقد طزاجتها، وتكتسب رسوخًا يمنحكِ طمأنينة ما، حتى وأنت تغادرين بخيبةٍ جديدة، تنسحبين من المكتب مبتسمة، تغلقين اللاب توب .. عادي عادي، أعيتكِ الإخفاقات ومع ذلك لم تكفي عن المحاولة، قبل سنوات كان يكفي كلمة "ترينر" جواز مرور لوظيفة معقولة، حتى لو مؤقتة، ولو براتب حد أدنى، يسد الرمق، الآن ظالت الأزمات الاقتصادية كل شيء. يبدو أنه قد دق جرس المرواح فهل هناك من سيتذكرني بعدما أختفي؟!
لا أتذكر متى أدمنت الولوج إلى شارع المتاحف، أتوقف أمام متحف التاريخ الطبيعي على مهلٍ وبلا استمتاع، اتأمل الانبهار والشغف فوق وجود المتفرجين على النباتات والحشرات المنقرضة، والمتوقفين أمام الديناصورات مبتاينة الأشكال والأحجام، أرتجف فجأة خشية أن يكون قد التصق بوجهي عنكبوت صغير، أتحسسه فلا أجد شيئًا، أشعر بارتياح، أمشي، ثم أتوقف مثلهم، مأخوذة بغرابة الطيور المتحجرة، أحدّق حتى يكاد ينفلت زمامي، أنتبه وأبعتد وأنا أنادي روحي: أنتِ .. يا أنتِ))
هكذا تمتلك كل شخصية من شخصيات الرواية عالمها، ونتعرّف من خلال لقطات موجزة مأخوذة بعناية من حياتها على ما تمر به من آلام وما تعيشه من صراعات، سواء كان السبب فيها ماضٍ مؤلم أو واقع يكبلها بقيوده وشروطه أو متلازمة مرضية تثقل كاهلها ولا تستطيع التخلص من آثارها، ولعل الجميل في كل هذا أن الالتقاطات التي تعرضها عزة رشاد لكل بطلة تبقى محتفظة بشروطها الإنسانية بشكلٍ عام يجعل القارئ متعاطفًا مع أبطالها رجالاً ونساءً، فليس هناك أشرار بالمطلق ولا أخيار بشكل عام، لكل شخصية مهما بلغت درجة سوءها لحظات الضعف والقوة الخاصة بها، وهي في عرضها لشخصياتها من كلا الجانبين لا تنحاز لأحد وإنما تعرض حالتهم وتفاصيل حياتهم بحيادية تامة.
قسّمت الكاتبة روايتها بين أصوات الشخصيات من جهة وبين لقطات يقتطع بها الابن "ناجي" المشهد ليعود بنا إلى الواقع والمشكلة التي تحيط به من اختفاء والدته، ويعرفنا بذلك على حكايتها حتى نهاية الرواية، وقد جاءت تلك التقنية مشوقة وذكية كسرت من الانتقال بين كل شخصية وأخرى، كما استطاعت أن تكسب كل شخصية صوتها وحالتها، بل وسعت لوضع "لازمة" خاصة مميزة لكل شخصية فنجد عند نادين توارد الأغاني في حكايتها، كما نجد عند نسمة ترديد كلمة "عادي عادي" وكأنها لا تبالي بما حولها، من جهة أخرى انتقل السر بذكاء بين السرد والحوار، كما تنوع في السرد بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم، مما جعل الرواية تسير وكأنها مقطوعة موسيقية تعزف على أنغام الألم المواجع ولكن يبقى المستمسع/القارئ مستمتعًا ومنسجمًا ومتأثرًا بتفاصيلها.
((أبنية وجسور هائلة، شوارع نظيفة متنزهات ساحرة، أشجار تلقي عليك بظلالها، فتلقين عليها بأبيات الشعر العربي على سبيل التعارف، في جولات استكشافية لم تحظي بمثلها قط ببلادك، لم تمتلكي الجرأة على السير هناك بهذه الخطوات الراقصة، رغم عشقك للسير فوق الإفريز المكتنز. هنا، تضربين الأرض وتطلعين لناطحات السحاب متفائلة. تتمطين مثل قطة، وتطوحين ذراعيكِ كسحابة باتسامة فوق وجهك وبوشمٍ فوق ذراعك الأيسر، لكن سحر الانبهار بجمال المكان لابد أن يخدشه شيء، فليكن هو الاحتياج إلى ساقين صلبتين للمشي أحيانًا أو للثبات أو الاستقلالية، فإذا حدث وفقدت وظيفتك يومًا ستتحولين إلى .. متسولة))
بالحبر الطائر هي الرواية الثالثة في مشروع عزة رشاد التي تبني عالمها السردي بصبرٍ وأناة، ويبدو لديها الحرص على الإلمام بكل عالمٍ تخوض الكتابة فيه، منذ تعرفنا عليها في روايتها الأولى ذاكرة التيه 2003 الصادرة عن دار ميريت، وحتى نسجت باقتدار عالم "شجرة اللبخ" عام 2014، لتطل علينا هذا العام وبعد عشر سنوات أخرى بهذه الرواية البديعة، وما بين الروايات الثلاث نسجت باقتدار عددًا من المجموعات القصصية المتميزة، كان آخرها "حائط غاندي" الصادرة عن دار كيان 2017 ووصلت للقائمة الطويلة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة.
0 تعليقات