التشاديّ روزي جدّي يشرّح طبيعة المحتل الوحشية في "ارتدادات الذاكرة"
مقدمة:
يقدم لنا الأدب مادة دسمة لفهم الحياة وطبيعة النفس البشرية، وهو سابق لعلم النفس في هذا المنحى، حتى أن بعض المصطلحات النفسية قد جاءت من خلفية أدبية كعقدة أوديب وغير ذلك، كما أن فرويد نفسه كان قارئاً نهماً للأدب والمأساة اليونانية، وقد كتب مقالة عن رواية الإخوة كارمازوف بعنوان "دوستويفسكي وقتل الأب" ونشرت في العام 1928، وقد ساهمت هذه المقالة في تعزيز الربط بين التحليل النفسي والنقد الأدبي. وكما استفاد علم النفس من الاستبصارات الأدبية، كذلك أثرت نظريات علم النفس في التجارب الأدبية الحداثية، وكان تيار الوعي ترحمة أدبية لمقولات علم النفس ونظرياته.
في هذه المقالة سنحاول أن نغوص في أعماق شخصية مهمة في رواية ارتدادات الذاكرة للروائي التشادي روزي جدّي، وهي شخصية الكوماندو جيرارد، لنفهم كيف يفلت المحتل من الشعور بالذنب تجاه المجازر التي يرتكبها ويتعامل معها كأحداث طبيعية كما تتعامل الممرضة مع بكاء طفل في المستشفى عند حقنه بالإبرة، ولا يكتفي المحتل بتطبيعه مع وحشيته، بل يدعو الآخرين أيضاً- الضحايا والشهود- بتبني وجهة نظره.
تعريف بالرواية:
ارتدادات الذاكرة رواية تاريخية للروائي التشادي الشاب روزي جدي، عن حقبة "الاستعمار" الفرنسي لتشاد، وتطرقت الرواية في إشارات إلى الأحداث المصاحبة التي تحدث حول العالم كالثورة المهدية في السودان وغير ذلك، تتميز الرواية بتعدد الأصوات مما أعطى الكاتب فرصة لسبر أغوار شخصياته المتعددة، والتعبير عن مكنوناتها النفسية، وقد صدرت عن دار نرتقي السودانية في العام 2023، إضافة إلى طبعة تشادية محدودة عن دار مسو، وتكمن أهميتها في موضوعها التاريخي ونضجها الفني، إضافة إلى كونها مكتوبة باللغة العربية، اللغة التي حاول المستعمر أن يطمسها، ليس عن طريق فرض الثقافة الفرنسية وحسب، بل وارتكاب مجزرة ضد العلماء الذين يُمثلون الثقافة العربية والإسلامية، المجزرة التي ارتكبها جيرارد -وهو أحد أبطال الرواية المهمين- والتي عُرفت بمجزرة الكبكب، وسنقوم في هذه المقالة بتحليل شخصية جيرارد وطريقة نظرته لما جرى، كنموذج للمحتل الذي لا يتورع عن ارتكاب الفظائع ورسم صورة إيجابية عن الذات، ولو كان إطار اللوحة أرض الآخرين والألوان دم الضعفاء والفرشاة جماجمهم.
سياق الرواية:
ولا يمكننا قراءة الرواية وأحداثها التاريخية بمعزل عن سياق الحاضر الأفريقي، والذي يعيش الشباب فيه ظروفاً قاهرة، تدفعهم إلى قوارب الهجرة الخطيرة، والموت في البحر أو الوقوع في قبضة تُجار البشر، في إعادة لأجواء الماضي، وتلك الظروف التي وقع فيها كادير لمنا - البطل الرئيس في الرواية - الحر صاحب الأربعة عشر عاما، و الذي اصطاده تجار الرقيق، أثناء تجوله في البرية، بينما كان يطارد غزالة، وستطارده الكوابيس بعد ذلك، ويسيح في الأرض سنوات وسنوات إلى أن يعود إلى قريته أخيرا بعد أن صار حرا، ثم يقصد فورلامي ليبدأ حياة أخرى.
ولذلك لا غرابة أن يقرع جيل الشباب - الذي ينتمي إليه الكاتب - طبول اليقظة ضد النفوذ الفرنسي في إفريقيا، الذي يحرمهم من ثروات بلادهم أو أن يفعلوا فيها ما يشاؤون، وتمظهرت هذه اليقظة في الاحتجاجات الشعبية الواسعة في عدد من الدول التي تنادي باستقلال حقيقي، وخلع عباءة جاك فوكار مهندس الاستعمار الحديث، إضافة إلى الخطاب التحرري القوي من بعض الأصوات المثقفة والمُنادية بالوعي الثقافي ومراجعة العلاقة مع المستعمر، والتعامل مع فرنسا كند لا كوصي، إضافة إلى تحقيق النهضة الإفريقية على طريقتها الخاصة.
الخلفية التاريخية:
كانت أبشة عاصمة مملكة ودّاي مركزا علميا مهما، ولاعتبارها مملكة إسلامية، كانت العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية هي الشغل الشاغل لطلاب العلم، وقد كانت هذه الثقافة الاسلامية شوكة في حلق المستعمر الذي يريد أن يفرض ثقافته بالقوة، ويلغي العمل بالقوانين الاسلامية ويستبدلها بقوانين فرنسية، وقد نجح في فرضها في جنوب تشاد دون مقاومة، فهنالك تقبل الناس الفرنسية كلغة والمسيحية كدين، أما الشمال فكان عصيا، وفوق ذلك كان مقاوما شرسا، بقيادة رابح الزبير ومن أتوا بعده، ورغم أن الثورة قد أخمدت إلا أن فرنسا أرسلت الكوماندا جيرارد الذي أتى إلى أبشة، وارتكب فيها مجزرة بعد أن دعا المئات من العلماء والوجهاء إلى حفل تنصيب السلطان الجديد دكوم، لكنه كان يضمر غدرا، فقام بذبحهم بالسواطير، وسالت دماء أكثر من أربعمائة عالم، تم دفنهم في مقبرة أم كامل في نوفمبر 1917، وساد الرعب، وصدرت الأوامر بقتل جميع الفقهاء الذين يسكنون حي "شق الفقرا"، وترك الكثيرون أبشة خوفا من البطش، وبدأت صفحة جديدة من التاريخ، التاريخ الذي سيكتب فيه أن فرنسا قامت بالتحقيق في المجزرة، وقامت بعزل جيرارد من منصبه وتم تسريحه من الجيش عام 1922، كان هذا كافيا لإسكات الضمير الفرنسي الذي استقبح الحادثة إلى درجة ما، درجة لم ترق إلى أن تتطلب الاعتذار عنها بأكثر من ذلك، ولكن ماذا عن ضمير جيرارد نفسه؟ سنبحث عن الإجابة بين صفحات الرواية والتي كتبت بلسانه.
الكاتب كمحلل نفسي:
في التحليل النفسي يطلب الطبيب من مريضه أن يترك لنفسه العنان، فلا أحكام ولا كبت للأفكار أو المشاعر، ولا قيود للخواطر، ومن هذا التداعي الحر يتوصل الطبيب إلى مؤشرات ومكامن العلة النفسية، وقد طور سيغموند فرويد نظرية التحليل النفسي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويقوم التحليل النفسي على فكرة أن الكثير من الأفكار والرغبات والمشاعر التي تؤثر على سلوك الإنسان موجودة في اللاوعي، والهدف من التحليل هو فهم هذه العناصر اللا-واعية التي تؤثر على السلوك من أجل مساعدة الفرد على تحقيق فهم أعمق لنفسه وتجاوز مشكلاته النفسية.
وفي هذه الرواية حكى جيرارد قصته بضمير المتكلم، دون تدخل من الكاتب، وهذا أعطى الشخصية فرصة للتعبير عن مكنوناتها دون عوائق، مما جعل الكاتب أقرب إلى المحلل النفسي الذي يسجل حكايات مريضه على الأشرطة.
سنحاول أن تستكشف شخصية جيرارد ونظرته للحدث التاريخي الذي ارتبط باسمه، والذي صار رمزا لوحشية بلاده.
تقديم الشخصية:
تبدأ حكاية جيرارد برسالة تصله في مقر إقامته في هايفونغ في الهند الصينية بتاريخ 13 يونيو 1916، يقول عن تلك الرسالة:" وصلني أمر بالذهاب إلى إفريقيا. حزين لمغادرتي للهند الصينية..."، وهو حزين لغايات نبيلة، فهو يريد أن يواصل "تنوير الطريق وإلحاق هؤلاء-أي سكان الهند الصينية- بركب الحضارة"، وهنا تظهر لنا عقلية المستعمر الذي يمن على المستعمرين بمظاهر الحياة المادية التي حققوها، أو بالثقافة الوافدة التي فرضوها عليهم، "غادرت تلك المدينة التي شيدناها نحن الفرنسيون وبعون كبير من ضباط الأضواء الذين لم يكتفوا بتمدين القرويين الأجلاف، وتطوير زراعة الأرز وتعبيد الطرق وبناء سكة حديد تعد الأفضل في المنطقة. وإنما جلبوا معهم الكتب والأفكار التنويرية"، إنه ليس متشجعا للذهاب إلى أفريقيا، لكنه فخور بأنهم اختاروه، "لقد طلبوني لأغراض تأديبية .هم يعرفون أي الأبواب عليهم طرقها"، وهنا يظهر لنا اعتداده بنفسه وكفاءته العسكرية، وهو يرى في نفسه المخلص أو المختار الذي عليه تخليص فرنسا من البرابرة، لقد نجح الكاتب أن يقدم لنا هذه الشخصية ببراعة من أول صفحة، وبإشارات تحمل بذور ما سيحدث.
توظيف الحيل الدفاعية:
الحيل الدفاعية هي آليات نفسية يستخدمها العقل لحماية الذات من المشاعر السلبية أو المؤلمة.
ولا شك أن ارتكاب مجزرة لا داعي لها من الأشياء التي تهز الضمير وتنشأ بسببها الصراعات النفسية، وتُحدث خللا في التوازن النفسي للفرد، ولذلك يلجأ الشخص إلى الحيل الدفاعية كجزء من عملية التنظيم النفسي.
ما الحيل الدفاعية التي استخدمها جيرارد كما يمكن قراءتها في صفحات الرواية:
الإنكار Denial: وهو رفض الاعتراف بواقع مزعج أو مؤلم.
في الرواية يقول جيرارد: "لست نادماً على شيء، لكنني منزعج من تهويل أمر حادثة الكبكب ووصفها بالمجزرة".
هنا يرى جيرارد أن ما قام به لا يرقى أن يسمى مجزرة، هو لم يرتكب فعلا ذا مدلول وحشي، إنما هي مجرد حادثة، يقول:" الحادثة التي أطلق عليها بعض الصحفيين مذبحة الكبكب، لم تكن سوى تأديب لبعض المتمردين على الحكم الفرنسي. لست مضطرا إلى الكذب، كما أنه من الواجب على المرء قول الحقيقة حين يتعلق الأمر بالماضي". إنه يرى نفسه صادقاً وبريئاً مما لحق بسمعته نتيجة التهويل.
التسامي Sublimation: وهو محاولة تحويل الدوافع إلى هدف يبدو نبيلا أو مبررا.
يقول جيرارد في نهاية قصته:" يجب أن يُحكم على أفعالي بعد مماتي أو بعد قرون من وفاتي؛ ذلك أن الزمن سوف يؤكد أننا كنا خيرة فرسان الجمهورية"، هذا ما قاله في محاكمته أيضا، كان ما فعله من أجل مجد الجمهورية، ويعود بنا إلى طفولته و السنة التي ولد فيها، وهي السنة التي نُشرت فيها رواية بيت البخار لجون فيرن، " وهي الرواية التي أدخلها والدي في عدتي يوم قررت الالتحاق بالجندية. لاحقا عرفت أن فلوبير مات في ذات السنة التي ولدت فيها، لقد ارتبطت حياتي منذ البداية بالكتب والعظماء والحروب"، هكذا يرى أن هنالك هالة من العظمة تحيط به منذ ولادته وأن دورا عظيما ينتظره، إنه منقذ فرنسا التي آمن بعظمتها، و " ما حدث في أم كامل كان لا بد منه، ولولا شجاعتي لما استمر الحكم الفرنسي".
إن استدعاء رواية بيت البخار لجون فيرن، تعيدنا إلى بطل الرواية الكابتن هود، الضابط البريطاني الذي سافر إلى الهند، وانطلاقه مع رفاقه في رحلة عبر الهند مستخدمين المركبة البخارية التي صنعها المهندس بانكرافت على شكل فيل، ويعيشون سلسلة من المغامرات، وقد استخدم روزي هذا التناصّ لإلقاء الضوء على جانب من تشكيل شخصية جيرارد.
التبرير Rationalization: وهو تقديم تفسيرات منطقية أو مبررات لسلوك غير مقبول.
وهنا يرى جيرارد أن المجزرة -إذا سمحت لنا روحه أن نسميها مجزرة- كانت ضرورية، رغم أنها حدثت بعد إخماد المقاومة التي بدأها رابح فضل الله وواصلها مَن بعده، " تمكنا من احتواء الذين يمكن أن يثوروا بعد أن قتلنا كل القادة المحتملين"، ويتفاخر بأنه أخمد نار الثورة نهائيا، " لم يبق في المدينة من يستطيع أن يطالب حتى بحق دفن العلماء والأعيان"، وذلك منتهى الرعب الذي يمكن أن يصل إلى شعب مُحتل.
إن هؤلاء السود في نظر جيرارد لا يستحقون بقاءه بينهم، " أحيانا أتساءل ما الذي أفعله بين هؤلاء السود الذين عطلوا عقولهم وتبعوا الخرافات في انتظار أن تكون هنالك نهاية سعيدة بدعم من العناية الإلهية"، ولذلك لا بد أن يدفعوا ثمن خروجهم من هذه الظلمات، وهذه ليست نظرته للسود فقط، بل لشعوب بلاد أخرى وصلتها الجيوش الفرنسية، يقول:" في ذلك الخليج بنينا قاعدة بحرية تعد الأقوى والأفضل وبفضلها انتصرنا في الحرب الصينية وحروب أخرى عديدة مع أولئك الصينيين والهنود الجهلاء". كل هذه حجج لإقناع الذات بأن هؤلاء يستحقون ما جرى لهم ولا داعي لعذاب الضمير.
الانفصال عن الواقع Dissociation: وهو تجنب الوعي بموقف صعب أو مؤلم عن طريق الانفصال عن الذات أو الواقع.
فهو يزين التجربة الاستعمارية على أنها الخير الذي لا بد أن يقابل بالشكر، إنهم قد أتوا إلى الشعوب البربرية بالنور والتقدم والرقي، ولا بد من إكمال المشروع بأي ثمن حتى لو كان الثمن أرواح أصحاب الأرض، كان جيرارد يتمنى أن يكون حاضرا وقت الحرب ضد المقاومين، لكنه وصل متأخرا، يقول" لقد وصلت إلى ودّاي بعد فوات الأوان ونهاية الأحداث المهمة. ذهب العظيم لارجو وانتهت المعارك ومات الشجعان، وحكمنا البلاد. لكني هنا كي أدرك من أين سوف تنطلق الشرارة كي أخمدها قبل أن تشتعل ومن أجل ذلك سوف أسير على درب التنويريين العظماء متمسكا بتعاليمهم لأخرج هؤلاء البرابرة من الظلمات إلى النور". في الرواية يذكر جيرارد بعض التحولات المادية في البلاد التي احتلوها، ويتحدث مثلا عن قيام لارجو بمنع تجارة الرقيق، "... لذا حارب الرق، وقتل النخاسين وطاردهم في تخوم الصحراء، لكن الأمر لم ينته، لأن ثمة عبيدا يفضلون أن يظلوا في أغلالهم إلى الأبد"، إنها غاية نبيلة، ولكن ما العبودية سوى سلب حرية إنسان وتسخير ه لخدمة آخر يرى أن له الحق في قهره؟، إنه الهروب من الواقع الذي هو الاحتلال؛ إلى هدف نبيل وهو تحرير العبيد، العبيد المحررين الذين استخدمتهم لتحرير أرضها ضد الاحتلال الألماني، بأي ثمن، حتى لو كان الثمن وعد باستقلال البلاد التي تشاركهم في حربها برجالها.
كخلاصة:
تكمن أهمية مثل هذه القراءات في لفت الانتباه إلى برمجة العقول باستخدام اللغة كآلة تمحو الآثار التي تخلفها الآلات الحربية، وأحيانا نجد صعوبة في الخروج عن الإطار اللغوي الذي وضعه المحتل لتشكيل إدراكنا، فأثناء كتابتي هذا المقال أشعر بشي من الذنب نتيجة نطقي بكلمة "الاحتلال"، لأن كلمة الاستعمار ذات المدلول الإيجابي هي الأكثر عمقا في لا-وعينا الجمعي، حتى إن كاتب رواية ارتدادات الذاكرة كتب في الإهداء: "إلى شهداء مجزرة الكبكب وإلى كل ضحايا الاستعمار في تشاد وإفريقيا والعالم".
رواية "ارتدادات الذاكرة" تتيح لنا فرصة لتشكيل الوعي الذي يمكننا من رؤية المحتل على حقيقته، وإن كان موضوعها الاحتلال الفرنسي لتشاد، إلا أنها تصلح لأن تكون رمزا عالميا، لأن الاحتلال واحد، والسفاحون أبناء علات، لا فرق بينهم بأي شكل من الأشكال.
0 تعليقات