لقد سادَّت مؤخراً الرِّواية التاريخية على الإنتاج السَّردي الإبداعي العربي، على ما دَّرج النُّقاد على وصف الرَّواية بأن أصبحت ديوان العرب، وليس الشِّعر أو صوته كما كان في السابق. والمقولة نفسها لا تعني اعترافاً صريحاً بتجاوز الرواية أو الروائيون لرواة الشِّعر من الشعراء في صورتهم النمطيِّة بقدر التعميم الوصفي للانتقال من الشَّعر إلى الرِّواية. فما بين صوت الشعر الذي امتد لقرون كتابة وشفاهة؛ تأتي الرواية بصيغتها الغربية وتقاليدها الحديثة من تِقْنيَّة في الكتابة واستيعاب لتحولات لم تشهدها الكتابة النثرية العربية ذَّات طابع مديني منشأه الحدَّاثة الغربية على خلاف الشعر ولغته التي كانت مرجعيتها اللغُوية لسِان البدوي صانع العالم بتعبير محمد عابد الجابري. ولكن مع هذا التمدُّد لم تزل الرواية نصاً يعاني من اغتراب على تعبير الناقد فيصل دراج وهو اغتراب في جنس الأدب Genre وليس النوع؛ الإنسان العربي؛ على خلاف مفهوم الاغتراب في سياقه الغربي. 

ظاهرة الرواية التاريخية: 

يتجه السَّرد العربي مؤخراً إلى مستودع التاريخ بإحداثه وشخصياته وابطاله ومذاهبه وتناقضاته وكل ما حدَّث في التاريخ والتُراث العربي من صرَّاعات مذهبية دينية ولغوية وطائفية، مما يثير التساؤل حول هذه الظاهرة التي باتت الصوت الأبرز في السردية العربية. ربما أرجع البعض السبب في بريِق جوائز المسابقات الأدبية ذات القيمة المالية الضخمة للرواية (البوكر العربية، كتارا، الطيب صالح، نجيب محفوظ، توفيق بكار...الخ) وخاصة أن أعمالاً روائية بعينها تكاد تشكِّل النصيب الأوفر في قائمة الأعمال الفائزة غالبها تاريخية أو ذات بعد تاريخي بل وظهر روائيون لا يكتبون إلا هذا النمط من الروايات ولحقَّ بهم آخرون الأمر الذي عقَّد من فهم العملية الروائية بين أن تكون كتابة سردية إبداعية أم كتابة تاريخية. والتَّأريخ روايِّة مهما تعدَّدت طرائق طرحه كعلم History إلا أن أدواته تختلف (المنهج التاريخي) وكذلك تفسيره للحدث التاريخي على عكس الرِّواية في إعادتها للحدث اعتماداً على قدرة في التخييل وتطبيق معايير تقنية في كتابة الرواية بوصفها منتجاً ابداعياً يستمدُّ طاقته من العمليِّة السردية فتتحول إلى عنصرٍ سردي Fictional Character تُفعِّله حركة زمنية تعيد وتسبق زمن الحدث التاريخي وتدخل في زمن سردي آخر له وحداته التي تستخدمها في القيِّاس. ومن هنَّا اختلفت الكتابة التاريخية السردية Historical Fiction والكتابة التاريخية Histography المنهجية. 

الرَّواية في التاريخ:

ومع أن الفصَّم يتعذر بين الرواية والتاريخ من الوجهة التاريخانية Historicism في حال استخدام الزمن في السرد الروائي، ونزّع الاحداث بإحالتها على الحاضر؛ فالرواية أو الحكاية هي التاريخ كما في حقلها اللغوي الدلالي في بعض اللغات تطلق على التاريخ أو القصة Histoire وهي الدلالة ذَّات الإبانة الجليِّة في الصلة بين نصيِّن يتبدلان الدور والفهم والتفسير. فالمداخل النقدية تتوفر على تعرِّيفات للرواية التأريخية في تصنيفات الأدب وتاريخيه مثل غيرها من أنواع الرِّوايات التي تكاد بعدَّد موضوعات الحياة نفسها. أرخت بعض الروايات (التاريخية) لأحداث مفصليِّة في التاريخ مثل رائعة الروائي الروسي الأشهر ليو تولستوي رواية (الحرب والسِّلم) إلى روايات السيميائي والروائي الإيطالي أمبرتو ايكو والروائي الأميركي صاحب الروايات التاريخية الذائعة دان بروان. وكثيراً من الأحداث والشخصيِّات قد أُرِخ لها سرديًا من حروب ومجاعات وأمراض واختراعات. والاهم من ذلك لم تخلو روايات أعمدة الرواية العربية من البعد التاريخي كروايات نجيب محفوظ الأولى وما ارخت له رواياته اللاحقة للحياة الاجتماعية إلى روايات جمال الغيطاني المستلهمة من التُّراث.  

الرواية التاريخية والاستعمار: 

ارتبطت الروايات التاريخية خاصة في أدب ما بعد الاستعمار Postcolonialism الذي تعرفه دراساته بأنه كل أدب الذي كتب في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهو تعريف تعميمي إلا أن ما حدث في كل القارّات والشعوب التي خاضت تجربة الاستعمار حاول الروائيون فيها تجسيِّده في أعمالهم الروائية. فمن وجهة تاريخية أو منظور الأدب المقارن نجد أن الرواية التاريخية من خلال تمثلاتها لتلك الحقب الاستعمار قد أوجدت الرَّواية وأصبحت من كلاسيكيات الأدب كرواية موسم الهجرة إلى الشمال للروائي السوداني الطيب صالح التي عبَّرت عما عرف بصدام التاريخي الحضاري بين الشرق والغرب. وكانت الرواية الأفريقية كإحدى تجليِّات تلك المرحلة وشكَّلت مدخلاً مرجعياً لدراسة الأدب الأفريقي. إذٍ التاريخ ليس كله مصدراً للهوس السردي والسردية العربية لم تُبد تشدَّداً في تحيزها التاريخي مثلها مثل كافة سرديات المصنفة بأدب العالم الثالث. 

إذٍ المقاربة التاريخية للواقعة التاريخية تبحث عن اسانيدها في المصادر والمعلومات بما يعرف بالتحقيب التاريخي لفترات زمنية تؤرخ للحدث Periodization للاستِيثاق من المادة التاريخية بأدوات البحث التاريخي. فرواية التاريخ والرواية التاريخ ليس مترادفات لازمة التتابع لا تفيِّد بالمعنى النقدي المساحة الفاصلِّة بين أدبية النصَّ الإبداعي (السردي) والشواهد التاريخية. فإذا كانت الرواية انعكاساً للمادة التاريخية بما فيها الشخصية في السيرة الذاتية مثلاً إلا أنها لا تكون مُؤرِخَّة وما يميزها عن ذلك الخيال الذي يحيل الوقائع أو الشواهد التاريخية إلى نطَّاق آخر يكتنفه التشويق والإثارة وحدَّة التخييل. 

الرَّواية التاريخية العربية: 

وبالنظر إلى الرِّواية التاريخية، أو ذات البعد التاريخي وما تحدثه من صوتٍ جهيِّر في المشهد السردي العربي وخاصة روايات الجوائز تلك التي أصحبت الأكثر رواجاً بكل ما صاحبها من لغط على طريقة الخصومات العربية؛ فبالفحص السريع لقائمة الرَّوايات التي احتلت المركز الأول (التاريخية) على سبيل المثال في قوائم جائزة الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر بنسختها العربية منذ تدشينها 2008 إلى الآن نجد أن نسبة كبيرة إن لم تكن اغلبها وظَّفت للأحداث والشخصيِّات التاريخية، وتحديداً منذ أول رواية لبهاء طاهر (واحة الغروب) ومن ثُمَّ انطلقت قاطرة الروايات التاريخية. وعلى هذا النحو يرَّتحِل السرد الروائي من نقطة زمنية معاصرة إلى مكان وزمان وجغرافيا ومنطق تفكير إلى خارج التاريخ وإلى التاريخ! 

وعلى أهمية ما قدَّمته هذه الأعمال وما تجلى فيها من تنقِيب أركيولوجي في طبقات اجتماعية وسياسية تاريخية، وما أبرزته ووثقت له من تفاعلات إنسانية لم تعد فاعلة خارج السياق الانثروبولوجي التاريخي، إلا أنَّ ذلك لا يعفي عن السؤال ماذا اضافت هذه الروايات (التاريخية) بمفرداتها ومخطوطاتها ووثائقها إلى العملية السردية داخل الإطار الفني للرواية قبل أن تثير ما اثارته من جدَّل كثيف زاّد من اهتياج الواقع المرتبط تاريخياً بوقائعه التاريخية المعقدة؟ ولماذا اتخذت التاريخ قناعاً أو مصدراً للتخيِّيل السردي عوضاً عن الواقع؟ وهل من أثرٍ سالبٍ على فنية السرد؟ بوجه من القول، التاريخ ليس القِّناع الوحيِّد من بين اقنعة عديدة يتمثَّلها السرد العربي تجنباً لحاضر لديه من المحاذير السلطوية ما يفوق قدرة الكاتب والنص على مواجهته أو تحمل تبعاته. والقيمة الفنية المضافة أو القائمة في أصل النصوص الروائية والمعادة سرديًا في تشكلاتها التاريخية استخدمت قوالب سردية شائعة بأسلوبها في الكتابة الروائية، ووظفت العناصر الرِّوائية بما إنها مسارات تحدَّدت بنمطها الشكلي فما أضيف من الوقائع التاريخية مكان الحدث الروائي والشخصيات تعيد حكايات تاريخية مُستنفذة سرديًا. 

شخصيات التاريخ والسرد: 

ومن نماذج الشخصيِّات التاريخية الروائي المصري يوسف زيدان التاريخية، والتي غالبها ليست شخصيات تدخل في تاريخ المهمشين كتاريخ للرواية ولكنها شخصيات أّرَخ لها التاريخ كأبطال أو شخصيات بارزة في التاريخ مثل العلماء والمُتصَّوفة في روايات (هيبا في رواية عزازيل، ابن الهيثم، حاكم جنون ابن الهيثم، ابن سينا، فردقان... اعتقال الشيخ الرئيس). واتصلت هذه الشخصيات بعلم المخطوطات Codicology وتخصص الروائي نفسه الذي وظَّف علوم المخطوطات في كتابة روايته. والملاحظ أن مثل هذه الكتابات (التاريخية) تخلق نمطاً يصعب على الروائي التخلص من قيوده وذلك لاستحالة الفصل بين صرَّامة المنهجية البحثية والتخلق الإبداعي السردي دون يضحي أحدهما على حساب الآخر خاصة إذا كان الروائي يتقصى التَّحَقُّق -برأينا – من المعلومة أو الوثيقة التاريخية ومن ثَمَّ يحاول تطبيق ذلك على كل من النصيِّن؛ التاريخي والسردي. فإذا أخذنا نموذج رواية حاكم ورواية (حاكم جنون ابن الهيثم) التي حاول الكاتب دمج قصة معاصرة تقود نقطة بداية تتبع الشخصية التاريخية شخصية الرواية الرئيسية. حيث قدم راضي والقاهرة حيث التقى أمنية وعالمها وأسئلتها المختلفة. هذا الجزء (الأول) مفعم بزخم الحياة الواقعية العصرية ومشكلاتها في شخصيتي راضي وأمنية فإذا كتب هذا الجزء كرواية منفصلة وظلّ الجزء الثاني (ابن الهيثم) لما أحدث فراغاً أو انتقص من مجمل بنائها العام، كما حدث في روايتي (فردقان، عزازيل)، حيث انشئت الرواية بالكامل في عصرها من البداية إلى النهاية، أما هذه الرواية بتضمينها لجزئين تعد روايتين أو أحداث رواية واحدة في روايتين لا رابط بينهما إلا عند بداية عثور راضي على المخطوطة وظلت نصاً هجيناً Hypertextuality يختلف في الزمان والمكان والحدث.

وقسم آخر يمثل الاتجاه السائد يتناول أحداثاً تاريخية من حروب ومجاعات وتحولات اجتماعية (الهجّرات) بسرد الواقعة التاريخية مستدعياً التفاصيل الواقعية بتدخل سردي قد يبدوا محايداً على طريقة المنطق التاريخي دون أن يضفي مسحات خيالية سردية تزيد من وتيرة الحدث. وعادة ما تنزع مثل هذه الروايات إلى أكثر مفاصل التاريخ حساسية وتثير في الفضاء العام جدلاً يختلط فيه السياسي بالاجتماعي والأخلاقي والديني وكلها مثيرات شهية في الذهنية العربية ومدعاة لتفسيِرات لا تنتهي. 

للروائي السوداني حمور زيادة رواية (شوق الدرويش) 2018م وحازت على جائزة نجيب محفوظ للرواية ووصلت إلى القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية؛ وتوالت طبعاتها بما اثارته في المشهد الأدبي والسياسي وتُرجمت إلى عدة لغات.  والرِّواية بحثت في منطقة وزمن له تداعيِّات التاريخية والاجتماعية الممتدة في أزمة الدولة والمجتمع السوداني. فهي لم تقدِّم نقداً تاريخياً – ولا يفترض- إلا أن حدَّة وجرأة بحسب ناقديها جعلت منها نصاً مثار جدل اتخذَّ طابعاً سياسياً وخرج بالتالي من دائرة السرد إلى مزايدات السياسة وليس أدل على ذلك من عاصفة الرُّدُود في مواجهة الرواية وبعضها مبالغ في حدته، حيث لم يؤخذ بما استخدمته الرواية من رمزية ونقد للخطاب الاستعماري في تجلياته العنصرية وثنائياته المتضادة مع خطابه في التمدن ودعاوى المُبررة لاستعمار شعوب خارج النطاق الأوربي. فقد انبى الهجوم على الرواية متجاوزاً كافة التقاليد النقدية إلى تهم صارخة منها تبنى الكاتب لوجهة النظر الغربية، ومن الغريب تبني نقاد لوجهة النظر السياسية الاحتجاجية كما وردت في كتاب افردت بكاملها رداً على الرواية فقد كتب الدكتور عبد الرحمن الغالي (المهدية: قراءة في رواية شوق الدرويش) مصرحاً بعدم عنايته بأسلوب وادبية النص بقدر عنايه بما اسماه بمضمون الرواية!

وستبقى الرواية التاريخية أحد أهم المنجزَّات السردية التي أسهمت إلى حدٍ بعيد في تكوين رؤيتنا إلى التأريخ الانساني المشترك بين كافة الثقافات عبر الأدب المقارن كمحاولة للمزج بين الرصد العلمي للنشاط البشري وتفسيره ثقافيا طالما أن الثقافات والعلوم والاختراعات والمبادرات ترتبط بأفراد في كل العصور.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم