يقول ارسطو: " الأنثى هي أنثى بموجب نوع من التجريد من الميزات".

طغى هذا الرأي الذي ينقص من قيمة المرأة على الكتابات التي تهتم بالمرأة في أثينا عصر أرسطو . فقد كان ينظر إلى المرأة أنها كائن ناقص و مصدر لكل الشرور . فالمجتمع الأثيني خاصة كان يرى أن المرأة تمثل تهديدا للرجل ،  "إن الأنظمة اليونانية للفانتازية والعائلة…تعكس وجهة النظر القائل بأن الأنثى يمكن أن تهدد النظام الذكوري والحياة الذكورية و تمثل خطرا على سلامة عقولهم و صحتها"

 استمر هذا الموقف الذي يحط من شأن المرأة  عبر القرون التي تلت العهد الإغريقي . و تبنى رجال الدين و العديد من المفكرين هذا الرأي على حد السواء . كما رددته نساء أيضا ليتأسس نظام من أفكار دونية للمرأة تتوارثه المجتمعات لتثبت عدم مساواة المرأة بالرجل. 

و ظلت المرأة كائنا تابعا للرجلو ترسخ مع  النظام الرأسمالي الطبقي. وتكررت صورة  المرأة الخاضعة في الأعمال  الفنية كالأدب و المسرح و السينما. لكن رواية ريحة بوتفاحة  ،للكاتبةالتونسية حليمة الخميري الباجي، تقلب هذه الصورة المتوارثة .

إذ تفتك النساء  قيمتهن في الفضاء الذي تعشن فيه . لم تعد المرأة مصدر الشر بل أصبحت مؤسسة و مدافعة عن  قيم أخلاقية.

كما  لم تعد المرأة خاضعة أو تابعة للرجل و إنما مستقلة اقتصاديا عن الرجل  وهو ما يحررها من سيطرته. 

تقول كارلوت بيركنز جيلجيما في كتابها النساء و علم الإقتصاد :" أنه ما دامت النساء يعتمدن على دعم الرجال االاقتصادي، سيظل النساء يعرفن بخضوعهن، والرجال يعرفون بغطرستهم. تحتاج النساء إلى المساواة الاقتصادية بالرجال قبل أن يستطعن تطوير فضيلة إنسانية أخلاقية يمتزج فيها الفخر بالتواضع، تدعى: احترام الذات!"

تدور أحداث رواية ريحة بوتفاحةداخل مدينة باجة بالشمال الغربي  لتونس بعيدا عن المركزو يمتلئ مكان الأحداث بزوايا الأولياء الصالحين ،"زاويةالمغراوي و زاوية بوتفاحة عمدة الزوايا، و زاوية سيدي صالح الزلاوي و زاوية بوعربة"يفرج الكربة".  توجد هاته الزوايا  داخل أماكن شعبية مثل "حومة الجرابة "،"الربط" "تحت التوت مكان يتوسط باب الجنائز".

اختارت كاتبة الرواية ، حليمة الخميري الباجي هذا الإطار المكاني لأنه يتلاءم مع حياة   الشخوص  و معتقداتهم.  جميع  الشخوصفي الرواي يؤمنون في قدرةالأولياء الصالحين على  تغيير أقدارهم.  

باستثناء حلومة الفتاة الجامعية، جميع الشخوص ينقصهم  مستوى التعليمي الجيد . نجد "سقاءة الحومة "و"حارزة الحمام " و" بائعة النواصر" و "الخياطة" . و يشتغل الرجال  حرف يدوية بسيطة مثل"بائع الجبن و القوتة" و "الجزار" و "بائع البخور و القلال" . 

لا يحملون قضايا فكرية أو سياسية ."برهومة"، و حده، آمن بقضية سياسية و ناضل من أجل الحرية و العدل .جميع الشخوص يعيشون في الهامش خارج ميدان العلم و الفكر.  ينصبُّ اهتمامهم على قوتهم اليومي و الزواج و ممارسة الجنس.وتستمتع النساء  بالثرثرة والتقاط أخبار الأجوار و الذهاب الى الحمام الشعبي ، "تمتلئ سقيفة حمام "عين الشمس" منذ منتصف النهار .تجمع كلَ واحدة أدباشها في صرة كبيرة ".

المرأة داخل هذا الفضاء تكسر  بنية القاعدة الاجتماعية في مجتمعات الهامش .عادة ما تكون المرأة ضحية و تابعة  ضعيفة في حياة الهامش. لكن في رواية ريحة بوتفاحة، تفتك النساء المركز و يجعلن الرجال أقل أهمية من المعتاد و تتخلصن من سيطرتهم . 

تتمكن النساء من بناء عالمهن دون وجود الرجال في حياتهن. هن  قادرات على اختيار طريقة حياتهن و تقرير مصائرهن .يمكن تشبيه هامش مدينة باجة في رواية ريحة بوتفاحة بالمجتمع البدائي الأمومي  أين حضيت المرأة بمكانة أساسية في المجتمع قبل الانقلاب الذكوري الذي دفع المرأة الى مرتبة دونية للرجل. 

تقول ايفلين ريد : "انتظم المجتمع البدائي كمجتمع أمومي، والذي كما يشير اسمه، كان نظاما تقوده و تنظمه النساء  لا الرجال... قيادة النساء للمجتمع البدائي  لم تكن قائمة على أساس عزل الرجال، بل على العكس، إذ لم يعرف المجتمع البدائي أي تفاوت اجتماعي، أو دونية أو تمييز من أي نوع".

 تموقع الروائية التونسية حليمة الخميري الباجي النساء في مركز الرواية. رغم أنهن يعشن في الهامش فإنهن المركز الذي يسيطر على هذا العالم  الضيق . تمسك النساء في رواية ريحة بوتفاحة حركية الأحداث في الرواية، "صبايا الحوم العربي اللاَّتي  لم يشتغلن ، لم يخرجن إلى الساحة الاقتصاديَّة، كن نساء، إناثا". تحاول كل امرأة السيطرة على حياتها وتتحكم في مصيرها بنفسها دون الاستعانة برجل و يمور الرجال حول النساء وحضورهم مرتبط بحضور النساء.

يظهر الرجل في الرواية ليخدم قصة امرأة .يمنح هذا الهامش في  باجة  الرواية المرأة الأولوية والمكانة الأولى ويفقد الرجل السلطة التي اكتسبها عبر العصور. 

بل بالعكس، المرأة في "حومة الجرابة" تمتلك القوة لتتحكم في رغبات الرجل فهي ليست المرأة التي اعتبرها أرسطو خاضعة،  "تتبدى شجاعة الأنثى في الطاعة". 

وتحظى النساء بأهمية كبيرة عند الرجال ،"و يخاف الباجية ولاياهم كثيرا فإذا ما فعلوا خيرا فخوفا على الولايا و إذا ما صلوا كان الدعاء للولايا و إذا كان حجا فالدَّعوة لكل الولايا: الأم ،الزَّوجة ، الأخت ،ابنة العم ، الجارات ، كلهن ولايا". المرأة ليست عديمة القيمة أو لا مرئية و إنما ذات شأن و تستحق العناء للفوز بها ، "للحب في باجة طقوسه، ضرب من المهانة المحبَبة أحيانا إلى النفس ، أن يركض الرجل و يبلغ مبتغاه فذلك استكمال لرجولته، أما أن تركض امرأة وراءه فهو استنقاص من شأنها".تكتسب المرأة القوة لتتحكم بالرجل و جعله تابعا لها ،"في باجة فلا يحبُون إلا التي تجعلهم يمشون كأشباه المجانين حفاة عراة فيلبُّون جميع رغباتهنَّ".كما يمتلكن  القدرة على التغلب على الرجال وتأديبهم .

 أغلب النساء الشخوص في الرواية لسن ضعيفات في مجتمع الهامش بل قادرات على وضع قوانين عند التعامل معهن،"يحتاج الرجال إلى امرأة تعلمهم الأدب ، الطبيعة وحدها عاجزة".رغم افتقارهن إلى العلم و التعليم ، تحمل النساء مبادئ و قيم إنسانية  و تدافع عنها . 

فهن  قد عٌرفن بالوفاء و كره الخيانة ،" سكتت منُوبية بل خجلت فالخيانة ليست طبعها ، شعرت أنها تحرضها على فعل مشين ، فنساء حومتنا يصبرن عشرين عاما في صمت فلم هذا لخاطر اللعين ". كما يتحلين بالصبر و القوة و لا يتنازلن عن مبادئهن، "خلف أبواب 'الربط' و 'حومة الجرابة' تختفي حكايات الصبايا و النساء ، حكايات الصبر و الشوق" . 

عبلة لم تتزوج لأنها انتظرت  عودة 'برهومة' من سجنه الأول . ثم عاودت الانتظار عندما سجن ثانيا. لم تستطع الزواج بغيره لأنها تعتبرها طعنة غدر لحبيبها.أيضا، مهرية ظلت زوجة عذراء مع زوج عاجز جنسيا  . كما حافظت على السر  بعد وفاته  و اختارت البقاء أرملة ، "حتى أغلقت مهريَة بابها و معه سرَها الذي حمل نصفه زوجها إلى القبر و ظل نصفه الآخر معها تحرسه إلى الأبد". 

تحول النساء الفضاء الذي يتحركن فيه إلى عالم يشبه "هيرلندHerLand ". المجتمع الافتراضي الذي تخيلته كارلوت بيركنز جيلمان. وهو مجتمع تسيطر عليه النساء و يثبتن قدرتهن على إدارته دون مساعدة الرجال. تقول جيلمان  عن مجتمع "هيرلند":" تستطيع فيه النساء وبناتهن -الللاتي نشأن عن طريق التوالد العذري- أن يمارسن أخلاقيات  سامية. فـ هيرلند هو مجتمع نسائي أمومي أعيد فيه رسم الخطوط التي تصل بين العامل الخاص والعامل العام جذريا"6

تستمد النساء قوتهن من التضامنبينهن و البحث عن الرفقة و التعاطف ليواجهن صعوبة الحياة . كما تقول جيلمان : "وتختفي المقاربات التنافسية والفردانية في هريالند حيث يستطيع النساء أن يرتبطن تعاونيا لأنهن  يشعرن أن لا حاجة للسيطرة على بعضهن البعض".

عبلة 

تُعد عبلة الشخصية الرئيسية الأكثر حضورا في الرواية . تبرز أهميتها أنها الفتاة المعشوقة  التي تسيطر على  الرجال حولها بجمالها . جميع الرجال يسعونإلى الظفر بها . عبلة شخصية قوية يستحيل غوايتها. ترفض أن تكون خاضعة لرغبات عشاقها . عبلة ليست تابعة لطلب الرجال و  إنماتصبح"صائدة الرجال".

لا تكترث  لغزلهم و نظراتهم  إليها ،"كانت تمشي بسرعة تلوح بيديها يمينا و شمالا، يرتفع فستانها فوق ركبتها ، لا تأبه للأمر بل تفتح زرا من أزراره قرب صدرها ".ظلت صامدة و لم تضعف أمام إغراء عشاقها و بقيت وفية ل'برهومة' حبيبها رغم غيابه الطويل ، "كانت تعزي نفسها حين يشتد حزنها و تطول غيبة 'برهومة'. 

وعندما رجع  من السجن لم تبقى سلبية بقبول آراءه دون مناقشته حول  مستقبل علاقتهما. 

عبلة  طالبت حبيبها بأن يكون واقعي وينسى أحلامه المثالية ليتزوجا ،"لا أريد خطبا و شعارات لم تعد تغريني، أريدك رجلا و زوجا لا تحلق ".

وتظهر أهمية عبلة أن الرواية ابتدأت بحدث غياب عبلة لأهمية حضورها الأماكن التي كانت ترتادها و  الحياة اليومية للسكان الذين تعرفهم.  

بغيابها وفقدانها،خيَّم الحزن  على هؤلاء الناس ،"حزنت "حومة الجرابة" و "باب الزنايز"مدة". و خلخل غيابها  عالم رفيقتها منوبية و خالتها نوة .توفيت منوبية كمدا.وغرقت نوة في حزنعميق ،"أما نوة فقد اتسعت مساحة حزنها،صارت عميقة عمق همومها".

منوبية 

تمتلك منوبية، أيضا، مكانة في مركز 'حومة الجرابة'. تجتمع النساء حولها  لأنها قادرة على "تشمم الأخبار" . تسيطر منوبية على النساء لأنها تفهم الحكايات المخفية ،"لكن منوبية كانت تقرأ عيون النساء". تكمن أهمية منوبية في قدرتها على نثر المرح و البهجة أينما ذهبت. و تعلم منوبية قصص كل السكان الذين تعرفهم لكنها  "حافظة الأسرار".

رغم صعوبة حياتها ، تُعرف منوبية  بالقوة على مواجهتها، "كانت منوبية لا تعرف اليأس و لا يعرف اليأس طريقا الى نفسها". تعول على نفسها في كسب رزقها، "قرقافها و ماكينة الخياطة والنواصر الدياري كان عالمها و دنياها".

لم ترض منوبية العيش في هامش رجل.فهي من تقرر البقاء أو المغادرة.عندما شعرت بعدم أهميتها في زواجها الأول . تركت زوجها لأنه تزوج بثالثة و عرفت أنها خسرت مكانتها  . تركت زوجها الثاني لأنه كان شيخا و لا يلبي رغباتها الجنسية ، "كان عليَ تحمل شيخوخته . لم يكن قادرا على شيء سوى مبادلة القمح و الشعير فهجرته".

قررت الاستقرار مع زوجها الثالث لأنها عرفت الحب و تعلمت قراءة جسدها.  استطاعت أن تحقق انسانيتها عبر زواجها الثالث ، "اقتنعت بأنَني امرأة صالحة وإن لم أنجب ولدا واحدا في حياتي".

نوة

مثل منوبية ، نوة ،أيضا، تجاهد من أجل تأمين مصدر رزق لإعالة نفسها و ابنيها و مساعدة منوبية و عبلة في مصاريف البيت ،"على هذا النَهج حكمت نوَه  مملكتها الصَغيرة إذ خلقت مورد رزق بسيط لكنه يكفي حاجاتها المتواضع و يساهم بقدر محتشم و معقول في حمل أعباء الحياة مع عبله و منوبية". لم تستسلم لأوجاعها و لم تنكسر بعد وفاة زوجها. بقيت متماسكة و قوية أمام قسوة الحياة ،"لكن نوَه امرأة حرَة ، قسمت ظهرها المحن و لم تكسرها لا تزال واقفة، نخلة هي في صمودها و صبرها على الأيام و قسوتها". 

اكتسبت نوة القوة عبر تحديد هدفها في الحياة . سخَرت حياتها لتربية ابنيها و حمايتهما ،"إنَ الحياة تدرب على الحياة ، مبدأ نوَه الذي تلقنه للآخرين و قد استطاعت امتصاص أوجاعها منأجل طفلين يريدان الحياة".

رفضت نوة استغلالها جنسيا. واجهت كل من أراد التحرش يها أو الاعتداء عليها . سددت لحمادي "بوطحش " ثلاث طعنات لأنه حاول اغتصابها .  

صفعت بائع البخور الذي تحرش بها   مما صدم كل من شهد الحادثة في السوق ، "اهتز 'سوق الدروج' في صمت".استطاعت نوة أن تعلم الرجال أنها  ليست ضعيفة في مجتمع الهامش  و أن الأرملة قادرة على الدفاع عن نفسها. 

عبر صفع بائع البخور ، أثبتت نوة رفضها احتقار المرأة التي ينقصها رجل ،"أدَبت نوَه كل رجل تخول له نفسه الاستهانة بالهجَالة  و العانس و المطلَقة".

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم