"الموت عادة يومية" .. مواجهة الموت بالحكايات.
من العنوان تبدو هذه الرواية الأكثر اتصاقًا بأيامنا وواقعنا اليوم، حيث "الموت" لم يعد خبرًا أو ضيفًا عابرًا، ولكه تكرر ولفرط تكراره بدا "عادة يومية"، وتلقي أخباره أصبح أمرًا معتادًا، رغم ما ما فيه من قسوة وألم، من جهة أخرى يأتي العنوان مناسبًا لموضوع الرواية وفكرتها الأصلية مشيرًا إليها بوضوح، ولكن يبقى السؤال كيف تحكي الرواية وتتناول أمرًا معتادًا مألوفًا كالموت والفقد؟! كيف تتعامل مع تلك الحقيقة الراسخة المستمرة، التي طالما تناولها الكتّاب والفلاسفة، بطرقٍ مختلفة، سعيًا لفهم أكثر للموت وطرق فهمه ومحاولات تجاوزه!
تبدو المهمة في البداية شاقة، ولكن شكري سلامة في روايته الثانية، يخوضها باقتدار، متسلحًا بإرثٍ طويل من الحكايات التي ينتمي طرف منها لبيئته وعالمه، ويستقي من عوالم آخرى أطرافًا من حكايات أخرى، فيحضر كلكامش، وأبطال مقامات الهمذاني عيسى ابن هشام وأبو الفتح الإسكندري، وغيرهم، كما تحضر الأجواء الغرائبية الفانتازية، حيث أجسادٌ لرجال تهبط من السماء، وقرد يتقافز ويكلم الناس، وقرية تعتاد الموت والجنازات، وقطارات تتجاوز اللحظة الراهنة، وتنتقل ببساطة في الزمان والمكان.
بين الكلمات والحكايات
(هل كان عليك أن تتعلم كل الكلمات لتقول فقط "وداعًا أيها الأصدقاء"؟!)
من هذا المفتتح لوديع سعادة تبدأ الرواية التي تشير بشكلٍ واضح لتلك العلاقة التي ستظل مهمينة على طول الرواية، وهي تلك الحكايات التي تربط بيننا وبين الموتى/الغائبين/الأصدقاء، هل يمكن أن نستحضرهم من خلال "حكاية"؟ هل تملك الحكاية فعلاً سطوة إحضارهم والاستئناس بهم من جديد؟!
في كتابها (عن الأسى والتأسي) تتحدث إليزابيث كوبلر عن الحكاية ودورها في تخفيف الألم:
((يساعد قص الحكاية على تخفيف الألم؛ فالمداومة على قص حكايتك وسرد تفاصيلها ركن جوهري من سيرورة الأسى. يجب أن تُعبِّر عن ذلك الألم. يجب أن يكون على الأسى شهود لأجل التعافي؛ فحين نُشرِك غيرنا في أسانا، ينحسر الأسى. ومجموعات الدعم والثكل مهمة، ليس فقط لأنها تتيح لك مصاحبة آخرين مروا بالفقد، ولكن أيضًا لأنها توفر ساحة أخرى للكلام عن الأحداث الكارثية التي حلَّت بعالمك. قُصَّ حكايتك؛ لأن ذلك يؤكد على أهمية ما فقدت
أنت هنا المحقق الذي يبحث عن أدلة لمساعدته على فهم كيفية حل اللغز. عندما تحكي الحكاية، تكشف ارتباكك أمام تضاريس تتطلب الاستكشاف. ولكن ثمة شيئًا في التعبير عما يراودك من أفكار باطنية والتحدث عنها جهرًا يساعد على تنظيم شؤونك. قد يكون ذلك بمنزلة دعامة مؤقتة تضم أجزاء البنية المحطمة لعالمك. يساعد حكي الحكاية على إعادة خلق النظام وبنائه.))
والقارئ سوف يلحظ بجلاء أن هذا ما يفعله الكاتب/ السارد والبطل على السواء، فثم تماهٍ بين الكاتب وحكايته التي يقرر أن يحكيها بضمير المخاطب حتى يكون القارئ شريكًا في الحال والأحداث، ففي الوقت الذي يأتي فيه الإهداء لأرواح عددٍ من الراحلين بأسمائهم (ليسوا مجرد أصدقاء) نجد بطل الرواية "عمر"يعاني من حالة فقد الأب/الغائب، الذي لا يعلم أفارقه لأنه مات أم قرر أن يغيب، تلك الحالة الخاصة تجعله يتأمل حالة الفقد، وينتقل بها إلى تأمل الموت بطريقة مختلفة.
تبدأ الرواية مشهد افتتاحي فانتازي بعنوان (كعادة البدايات القلقة) حيث رجال سقطوا من السماء، ثم يأتي الفصل الأول (ذكرى تصلح لتبدأ الحكاية) نجد فيها البطل مع صديقه "يوسف" يعود لاستحضار ذكريات الماضي، وفيها يبدأ يوسف بالحكاية التي تحمل عنوان (يشبه حلمًا عنك) والتي نتعرف فيها على تفاصيل تلك الحكاية/ الحلم الفانتازي الذي يتناول رجلاً ينتقل إلى قرية غريبة من خلال قطار، وهناك يكتشف عالمًا غريبًا لأشخاص يتعاملون مع الموت باعتياد، ويجد نفسه يعيش معهم أيامهم:
(حين حكى عن أيامه تلك أخبرني أنها سارت على نمطٍ واحد، في الصباح يستيقظ ليجلس تت شجرة موز ضخمة يتأمل الحياة العجيبة التي يحياها، وتثار دهشة يوميًا من تتابع الجنازات واستمراريتها، ففي الصباح جنازة عابرة، وفي المساء جنازة عابرة، كأن الناس هناك لا شغل لهم سوى الموت، لا تسمع صريخ أحد ولا تشعر أن أحدهم يوشك على الموت، جميعهم يبدون بصحةٍ جيدة، لكنه سرعان ما يأخذون في الاختفاء، يموتون فجأة دون إشارة مسبقة، وفي هدوءٍ تام كأن الموت عادة يومية، ومن كثرة التكرار الذي يراه ثبت في نفسه أنه مذنب وسيلقى حتفه هو الآخر)
تأتي حكاية يوسف واستحضار عالمه في البداية كوسيلة من البطل للتعلب على فقدانه، ذلك الذي سيكتشف القارئ متأخرًا، وبعد أن يطرح السارد بشكلٍ مباشر وغير مباشر عددًا من أسئلة الرواية سواء ما كان منها متعلقًا بالموت والحياة والغياب والجدوى، أو حتى بالاستئناس من خلال الحكايات العادي منها والغريب، ونسج تفاصيل جديدة يتماهى فيها الواقعي مع المتخيل، أو يأخذ هذا من ذاك، بحيث يدور القارئ مع السارد وأبطال الحكاية على نحوٍ ما وتصبح تلك الأسئلة المؤرقة أسئلته، وتلك الحكايات الغريبة شديدة الشبه والاقتراب من حكاياته وعالمه.
والرواية التي تبدأ مهداة إلى الراحلين لا تسقط في فخ أن تكون مرثية طويلة لهم، ولا بكاءً على أيام الصداقة والود المسكوب/ الفائتة، بل تنتقل من ذلك كله إلى حالة شديدة الخصوصية من رسم عالمٍ موازٍ لعوالم الغائبين، واستنطاق حكايات أخرى، سواء تلك التي تخص والد عمر "حافظ إبراهيم" وحكاية حبه القديمة لسيدة، وحكايته مع "الأنصاري" وما يمكن أن يكون من تفاصيل أخرى تخصه في بلدة أخرى، أو حكاية عمر نفسه وارتحاله إلى مكانٍ آخر هربًا من ذكريات المكان القديم ذاك، ومحاولة لبناء عالم آخر من جديد، لكن الماضي والذكريات والأصدقاء لا يزالون يحاوطونه!
تبدو الرواية في النهاية قادرة بالفعل على التجاوز، وتأتي الحكايات لتحمل للسارد والكاتب على السواء حالة خاصة من الصفاء الذهني أو على الأقل محاولة جادة للتصالح مع العالم:
((في ذلك النهار البارد، جلست عند الترعة أرى العالم كأنه شيءٌ خارجٌ عن إرادتي وعن وجودي، وكان ذلك إحساسًا رائعًا بأني مسلم بلاعقلانية للوجود منسجمٌ فيه، جاءتني فراشة صغيرة حطت على إصبعي الصغير ثم طارت، وتبعتها حتى وجدت ظل كائنٍ على العشب، وحين دنوت منه تناثر كقطعٍ بنيّة، ملأت الدنيا حولي فراشات، مسكينة تاهت عن النعيم لاشك تجاوزتني، كما تجاوزتني الدنيا، وشعرت بها حول بدني حتى اقشعر جلدي، طارت للغرب لتلف حول أشجار البرتقال عوضًا عن غربان تلك المنطقة، كان نهارًا مزيفًا من تلك التي تشعر فيها أنك تستعيد عافيتك، وتوجت ملكًا على الحياة، رأيت الأفق ملطخًا بحبرٍ انسل من قلبي، قلبي الذي اعتصرت فيه زهرة الحياة ... ))
ورغم ذلك فالرواية تبدو في النهاية شديدة الإخلاص لفكرتها، حيث الوعي التام بدوران فكرة الموت والحياة، وأنه لا نهاية حقيقية لذلك الصراع وتلك الحالة مهما كان الوعي، ومهما امتلأنا بالحكايات، سيعود الموت مرة أخرى بعد دوران الحياة، أو تعود الحياة بعد دورة الموت، لذا تنتهي الرواية باستدعاء الحكاية مرة أخرى بعد كل ذلك، بالمفتتح الشهير للحكايات (كان يا ماكان ..)
تجدر الإشارة إلى أن "الموت عادة يومية" هي الرواية الثانية للكاتب الشاب "شكري سلامة شكري" الذي يدرس الهندسة في كلية الهندسة المعمارية بجامعة المنوفية، ويؤكد دائمًا أن دراسته للهندسة أثرت في اهتمامه بالأدب والتعرف على المدينة بشكل مختلف وعلاقات الناس بها في الوقت نفسه، صدرت الرواية مؤخرًا عن بيت الحكمة، سبقها رواية "أول دروب العود .. آخر دروب الحنين" الصادرة عن دار مرايا 2023
0 تعليقات