المنسيون بين ماءين .. أساطير الموت والحياة بين الماضي والحاضر
تقوم رواية ليلى المطوّع الصادرة حديثًا عن دار رشم (2024) على عدد من المستويات السردية التي تتضافر جميعها لتمنح القارئ رؤية شاملة لعالمٍ ربما يجهل الكثير من تفاصيله، وهي إن كانت تستمد تفاصيل عالمها من بيئتها المحلية في البحرين، وتحكي أطرافًا من تاريخ تلك المنطقة المنسي بين الماضي والحاضر، فإنها تشكل في الوقت نفسه عالمًا ورؤية أكثر اتساعًا وشمولاً بحيث يمكن لكل قارئ تمثلها والشعور بها في عالم اليوم الذي يلهث نحو الحداثة والحياة المدنية ناسيًا أو متناسيًا أصوله وآثاره العريقة القديمة، وكيف يدمّر بنفسه كل ملامح ومظاهر الحياة الطبيعية أملاً في مساحاتٍ أكبر ونفوذ مختلف!
تبدأ الرواية بمشهدٍ يبدو قادمًا من التاريخ البعيد للمنطقة، حيث نتعّرف على "سليمة" التي تسعى للنجاة داخل البحر! وحكايتها مع صفوان وطرفة ومواجهتها للأسطورة الأولى المتعلقة بالبحر وأنه حتى يعيش يجب أن تطأ دم أحد الأشراف، وهو ما يحدث بالفعل، ولكنها لا تسلم بعد ذلك بل تضطر لأن ترحل عن القرية وتذهب في رحلة إلى البحر حتى تضع مولودها هناك، في مشهدٍ مؤثر مكتوب ببراعة وشاعرية شديدة، هكذا منذ اللحظة الأولى يدرك القارئ أنه إزاء عالم مختلف تسيطر عليه الأساطير وتحكمه عادات وتقاليد سكان القرى المجاورين للبحر، وكيف يتعاملون معه ويخضعون لسلطانه.
قسمت الكاتبة الرواية إلى بين لقطاتٍ من ذلك الماضي الذي يرسم صورة التعامل مع البحر وما فيه، وبين العصر الحالي وما يجري من تغيرات للبحر فيه، وذلك من خلال شخصية "ناديا" المعاصرة التي تجري أبحاثًا حول الجزر الجديدة التي يجري إنشاؤها في البحرين، وكيف يتم الاعتداء على البحر وتقويضه، من جهة وكيف يتعرَض سكان تلك الجزر لأخطار خطف البحر لأبنائهم بين الحين والآخر، وكأنه ينتقم مما يحدث فيه، وهو الأمر الذي تتعرّض له بطلة "ناديا" نفسها، ويبدو كخيطِ تشويقي يربط أطراف الرواية بين الماضي والحاضر، وبين حكايات الأجداد والأحفاد، حتى نصل إلى الرؤية الكاملة والمشهد الشامل:
(أتأمّل الجزيرة، صرت أبصرها، كلّ هذا بحر ميت، ردمناه، أقمنا عليه، انتهت كلّ علاقتنا بالماء، اعتداؤنا عليه سيعود علينا بالشرّ... تدخُّلُنا في تكوين حدود البحر التي تعزله عن اليابسة سيصيبنا بلعنة، ألا يدركون كم مرّة عاقبنا البحر على أفعالنا؟ نحن النساء لدينا ارتباط أكبر بالماءين، ننذرهما، نطلبهما، ننشدهما. أعرف كلّ الحكايات التي قيلت، وأعرف قصّة نشترك فيها نحن جميعنا، نرضعها مع حليب أمّهاتنا، أسطورة تخصّ هذه الجزيرة التي ستعود للماء. ولكنّنا نكابر، كلّما منحنا فرصة، كابرنا، لاعتقادنا أنّ هذا لن يحدث أبدًا)
ننتقل مع السرد بين المشهد الحالي وأطراف من تاريخ تلك الجزر وذلك البحر الذي كان ف وقتٍ من الأوقات سلطانًا، وكان للناس معه حكايات، تنثر الكاتبة أطرافًا مختارة منها جعلتها على شكل مذكرات متروكة لها في مكتبة جدها حينًا، وتأتيها من استدعاء جدتها "نجوى" أحيانًا أخرى (وكأنها تناجيها عبر الغيب) كل ذلك تجمعه في (أدبيات أهل الجزر) ويحتوي على "واقعة إيا ناصر" بناء القبور الذي نتعرف معه على بدايات وحكايات تلك الجزر في العهد الذي كانت تحكمه الأساطير وتقدم فيه النذور للبحر/ الماء بشكل مباشر، وتحكي عن المعابد والقرابين التي تقدم من الجميلات، وننتقل منها إلى "يعقوب" وحكايته المغزولة بعناية لرجلٍ يبحث عن آثار الحياة بين الجزيرة والبحر، ويتلمّس طريق معرفته للدنيا من خلال النساء حتى يقع بين يدي مارا التي تعرف سر الماء والحياة، فيتبع آثارها حتى تتغيّر حياته، وإذا كانت يعقوب إذا ناصر تدور حكاياتهم بين البحر والجزيرة فإن هناك علاقة أخرى من نوع خاص، تنشأ مع "درويش" الخطاط المهووس بالكتابة، والذي يترك آثاره على الأحجار والأجساد على السواء، نتتبع حكايته ونتعرف على ما فيها من سحر مرتبط بذلك المكان وناسه منذ القدم، حتى نصل إلى الجد "مهنّا" الصيّاد منذ طفولته وعلاقته بالبحر واستكشاف ما فيه من أسرار وخبايا.
يبدو البحر على امتداد الرواية المطوّع وكأنه إله ذا سلطات استثنائية، يقهر أعداءه ويخطف أبناءهم، يقدمون له النذور والعطايا ويسعون إلى رضاه، كان ذلك حاضرًا في الماضي بقوة، وظن الناس أنه لن يكون كذلك بعد كل ما حدث، ولكن يبدو أنه لا يزال يحتفظ ببعض سلطانه وجبروته أحيانًا حتى اليوم
((البحر أخذهم ولن يعيدهم، اختفى الأسطول بمن فيه، وبكت هند دموعًا مالحة تحرق جلدها، تسرّب البحر في داخلها وغير ماءها، هذا ما قاله لها درويش وهو يقبّل فمها ذات ليلة: ريقك مالح كالبحر" البحر هو الوحيد الذي يجمع ويفرّق، حين رقّ قلبه، أخذ أمينة، ليجمعها إلى زوجها، ليلمّ شمل المحبّين، ولكنّ وعي البشر لا يمكنه فهم أفعال البحر ومشيئته))
لعل أجمل ما تقدمه الكاتبة في هذه الرواية هو ذلك التقاطع بين الماضي والحاضر، وتمكنها من سرد كل واقعة/حكاية من تلك الحكايات على حدة بشكلٍ مفصّل يجعل القارئ يتماهى معها تمامًا، بل وربما بشعر أن في كل حكاية منهم بذرة أو مسودة كامنة لرواية أخرى أكبر وحكايات أكثر، وهي في الوقت نفسه تسير بهدوء في تيار الرواية الأصلي، وتفتح من خلال شخصية ناديا وذاكرتها الخصبة أبوابًا ومسارب لتلك الحكايات شديدة الصلة بعالم الرواية وبنائها، سواء جاء ذلك من خلال ما تركه جدها أيوب لها من كتابات أو من خلال ذكرة جدتها "نجوى" التي تحضر بين الحين والآخر، وهو الأمر الذي يكسب الرواية في النهاية قدرًا كبيرًا من الجاذبية والتشويق.
وعلى امتداد الرواية يشعر القارئ بذلك الحنين الخاص للماضي، وللأصول والجذور، للطبيعة التي تنسحب من أمامنا بشتى الوسائل، ولا نملك في النهاية إلا أن نكون شهودًا على تلك المأساة، لعل كتابة كهذه تبقى، وتغيّر، وتتحول بشكلٍ سحري إلى تميمة إنقاذ لما تبقى من عالم البحر والبساطة والبراءة التي نفتقدها هذه الأيام.
شكرًا لليلى المطوّع على هذه الرواية المكتوبة بمهارة واضحة، وعلى هذا الجهد المبذول فيها من استخلاص أساطير البحر وحكايات الماضي وربط كل ذلك بما في الحاضر من آلام وآمال، ولاشك عندي أن هذه الرواية ستبقى طويلاً في نفوس قرائها، وستحظى بالعديد من القراءات النقدية التي تكشف المزيد من جمالياتها وفرادتها.
0 تعليقات